ولما دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم قومه إلى الإيمان به وبما جاء به، كانت الحجّة قد قامت عليهم بمجرّد استماعهم للحقّ الذي يدعو إليه مع تباينهم في الفهم والاستجابة:
فقد كان منهم من بادر إلى الاستجابة وآمن به كالصّدّيق وخديجة وغيرهم.
وكان منهم من أدرك الحقّ وصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولكنّه استكبر وعاند كالوليد بن المغيرة وأبي جهل وأمثالهم الذين قال الله عنهم: ﴿فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: 33].
وكان منهم من يظنُّ أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعو إلى الضلالة والفساد، فإذا تبيّن له الحقّ يبادر إلى الإيمان كما هو ظاهرٌ من قصّة إسلام عمر بن الخطاب وعُمير بن وهب وأمثالهم. قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 6].
وكان منهم من لا يتعب نفسه في البحث عن الحقيقة، وإنّما كان هدفه في الحياة الإقبال على ما ينفعه في الدنيا. وهم الذين قال الله عنهم: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾ [الفرقان: 44].
وكان منهم مخدوعون اعتقدوا صدق رؤسائهم وكبرائهم فظنُّوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم شرّاً، وقال الله عنهم: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [النحل:25]
وقد كانت حجّة الله قائمة على الجميع من الأصناف الكافرة لسماعهم الحجّة القاطعة مع كون الله قد حال بينهم وبين الاهتداء بتلك الحجّة القاطعة الظاهرة.
قال الإمام محمّد بن عبد الوهّاب: "فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلا من شيء يعذر به فهو كافر كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن مع قول الله: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾ [الإسراء: 46]. وقوله: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ﴾ [الأنفال: 22]." [الرسالة الثالثة والثلاثون من رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهّاب – ص: 215]