(الخطأ العاشر) في الإعذار بالجهل جاء في الجواب: (وظنّ أنّ الجهل قد جعله الله عذرا ومانعا من التكفير، كما جعلتم الإكراه وانتفاء القصد عذرا، لاختلاط الأدلة عنده وتضاربها). والجوابُ:من المعلوم الذي لا يخفى على طالب الحقِّ، أنَّ بين الإعذار بالإكراه وانتفاء القصد، وبين الإعذار بالجهل فرقٌ ظاهرٌ. ومن سوَّى بينهما، وجعل الكلَّ أعذاراً تنفي عن المرء أن يُوصف بكُفرٍ وقع فيه، فإنَّما يُسوِّيْ بين ما بيَّنهُ اللهُ أنَّهُ عُذرٌ، وبين ما بيَّنهُ أنَّهُ ليس بعُذرٍ. فقد بيَّن اللهُ أنَّ الإكراه عُذرٌ مانعٌ للوصف بالكُفر في قوله تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (النحل: 106-107) قال إلإمام الطّبري: "فتأويل الكلام إذن: من كفر باللّه من بعد إيمانه، إلا من أكره على الكفر فنطق بكلمة الكفر بلسانه، وقلبه مطمئنّ بالإيمان، موقن بحقيقته، صحيح عليه عزمه، غير مفسوح الصّدر بالكفر، لكن من شرح بالكفر صدرا فاختاره وآثره على الإيمان وباح به طائعا، فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم." وقال: عن عليّ عن ابن عباس قوله:﴿إلاَّ مَنْ أكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بالإيمَانِ﴾ فأخبر الله سبحانه أنه من كفر من بعد إيمانه، فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم. فأمّا من أكره فتكلّم به لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه، فلا حرج عليه، لأن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم. (جامع البيان\النحل) وبيَّن اللهُ أنَّهُ لا يُؤاخذ الإنسان بالخطأ وسبق اللّسان، في قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ (الأحزاب:5) أمّا الجهلُ فإنَّهُ ليس عُذراً لفاعل الشركِ، وهذا يظهرُ لك من وجهين: (الأوّل) إنَّ المُشرك الجاهلَ ليس من أهلِ الآية الأولى، لأنَّهُ يفعلُ الشركَ مُختاراً، وليس بمُكرَه. وليس هو من أهلِ الآية الثّانية، لأنَّهُ يفعلُ الشّركَ على عمدٍ. (الثاني) أنَّ الله صرح بأنَّ الجهل كان صفةَ أهل الشركِ، فدلَّ ذلك أنَّ أهلَ الجهل من المشركين، كانُوا أكثرَ من أهلِ العلم والعناد. وإليك أدلّة القرآن: 1) ﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (الأعراف:30) قال الإمام الطّبري، في قوله تعالى:﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (الأعراف:30) "وهذا من أبين الدّلالة على خطأ من زعم أنّ الله لا يعذّب أحداً على معصية ركبها أو ضلالة إعتقدها إلّا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عناداً منه لربّه فيها، لأنّه لو كان كذلك لم يكن بين فريق الضّلالة الّذي ضلّ وهو يحسب أنّه مهتد وفريق الهدى فرقٌ، وقد فرّق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية" [جامع البيان]. 2) ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ (الكهف:104) يقول: هم الَّذين لم يكن عملهم الَّذى عملوه فى حياتهم الدّنيا على هدى واستقامة، بل كان على جور وضلالة، وذلك أنَّهم عملوا بغير ما أمرهم الله به، بل على كفرمنهم به ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ يقول: وهم يظنُّون أنَّهم بفعلهم ذلك لله مطيعون، وفيما ندب عباده إليه مجتهدون، وهذا من أدلّ الدّلائل على خطأ قول من زعم أنَّه لايكفر بالله أحدٌ إلامن حيث يقصد إلى الكفربعد العلم بوحدانيته، وذلك أنَّ الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الَّذين وصف صفتهم فى هذه الآية، أنَّ سعيهم الَّذى سعوا فى الدّنيا ذهب ضلالا، وقد كانوا يحسبون أنَّهم محسنون فى صنعهم ذلك، و أخبرعنهم أنَّهم هم الَّذين كفروا بآيات ربِّهم، ولوكان القول كما قال الَّذين زعموا أنَّه لايكفر بالله أحدٌ إلا من حيث يعلم، لوجب أن يكون هؤلاء القوم فى عملهم الَّذى أخبر الله عنهم أنَّهم كانوا يحسبون فيه أنَّهم يحسنون صنعه، كانوا مثابين مأجورين عليها، ولكنَّ القول بخلاف ما قالوا، فأخبر جلَّ ثناؤه عنهم أنَّهم بالله كفرة، وأنَّ أعمالهم حابطة" 3) ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (التّوبة:6) قال الطبري: ﴿ذلكَ بأنَّهُمْ قَوُمٌ لا يَعْلَمُونَ﴾"يقول: تفعل ذلك بهم من إعطائك إيّاهم الأمان، ليسمعوا القرآن، وردّك إيّاهم إذا أبوا الإسلام إلى مأمنهم، من أجل أنهم قوم جهلة لا يفقهون عن الله حجّة ولا يعلمون ما لهم بالإيمان بالله لو آمنوا وما عليهم من الوزر والإثم بتركهم الإيمان بالله". 4) ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ (الْبَيِّنَةُ :1). فسمّاهم مشركين قبل مجيء الرسُول. 5) ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (الأعراف: 172-173) قال القرطبي: "بمعنى لستَ تفعل هذا ولا عذر للمقلّد في التوحيد" [الجامع لأحكام القرآن]. وبعد هذا البيان أقُول:"أين الأدلَّة المتضاربة؟. وفي أيّ موضع بيَّن الله تعالى فيه أنَّ العابد لغيره معذورٌ بجهله؟".