"لم يرد لفظ (دار الإسلام) و (دار الكفر) في الكتاب والسنّة وإنّما هذا مما ابتدعه الفقهاء ولا مستند لهم من الكتاب والسنّة".؟
والجواب: إنّ نسبة الدار إلى من يقيم بها عُرفٌ بشريٌّ يوجد في جميع لغات البشر، ويوجد هذا بكثرة في دواوين الأشعار الجاهلية التي هي المرجع في إثبات اللغة العربية الأصلية.
قال سيبويه: "وكل موضع حلّ به قومٌ فهو دارهم" [لسان العرب].
ويؤيد قوله الشعر العربي القديم المليء بذكر الديار والبكاء على الأطلال، بل إنّ ذكر دار الحبيبة في افتتاح القصيدة يكاد يكون أمراً متعارفاً عليه عندهم.
فلبيد بن ربيعة العامريّ يبتدئ قصيدته بذكر دار حبيبته، فيقول:
"عرفتُ الدار قد أقوت سنينا لزينب إذ تحلّ بِها قطيناْ"
وهذا كثيرٌ في الشعر العربي.
ومثال ما ورد في القرآن من نسبة الدار إلى من حلَّ بِها قوله تعالى: ﴿سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الأعراف: 145]. ولا خلاف في أنّ المراد بدار الفاسقين هو "دار الكافرين".
فمن أقرّ بصحة تسمية الأرض التي يغلب عليها الفاسقون "بدار الفاسقين" فبأي حجةٍ ينكر بها تسمية الدار التي يغلب عليها الكافرون "بدار الكافرين". وجاء في أخبار غزوة تبوك أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بديار "ثمود". وفي حديث زيارة القبور: "سلام عليكم دار قوم مؤمنين". فإذا ثبتت صحة نسبة الدار إلى من يسكنها أو تغلب عليها لغةً وشرعاً يبقى بيان الأدلّة من الكتاب والسنّة التي جعلت الفقهاء يقسمون الديار إلى ديار كفر وديار إسلام.
فأقول:
(أولاً) كثُر في القرآن ذكر القوم الكافرين أو الظالمين أو الفاسقين وكذلك تسمية القرية بالقرية الظالمة أو الكافرة .. وقد وصف القوم أو القرية بهذه الصفات مع وجود أنبياء ومؤمنين فيهم، فتبيّن أنّ هذا الوصف للقوّة الغالبة المختارة للكفر دون من بِها من المؤمنين المنكرين لما عليه الأغلبية المسيطرة .. وإليك أمثلة من ذلك:
قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنبياء: 77].
وقال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ﴾ [الأنبياء: 74].
وقال تعالى: ﴿إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ [النمل: 43].
وقال تعالى: ﴿رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: 21].
وقال تعالى: ﴿فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:250].
وبيّن القرآن كذلك أنّ الطبقة المترفة أصحاب الجاه والسلطان كانوا الدعاة إلى الكفر والبراءة من دعوة الرسل، فكان يتحقّق عليهم بسعيهم وصف الكفر والظلم والفسق .. فتبيّن أنّ الأمة إذا أطاعت أئمة ضلال في الكفر فإنّ لها حينئذ حكم الإمام الكافر ويصيبها ما أصابه إذا نزل عذاب الله.
فمن قال بعد ذلك إنّ القوم أو القرية لا حكم لها وإنّما الأحكام للأفراد، أو قال: إنّ الجماهير الضالّة المطيعة للطاغوت ناجية عند الله ولا إثم عليها، من قال هذا أو ذاك لا يكون إلاّ معارضاً لكتاب الله عزّ وجلّ .
(ثانياً) وجاء في الصحيح أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم كان يكتب إلى الملوك: "أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرّتين فإن تولّيتَ فإنّما عليك إثم الأريسيين".
وقد عُلم من سيرته صلّى الله عليه وسلم وكذلك خلفاؤه والأمراء من بعدهم أنّهم كانوا إذا صالحوا ملكاً واتّفقوا معه على عهدٍ تركوا له رعيته وحقنوا دماءهم بالعهد .. وإذا حاربهم ملك أو سيد قبيلة وظهروا عليه كانوا يستبيحون كل شيء في مملكته، ويكون ذلك غنيمة للمسلمين. ولم يكونوا يقولون: ما ذنب النساء والأطفال فإنّهم لم يقاتلوا ولم يكن لهم رأيٌ في الحرب والسلم .. وهدْيُ النبي صلّى الله عليه وسلم وخلفاؤه أكمل وأولى بالاتّباع.
ومن قال: أنا أُكفِّر الحُكّام ولا أتعرّضُ للعامة الراضية بحكمه فهو على غير السبيل. إنّ الحاكم والمحكوم شيءٌ واحدٌ في الإسـلام، والواقع يشهد على ذلك، فانظر إلى العامة حين يموت طاغيتهم ماذا تفعل؟؟ هل تعود إلى الله وتنقاد لأوامر الله؟ لا، ولكنّها تسارع إلى نصب طاغوت آخر يقودها إلى النار، وهذا واقع واضحٌ من تاريخ حياة المجتمعات قديماً وحديثاً.
(ثالثاً) أمر القرآن بالهجرة ونوّه بذكر المهاجرين في سبيل الله فما معنى: الهجرة في سبيل الله؟ إذا راجعتَ ما قيل عن الهجرة تجد أنّ أعظمها وأوجبها هي الهجرة من البلاد التي هي تحت غلبة الكفار وتجري عليها أحكامهم إلى البلاد التي تحت غلبة المسلمين وتجري عليها أحكام الإسلام.
فإن كان هذا أمراً متّفقاً عليه فلا ضير في تغاير الاصطلاحات والعبارات فإن شئت قلتَ: تجب الهجرة من دار الكفر أو دار الكافرين أو بلاد الكافرين أو أرض الكافرين أو قُرى الكفر إلى دار الإسلام أو دار المسلمين أو بلاد المسلمين أو أرض المسلمين أو قُرى الإسـلام .. لأنّ كلّ ذلك بمعنىً واحدٍ ومرادٍ واحدٍ.