(الخطأ السادس) في تكفير المشرك المنتسب: جاء في الجواب: (ومن ذلك تكفير المنتسب، فإذا لم يكُن تكفيره من أصل الدِّين بناء على تعريفكم فكيف لا يُعذرُ المُخطئ في عدم التكفير؟) والجوابُ: إنَّ هذا الخطأ كسابقه، سببُهُ فُقدان التصوُّر الصّحيح عن الإيمانِ، الَّذي قلنا أنَّهُ أصلُ الدّين. فقد ظنَّ صاحبُ الجواب، أنَّ قصْدَنا من قولنا: "أصلُ الدِّين هو: الإيمانُ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"، أنَّ التلفظ والإقرار بهذه الأصُول يكفِي، وأنَّ من أقرَّ بها فقد نجا في الدُنيا والآخرة. ولذلك استغربَ أنْ يُقالَ: "تكفيرُ المُشركِ من أصلِ الدِّين". ولابُدَّ إذاً من بيانٍ يُوضِّحُ ذلك. (أولا) إذا علمتَ أنَّ "توحيد العبادة" مطلوبٌ من أهلِ الشركِ، فاعلم أنَّ الله هو الَّذي فصَّل حدُود هذا "التّوحيد"، وشُرُوطه ولوازمهُ، وأنَّ ما أدخلهُ اللهُ في "التَّوحيد"، وجعلهُ تفسيراً لهُ، فهو من التَّوحيد المطلوب، وما كان من التَّوحيد فهو من الإيمان، ومن "أصل الدِّين". وإنَّما تُرك ذكرهُ في التعريف للعلم بأنَّهُ جُزءٌ من المذكُور فيه. وإليك الأمثلة: 1) من ادَّعى الإيمان بالتَّوحيد، ونطق بالشّهادتين، وأنكر المعنى المقصُود من شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأجاز عبادة الأصنام، يُقالُ إنَّهُ كافرٌ ولا شهادة له. ومع ذلك يجُوزُ القولُ -عند التّعريف- بأنَّ الإسلامَ هو "شهادة أن لا إله إلّا اللهُ وأنَّ محمدا رسُولُ الله"، بدون ذكر تركِ عبادة الأصنام، لدخُول ذلك في معنى التَّوحيد. وعلى ذلك من قال: "تركُ عبادة الأصنام من أصل الدّين"، لا يُقالُ لهُ: "أخطأتَ لأنَّك لم تذكرْ ذلك في التّعريف". 2) من ادَّعى الإيمان بالتَّوحيد، ونطق بالشّهادتين، ولكنَّهُ عادى النَّبي وحاربهُ، وأراد قتلهُ، يُقالُ إنَّهُ كافرٌ ولا شهادة له. ومع ذلك يجُوزُ القولُ -عند التّعريف- بأنَّ الإسلامَ هو "شهادة أن لا إله إلا اللهُ وأنَّ محمدا رسُولُ الله"، بدون ذكر تركِ عداوة النَّبي، لكون موالاة النَّبي والمؤمنين من لوازم الإيمان، وتُوجدُ ما وُجد الإيمان، فصارت المعاداةُ دليلا على انتفاء الإيمان والتّوحيد. وعلى ذلك من قال: "محبَّة النبيّ وتركُ عداوته من أصل الدّين"، لا يُقالُ لهُ: "أخطأتَ لأنَّك لم تذكرْ ذلك في التّعريف". 3) وكذلك من ادَّعى الإيمان بالتَّوحيد، ونطق بالشّهادتين، ولكنَّهُ توقف عن البراءة من أهلِ الشّرك وتكفيرهم، وقال: "أنا مسلمٌ، وهولاء مسلمُون مثلي وهم على ديني"، يُقالُ إنَّهُ كافرٌ ولا شهادة له. ومع ذلك يجُوزُ القولُ -عند التّعريف- بأنَّ الإسلامَ هو "شهادة أنْ لا إله إلا اللهُ وأنَّ محمدا رسُولُ الله"، بدون ذكر تكفير أهل الشّرك والبراءة منهم، لكون ذلك من التَّوحيد المطلوب. وعلى ذلك من قال: "تكفيرُ المُشركين من أصل الدِّين"، لا يُقالُ لهُ: "أخطأتَ لأنَّك لم تذكرْ ذلك في التعريف". (ثانياً) إنَّ أوّل ما يُطلبُ من أهلِ الشّرك، هو أنْ يتُوبُوا من الشّركِ، ويُخلصُوا العبادة لله. فإن أقرُّوا بالتَّوحيد بألسنتهم، وأبوا أنْ يترُكُوا الشّرك بالله، فليسُوا بمُؤمنين، ولا مسلمين. وإن أقرُّوا بالتَّوحيد بألسنتهم، وتركُوا الشّرك بالله، وأنكرُوا رسالة الرّسُول، أو الكتاب، أو الملائكة، أو اليوم الآخر، فليسُوا بمُؤمنين، ولا مسلمين. وإنْ أقرُّوا بكلِّ ذلك، وأبَوا البراءة من أهل الشرك، واعتقاد كفرهم فليسُوا بمُؤمنين، ولا مسلمين، لأنَّ الله تعالى جعل البراءة من أهل الشّرك، وتكفيرهم تفسيراً للتَّوحيد المطلوب. فمن لم يُكفِّر المُشركين لم يتبرَّأ منهم، ومن لم يتبرَّأ منهم، لم يكُنْ مُوحّداً، ومن لم يكُنْ مُوحّداً، لم يكُن مُؤمنا بالله. وأصلُ ذلك قوله تعالى:﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ (الممتحنة:4). قال الإمامُ الطبري في التفسير:وقوله: ﴿إذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ يقول: حين قالوا لقومهم الذين كفروا بالله، وعبدوا الطّاغوت: أيّها القوم إنا برآء منكم، ومن الذين تعبدون من دون الله من الآلهة والأنداد. وقوله: ﴿كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ العَدَوَاةُ والبَغْضَاءُ أبَدا حتى تُؤمِنُوا باللهِ وَحْدَهُ﴾ يقول جلّ ثناؤه مخبرا عن قيل أنبيائه لقومهم الكفرة: كفرنا بكم، أنكرنا ما كنتم عليه من الكفر بالله وجحدنا عبادتكم ما تعبدون من دون الله أن تكون حقا. وظهر بيننا وبينكم العدواة والبغضاء أبدا على كفركم بالله، وعبادتكم ما سواه، ولا صلح بيننا ولا هوادة، حتّى تؤمنوا بالله وحده، يقول: حتّى تصدّقوا بالله وحده، فتوحّدوه، وتفردوه بالعبادة. ـ اهـ وقال الإمامُ ابنُ كثير في تفسيره:يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِىۤ إِبْرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ﴾ أي: وأتباعه الذين آمنوا معه. ﴿إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَٰۤؤُا مِنكُمْ﴾ أي تبرّأنا منكم. ﴿وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ﴾ أي: بدينكم وطريقكم. ﴿وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَٰوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ أَبَدًا﴾ يعني وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم، مادمتم على كفركم فنحن أبداً نتبرأ منكم ونبغضكم. ﴿حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ﴾ أي: إلى أن توحّدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد. ـ اهـ ـ