(جـ) الرّسالة الثّانية من حسان بن حسين الحمد لله وبه نستعين على أمور الدين والدنيا والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصحبه. أما بعد: فقد اطلعت على الجواب المتعلق بالأصول الأربعة وأظنّ أني وقفت على رأيكم فيها ولي على الجواب ملحوظات ألخصها على النحو الآتي: الأولى: لا نزاع في تكفير بعض المنتسيبن إلى الإسلام. اتفق الناس على أن بعض الطوائف المنتسبة ليسو بمسلمين بالإجماع، يقول الإمام ابن حزم رحمه الله: «وقد تسمى بالإسلام من أجمع جميع فرق الإسلام على أنه ليس مسلما مثل طوائف من الخوارج غلوا فقالوا: إن الصلاة ركعة بالغداة وركعة بالعشي فقط. وقالوا: إن سورة يوسف ليست من القرآن. وطوائف كانو من المعتزلة ثم غلوا فقالوا بتناسخ الأرواح. وآخرون قالوا: إن النبوة تكتسب بالعمل الصالح. وآخرون قالوا: قد يكون في الصالحين من هو أفضل من الأنبياء. وأن من عرف الله حق معرفته فقد سقطت عنهم الأعمال والشرائع. وقال بعضهم: بحلول الباري تعالى في أجسام خلقه كالحلاج وغيره ». الفصل في الملل والنحل: ٢/١١٤ وقال سعد الدين التفتازاني مسعود بن عمر(٧٩٣هـ) رحمه الله: «لا نزاع في كفر أهل القبلة المواظب طول العمر على الطاعات باعتقاد قدم العالم ونفي الحشر ونفي العلم بالجزئيات ونحو ذلك.وكذا بصدور شيء من موجبات الكفر عنه ». شرح المقاصد:٣/٤٦١). وقال السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني(٨١٦هـ) رحمه الله: «إذا فتشنا عقائد فرق الإسلاميين وجدنا فيها ما يوجب الكفر قطعا كالعقائد الراجعة إلى وجود إله غير الله سبحانه وتعالى أو إلى حلوله في بعض أشخاص الناس أو إلى إنكار نبوة محمد عليه السلام أو إلى ذمه واستخفافه أو إلى استباحة المحرمات وإسقاط الواجبات الشرعية ». شرح المواقف:٨/٣٧٥) وما اشتهر من أن عقيدة أهل السنة عدم تكفير أهل القبلة بالذنوب فإنما يعني المعاصي ردا على الوعيدية في تكفيرهم أهل الكبائر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ونحن إذا قلنا : أهل السنة متفقون على أنه لا يكفر بالذنب، فإنما نريد به المعاصي كالزنا والشرب، وأما هذه المباني ففي تكفير تاركها نزاع مشهور ».مجموع الفتاوى:٧/٣٠٢). والتحقيق أن أهل القبلة هم الذين لا يقعون في مكفِّر مثل إنكار ضروريات الدين والمسائل القطعية أو الإشراك بالله سبحانه لا من يتوجه إلى القبلة، كما قال تعالى:(ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر) الآية. فمن أنكر ضروريات الدين أو أشرك بالله الشرك الأكبر لم يبق من أهل القبلة ولهذا قال جماعة من أئمة السلف كعبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط: الجهمية والرافضة ليسوا من فرق المسلمين ومن أمة محمد صلى الله عليه وسلم. فالمقصود بأهل القبلة هم المسلمون الباقون على حظيرة الإسلام وليس عبارة عن المصلين إلى القبلة بل هي عبارة عن المؤمنين بالله. وقال بعض الفقهاء: أهل القبلة من يصدّق بضروريات الدين أي الأمور التي علم ثبوتها في الشرع واشتهر فمن أنكر شيئا من الضروريات كحدوث العالم وحشر الأجساد وعلم الله بالجزئيات وفرضية الصلاة والزكاة والصوم والحج لم يكن من أهل القبلة ولو كان مجاهدا بالطاعات.وكذلك من باشر شيئا من أمارات التكذيب كالسجود للصنم والإهانة بأمر شرعي والإستهزاء عليه فليس من أهل القبلة.[شرح المقاصد لسعد الدين التفتازاني:٣/٤٦١) إكفار الملحدين في ضروريات الدين ص ١٥-١٨) وشرح المواقف للجرجاني:٨/٣٧٥] والمقصود من عدم تكفير أهل القبلة عند أهل العلم: أن لا يكفّر بارتكاب المعاصي ما لم يستحلها ولا بالمسائل الإجتهادية، ويدخل في هذا عدم تكفير المجتهدين في المسائل الخلافية التي تعارضت فيها الأدلة. وأصل المسألة مأخوذة من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من أصل الإيمان:الكف عمن قال لا إله إلا الله ولا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجالَ لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل والإيمان بالأقدار».أخرجه أبو داود في السنن رقم (٢٥٣٢) من كتاب الجهاد. وفي سننه يزيد بن أبي نشبة وهو مجهول وبه أعله المنذري وعبد الحق الإشبيلي والحافظ ابن حجر.وقال الإمام أحمد بن حنبل: «حديث موضوع لا أصل له. كيف بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: من ترك الصلاة ققد كفر». الجامع لأبي بكر الخلال:٢/٥٣٥). وأما ابن الجوزي فقد سرد أحاديث الباب ثم قال: «هذه الأحاديث كلها لا تصح»ثم فصل في ذلك العلل المتناهية:١/٤١٨–) والحديث على ضعفه محمول على وجهين عند أهل العلم: الأول: الكف عن أهل الكفر الأصلي إذا قالوا لا إله إلا الله وهذا مجمع عليه على تفصيل في ذلك عند الفقهاء. الثاني: عدم التكفير بالمعاصي والكبائر وهو أولى من الأول فقد جاء حديث واثلة من الأسقع مرفوعا: «لا تكفّروا أهل ملتكم وإن عملوا بالكبائر وصلّوا على كل ميّت من أهل القبلة». وفي حديث أبي الدرداء مرفوعا: «لا تكفّروا أحدا من أهل قبلتي بذنب وإن عملوا الكبائر وصلوا خلف كل إمام وجاهدوا مع كل أمير» الحديث. ولهذا قال العلامة محمد أنور الكشميري: «فجاء الجاهلون أو الملحدون فوضعوها في غير موضعها وأصل هذه الأحاديث في طاعة الأمير والنهي عن الخروج ما صلوا كما عند مسلم وغيره وهو مقيد عنده وعند آخرين بقوله: «إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان». إكفار الملحدين في ضروريات الدين (ص٢١) . والخلاصة: أن هذه القاعدة في الذنوب والمعاصي غير الكفرية وفي المسائل الإجتهادية. وضروريات الدين منحصرة في ثلاثة: 1. مدلول الكتاب بشرط أن يكون نصا صريحا لا يحتمل التأويل القريب كتحريم الأمهات والبنات وتحريم الخمر والميسر وصفات الله العلية كالعلم والقدرة والإرادة والكلام ونحو ذلك. 2 . مدلول السنة المتواترة لفظا أو معنى سواء كان من العلميات أو العمليات وسواء كان فرضا أو نقلا كالجمعة والآذان والعيدين ووجوب محبة أهل البيت ونحو ذلك. 3 . المجمع عليه إجماعا قطعيا كخلافة الصديق والفاروق وقتال مانعي الزكاة ونحو ذلك. وقد تعرف الضروريات بأنها المسائل التي يشترك في معرفتها العامة والخاصة. وقبل الخوض في الكلام ينبغي ذكر الأصول التي أطلق منها في مسألة الكفر والتكفير لأنها مردّ الجزئيات وأعيان المسائل. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات فيتولد فساد عظيم». منهاج السنة (٣/٢٥١) الأصل الأول: نرى أن الكفر مدركه شرعي فالكفر ما جعله الله ورسوله كفرا، والكافر من كفّره الله ورسوله خلافا لأهل البدع والأهواء القائلين بأنه حكم عقلي فما دل عليه العقل أنه كفر يكفّر به، وما لا فلا. الأصل الثاني: نرى أن الكفر يؤخذ من حيث تؤخذ الأحكام الشرعية الأخرى فيؤحذ من دليل الكتاب سواء كان قطعي الدلالة أو ظني الدلالة، ومن دليل السنة النبوية الثابتة سواء كان قطعية الثبوت والدلالة أو ظنية الثبوت والدلالة، أو قطعية الثبوت ظنية الدلالة أو العكس، والإجماع والقياس على المنصوص. ولهذا انقسم الكفر إلى نوعين متفق عليه ومختلف فيه، فمن المتفق عليه: الشرك بالله وجحد المعلوم من الدين بالضرورة كجحد وجوب الصلاة والصوم والزكاة والحج ونحو ذلك وإلقاء المصحف في القاذورات وجحد البعث والنبوات. ومن المختلف فيه: ترك الصلاة والسحر والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك. يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله: «إن الكفر حكم شرعي كالرق والحرية مثلا إذ معناه إباحة الدم والحكم بالخلود في النار، ومدركه شرعي فيدرك إما بنص وإما بقياس على منصوص». (فيصل التفرقة بين الزندقة والإسلام: ص:٤٧، ٨٩-٩٠) و(بغية المرتاد لابن تيمية ص: ٣٤٥) ولهذا قد يكون دليل الكفر والتكفير ظنيا كأخبار الآحاد وقد يكون قطعيا. ولا نرى اشتراط القطع واليقين في دليل الكفر والتكفير خلافا لأهل البدع من الجهمية والمعتزلة والأشعرية وأكثرالمتكلمين ومن تأثر بهم وإن انتسب إلى السلف فهذان أصلان. الأصل الثالث: أدلة وقوع الكفر وهي الأسباب الموجبة للكفر وحصول الشروط وانتفاء الموانع قد تكون ظنية وقد تكون قطعية، فقد تكون أقوال المرء وأفعاله دالة على المدلول على سبيل الظن أو القطع. يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله: «ولا ينبغي أن يظنّ أن التكفير ونفيَه ينبغي أن يدرك قطعا في كل مقام، بل التكفير حكم شرعي يرجع إلى إباحة المال وسفك الدم والحكم بالخلود في النار، فمأخذه كمآخذ سائر الأحكام الشرعية». (فيصل التفرقة، ص: ٨٩-٩٠). وقال العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله: «..وقد جرى العلماء في الحكم بالردة على أمور، منها ما هو قطعي، ومنها ما هو ظني، ولذلك اختلفوا في بعضها ولا وجه لما يتوهمه بعضهم أنه لا يكفر إلا بأمر مجمع عليه.. وكذلك من تكلم بكلمة كفر وليست هناك قرينة ظاهرة تصرف تلك الكلمة عن المعنى الذي هو كفر إلى معنى ليس بكفر فإنه يكفر، ولا أثر للاحتمال الضعيف أنه أراد معنى آخر». (كتاب العبادة، ص٥٦٥). الأصل الرابع: وكذلك أدلة الحجاج وسائل الإثبات التي يقضي بها القضاة والحكام قد تكون ظنية وهو الغالب مثل الشهادة والاعتراف. قال العلامة المعلمي اليماني رحمه الله: «..إن مدار الحكم الظاهر على الأمر الظاهر، ولذلك في ثبوت الردة شاهدان فلو شهدا أن فلانا مات مرتدا وجب الحكم بذلك فلا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين ويعامل معاملة المرتد في جميع الأحكام..». المصدر السابق (ص٥٦٥). قد تكون قطعية أيضا وهو قليل. الأصل الخامس: الأصل فيمن وقع في الكفر من العاقلين الكفر لقيام السبب والأصل ترتيب الأحكام على أسبابها إلا لمانع. وإذا قام السبب فلا يخرج الحال من ثلاثة: الأول: أن يظنّ المكفِّر وجودَ المانع؛ فلا يجوز له التكفير لأن أثر المانع يضادّ أثر السبب. وهذا لا نزاع فيه من حيث الجملة. الثاني: أن يظن أو يعلم عدم المانع فيلزم التكفير لقيام السبب بدون معارض ولا خلاف فيه أيضا على الجملة. الثالث: أ لاّ يظنّ عدم المانع أو وجوده مع احتمال العدم والوجود فنرى في هذه الصورة: جواز العمل بالمقتضى لعدم المعارض وعدم وجوب البحث عن المانع. ومع ذلك لا يخفى علينا أن الأحكام الشرعية تنقسم إلى ما يفتقر إلى حكم حاكم وإلى ما يكتفى فيها بالسبب وأن أسباب الافتقار ثلاثة كما هو معلوم عند اهل العلم. الأصل السادس: أما المكفِّر فهو كل من له علم بما يكفّر به، ومنهم العامي في المسائل المعلومة من الدين بالضرورة، وفي المسائل التي استوعبها إذ لا مانع من ذلك شرعا، والشرط العلم والعرفان. الأصل السابع: أما المكفَّر فيصح ارتداد العاقل المختار وإن لم يكن بالغا وهو مذهب جمهور أهل العلم. يقول ابن تيمية رحمه الله: «كفر الصبي المميِّز صحيح عند أكثر العلماء، فإذا ارتد الصبي المميز صار مرتدا، وإن كان أبواه مؤمنين ويؤدب على ذلك باتفاق العلماء أعظم مما يؤدب على ترك الصلاة لكن لا يقتل في شريعتنا حتى يبلغ». (درء التعارض، ٥/٣٦٣). وقال ابن القيم رحمه الله: « كفر الصبي المميِّز معتبر عند أكثر العلماء فإذا ارتد عندهم صار مرتدا له أحكام المرتدين وإن كان لا يقتل حتى يبلغ فيثبت عليه كفره، واتفقوا على أنه يضرب ويؤدب على كفره أعظم مما يؤدب على ترك الصلاة». (أحكام أهل الذمة: ٢/١٠٤٤). فالصبي المميز تجري عليه أحكام المرتدين من انفساخ النكاح والمنع من الميراث وعدم الدفن في مقابر المسلمين.. إلا أنه لا يقتل عند الأكثر فأجّلوا العقوبة إلى حين البلوغ تبعيضا للأحكام لاختلاف المدارك عندهم. ورأت طائفة جريان أحكام البالغين عليه في الإسلام والردة والحدود والكلام في الأحكام الدنيوية. قال الفقيه عثمان بن مسلم البتي (١٤٣هـ) رحمه الله: «إرتداده ارتداد وعليه ما على المرتد ويقام عليه الحدود وإسلامه إسلام». وقال الإمام ابن مفلح رحمه الله: «وفي الروضة: تصح ردة ممّز فيستتاب، فإن تاب، وإلا قتل وتجري عليه أحكام البلّغ ». الأصل الخامس: ونعتبر عند التكفير ما يعتبره أهل العلم من الشروط والموانع كالعقل والاختيار وقصد الفعل، والتمكن من العلم، وفي الموانع: الجنون والإكراه والخطأ والجهل في موضعه. بعد هذه الخطوط العريضة في أصل المسألة انتقل إلى الملحوظات العليمة. الثانية: أصل الدِّين الذي لا يعذر فيه أحد بحهل أو تأويل الدين: هو ما يدخل به المرأ في الإسلام (الشهادتان) وما يدخل في معنى الشهادتين، وما لا يدخل في معنى الشهادتين لا يدخل في أصل الدين الذي لا عذر فيه لأحد إلا بإكراه أو انتفاء قصد، فمن قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله مع الشروط اللازمة نحكم له بالإسلام ثم نعرض عليه الواجبات اللازمة كما جرت عليه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم. والمقصود: الفرق بين ما يحصّل الإيمان وبين ما يبطل الإيمان وكان عليه السلام يعرض عليهم عند الدخول في الإسلام ما يحصل به أصل الإيمان دون ما يبطله ألا ترى أنه لا يبين لهم ما يوجب الردة ويبطل الإيمان مثل إلقاء المصحف في القاذورات وتبديل معاني الآيات ونحو ذلك مما يوجب الردة ولم يبين لمن كان يأتيه يسلم شيئا من ذلك لإن المقصود حاصل بمعرفة الأركان دون المفسدات ونظيره من الفقه أنه يشترط في إمام الصلاة معرفة أركانها وشروطها دون مفسداتها وموانعها وهذا المعنى مقرر في كتب الأصول عند بيان ما يدخل في ماهية الإسلام. وأما أنتم فقد ذكرتم أن أصل الدين الذي لا يعذر أحد فيه بجهل أو تأويل هو: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر كما في (ص٤-٥). ومفهوم النص: أن ما سوى الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر يعذر فيها الجاهل أو المتأوّل، ويتوجه عليه اعتراضات: الأول: هذا حكم بأن ما سواها ليس من أصل الدين فيصحّ إسلام المرء بدونها وإن كانت من الإيمان الواجب ومن ذلك تكفير المنتسب فإذا لم يكن تكفيره من أصل الدين بناء على تعريفكم فكيف لا يعذر المخطئ في عدم التكفير؟ الثاني: إذا أسلم الحربي في دار الكفر فشهد لله بالتوحيد ونبيّ الله بالرسالة ودين الحق ولم يعرف الملائكة يقتضي أصلكم أن لا يعذر بالحهل ولا يحكم له بالإسلام ! الثالث: إذا لم يعرف حديث العهد بالإسلام المعاد الأخروي فهل يعذر بالجهل؟ مع أن أصلكم يقتضي أن لا يصح له إسلام حتى يعرف المعاد الأخروي. الثالثة: تكفير المشرك المنتسب للإسلام. ذكرتم أن تكفير المشرك المنتسب وهو المظهر للإسلام واتباع الرسول مع تلبسه بالكفر الأكبر من أصل الدين الذي لا يعذر فيه أحد فمن لم يكفّره فهو كافر، وهذا نص قولكم: «إن تكفير المشرك سواء انتسب إلى الإسلام أو لم ينتسب إليه هو من أصل الدين الذي لا عذر لأحد فيه لأن من لم يعرف الكفر لم يعرف الإيمان، فإن الذي وحّد الله وترك الشرك إذا اعتقد أن العابد لغير الله مسلم موحّد لم يعرف التوحيد وان ادعاه». ونص العبارة يفيد أن تكفير المظهر للإسلام المدعي لاتباع الرسول المتلبس بالشرك من أصل الدين الذي لا عذر لأحد فيه فمن نقضه فهو كافر ناقض لأصل الدين. وجعلتم علة التكفير أنه لا يعرف معنى التوحيد ولا معنى الكفر وإن ادعاه ! وهذا التحرير يناقض التقرير الأول؛ حيث ذكرتم أنّ أصل الدّين الذي لا عذر لأحد فيه هو: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولم تدرجوا تكفير المنتسب فيه ثم ذكرتم لاحقا أنه من أصل الدين الذي لا عذر لأحد فيه وهذا يتطلب منكم التوفيق والجمع هذا أولا. وثانيا: عامة علماء المسلمين على أن النافي للشيء عليه الدليل على ما ينفيه كما أن المثبت للشيء عليه الدليل على ثبوته ولا ينبغي أن يشتبه النافي بالمانع المطالب، والمقصود: أنكم نفيتم معرفة التوحيد ومعرفة الكفر عن من لم يكفر المشرك المنتسب فأنتم مطالبون بالدليل المثبت للنفي في المسألتين. وثالثا: أشدّ النّزاع ليس في تكفير العابدين لغير الله والمشركين به وإنما في تكفير الذي لم يكفّرهم لقيام مانع أو انتفاء شرط عنده مع تقريره أن هذا الفعل شرك أكبر، ومن يفعله فهو كافر.. ولكن تكفير الأعيان والطوائف يحتاج إلى شروط وموانع. وإلى الآن لم تقيموا دليلا على أن تكفير المنتسب من أصل الدين الذي لا عذر فيه لأحد بجهل أو تأويل وأن من خالفكم فيه فهو كافر ناقض لأصل الدين ولا أظن أنكم تقدرون إقامة الدليل على هذا. وأما ما ذكرتم من أنه لا يعرف الكفر ولا يعرف التوحيد فدعوى عارية عن الدليل وأنتم مطالبون قبل كل شيء بتصحيح الدعوى لأن هذا يقرّ: أن ما تفعله القبورية وأمثالهم كفر وشرك وفاعله من غير عذر مشرك كافر بالله العظيم، ولا يقول: إن المشرك موحّد ولكن يقول: إن هذا مع تلبّسه بالشرك يعذر بالجهل، ولا يكفّر ولا يعامل معاملة الكافرين. وظنّ أن الجهل قد جعله الله عذراً ومانعاً من التكفير، كما جعلتم الإكراه وانتفاء القصد عذراً، لاختلاط الأدلة عنده وتضاربها، أو لعلّه يقيس الشرك على الكفر الأكبر. هذا هو محور المسألة وقطب رحاها.. = فهل هذا الرجل يكفّر المشركين؟.. الجواب: نعم. = وهل امتناعه عن التكفير هو في عموم من يفعل الشرك، أم في بعض الأعيان؟.. الجواب: في بعض الأعيان. = وهل علّة امتناعه عن التكفير هو اعتقاده أن من عبد غير الله مسلم ؟ الجواب: لا، إنما لأنه يظنّ أن الله تعالى يعذر مثل هذا بالجهل ، كما يعذره بالإكراه أو انتفاء القصد. فهو لا يرى الشرك إسلاماً.. ولا يرى المشرك مسلماً.. إنما يرى أن حُكم الشرك يُرفع عن من وقع فيه إن كان جاهلاً ، كما يُرفع عن المُكره والمخطئ. فهذا الرجل يقول: أنا أعلم أن هذا الفعل شرك أكبر، وأن عابد غير الله كافر مشرك، ولكن عندي دليل من القرآن والسنة أنّ الله لا يؤاخذ الجاهل، فأنا أتّبع هذا الدليل كما أمر الله، ولا أكفّره حتى تقوم عليه الحجة الشرعية . – هل تصور هذا الرجل صحيح؟ .. أم أنّ لديه قصورا في التصور؟.. الجواب: لديه قصور، ولا يمكن تكفيره حتى يُبيّن له وجه خطئه، كأي صاحب خطأ أو بدعة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فالتكفير يختلف بحسب اختلاف حال الشخص، فليس كل مخطئ ولا مبتدع، ولا جاهل ولا ضال، يكون كافرًا، بل ولا فاسقاً، بل ولا عاصيا، لا سيما في مثل مسألة القرآن، وقد غلط فيها خلق من أئمة الطوائف، المعروفين عند الناس بالعلم والدين وغالبهم يقصد وجها من الحق فيتبعه، ويعزب عن وجه آخر لا يحققه، فيبقى عارفاً ببعض الحق جاهلا ببعضه، بل منكرًا له» مجموع الفتاوى:١٢/١٨٠-). وهذا الرجل الذي قصد وجها من الحق فاتبعه، وغاب عنه الوجه الباطل للمسألة، فحكم على الشيء بما عرف من الحق ، فأخطأ الحكم ، وأخطأ الاسم المترتب على هذا الحكم. فكيف يكفر مثل هذا وخلافنا معه في تنزيل الحكم الشرعي لا أكثر؟ ونزاعكم مع أكثر المخالفين والرادين عليكم مثل التيارات السلفية الجهادية وغيرهم في مسألة الاسم المرتّب على الوصف أعني تنزيل الحكم على الأعيان لا في توصيف الفعل والحكم عليه بالكفر والشرك، والمسألة تحتاج منكم إلى تحرير ونظر ثافب وورع شديد فإنكم على غير يقين مع أنكم كفّرتم من أجلها جميع المخالفين لكم في تنزيل الحكم على المعين. هذا وقد اشتهر اختلاف السلف الصالح من التابعين في تكفير الحجاج بن يوسف وقد كان كافرا بالله مؤمنا بالطاغوت ولم يكفّر بعضهم بعضا في عدم تكفير الحجاج. 1-ن الحجاج يرى أن الخليفة مثل عبد الملك بن مروان أكرم من رسول الله عليه الصلاة والسلام على الله. 2-ان يرى أن طاعة الأمراء واجبة في كل شيء بلااستثناء ومن خالف فهو حلال الدم والمال. 3-كان يقول: لو أمرت الناس أن يخرجوا من باب المسجد فخرجوا من باب آخر لحلّت لي دماؤهم وأموالهم. 4-كان يقول: لو أخذت ربيعة بمضر لكان ذلك لي من الله حلالا. 5-ان يقول أن القرآن في قراءة عبد الله بن مسعود ما هو إلا رجز من رجز الأعراب ما أنزل الله عز وجل على نبيّه صلى الله عليه وسلم.وأنه لو أدرك عبد الله بن مسعود لاستباح دمه. ولهذا لما اختلف الناس في أمره سألوا الإمام مجاهدا عنه فقال: «تسألوني عن الشيخ الكافر»؟ وقال الإمام الشعبي لعمر بن قيس الماصر: «يا عمر شمّرت ثيابك وحلّلت إزارك وقلتَ: إن الحجاج مؤمن ضال فكيف يجتمع في رجل إيمان وضلال؟ الحجاج مؤمن بالجبت والطاغوت كافر بالله العظيم». وفي رواية: «أشهد أنه مؤمن بالطاغوت كافر بالله يعني الحجاج». [سنن أبي داود رقم: ٤٦٤١-٤٦٤٥]. [الإيمان لابن أبي شيبة ٩٧] و[حديث الزهري أبي الفضل ٢٧٣-٢٧٦] و[تاريخ ابن عساكر٤/٢٤٩-٢٥٠] و[٤/٢٣٥-٢٣٦]. الرابعة: تكفير المسلم خطأ مثل الحكم بإسلام الكافر خطأ. قد يكفّر المسلم بعض المؤمنين بالله على الحقيقة لقيام سبب التكفير عنده كتكفير بعض الصحابة لمالك بن الدخشم، وتكفير عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة، وتكفير معاذ بن جبل للأنصاري ونحو ذلك. وقد يفسّقه أو ينفّقه مع أن المكفَّر ليس بكافر في نفس الأمر، وقد أجمع المسلمون أن من كفّر بعض المسلمين لتأويل يحتمل أنه ليس بكافر. وقد يختلفون في التكفير مثل قول بعضهم: يجب إكفار القدرية والجاحظ ومعمر والكعبي والأصم وجماعة من الروافض كهشام بن الحكم وإكفار شيطان الطاق والكيسانية، وقال: ويجب إكفار الروافض في قولهم برجعة الأموات إلى الدنيا، وبتناسخ الأرواح وانتقال روح الإله إلى الأئمة، وأن الأئمة آلهة، وبقولهم إن جبريل غلط في الوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم دون علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبقولهم في خروج إمام باطن، وبتعطيلهم الأمر والنهي إلى أن يخرج الإمام الباطن، وهؤلاء القوم خارجون عن ملة الإسلام وأحكامهم أحكام المرتدين. وقال: ويجب إكفار الخوارج في إكفارهم جميع الأمة سواهم، وفي إكفارهم علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وطلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم. ويجب إكفار من قال منهم بجواز نكاح بنات البنين وبنات البنات وبنات الإخوة والأخوات. قال: ويجب إكفار الجهمية بل نقل بعضهم الإجماع، وإكفار النجارية والكرامية المجسمة، وإكفار المجبرة الذين لم يروا للعبد فعلا أصلا لأنه إنكار لنص القرآن في إثبات أفعال العباد إلخ. واختلف الناس في تكفير تارك الصلاة والساحر والمفتري على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكفير الصبي المميّز والسكران وتكفير الجاهل بمعنى الكلمة مثل سب الله، وفي تكفير من أصرّ على خمر غير مستحل في دار الإسلام أو لحم خنزير من غير ضرورة إلى مسائل يطول تعدادها. وقد يُحكم بإسلام المشرك المنتسب لقيام مانع من التكفير مثل الجهل عند من لم يكفّره؟ ونظير المسألة: 1-أن من ظنّ بشخص أنه يهودي أو نصراني فقال له يا كافر؛ فإنه لا يلزم منه كفر واحد منهما 2-ذلك من ظنّ بشحص أنه مسلم فقال له: يا مسلم، وهو يهودي أو نصراني فإنه لا يلزم كفره بالإجماع، والمانع من تكفيره الظن. وأما التفصيل الذي ذكرتم(ص٨) فلم تقيموا عليه دليلا بل هو من باب التقدير والتخمين الذي لا يقوم في سوق النقد فأتوا بفرق بيّن بين تكفير المسلم لتأويل أو لجهل، وبين الحكم بإسلام الكافر المنتسب للعلة ذاتها فرقا تقوم به الحجة يوم يقوم الناس لرب العالمين. ومع ذلك الأصل أن لا يعذر المكفِّر للمسلم لأن تكفير المسلم من باب المنهيات، وتكفير الكافر من باب المأمورات، لأن التكفير جنس منقسم إلى مأمور به ومنهي عنه، والمأمور به يختص بقيود وشروط ، ويعم المنهي عنه كل ما دخل في اللفظ أو المعنى كالسجود لله والسجود للشمس والقمر. وعلى أي فمن أعذر في تكفير المسلم خطأ يلزمه أن يعذر من لم يكفّر الكافر المنتسب لخطأ أو لعدم التصور الصحيح من باب أولى وإلا فليأت ببرهان تقوم به الحجة. وأما من كفّر مسلما:"بغضا لتوحيده وظنا منه أن التوحيد كفر فهذا لا شك في كفره لجهله التوحيد وبغضه له". فلم يكفر بتكفير للمسلم وإنما للجهل بالتوحيد والبغض له وهذا مناط آخر غير ما نحن فيه. وأما من كفّر مسلما:"بغضا لذنبه وظنا منه أن الذنوب تخرج أصحابها من الملة كما فعلت الخوارج" فلم تحكموا عليه بالكفر بالإطلاق بل جعلتم ظنه مانعا من تكفيره ابتداء حتى تقام عليه الحجة مع أن عموم الحديث يتناوله: «أيما رجل مسلم أكفر رجلا مسلما فإن كان كافرا وإلا كان هو الكافر» . فما الذي جعل ظن الخوارج وتأويلهم غير السائغ مانعا من تكفيرهم عند جماهير المسلمين ولم يجعل ظنّ هذا الرجل (محل النّزاع) الذي حكم بإسلام المشرك المنتسب مانعا من تكفيره؟ فأتوا بالبرهان على الفرقان ولكم منا جزيل الشكر. وأما ما ذكرتم من أن من كفّر مسلما بدرت منه بعض علامات النفاق فهو مجتهد لا يكفّر كما فعل عمر بن الخطاب فهو تحكم من غير دليل وإلا فما هو الفرق بين الظنون والتأويلات أعني الفرق بين من ظنّ بإسلام كافر في الحقيقة فحكم به، وبين من ظنّ بكفر مسلم على الحقيقة؟ وذكرتم أيضا أن من اعتقد إسلام الكافر ببدعته جهلا لبدعته الكفرية لا يكفّر حتى تبيّن له الحقيقة.وهذا من الغرابة بمكان ذلك؛ أنكم أعذرتم هذا لجهله بحقيقة المسألة ولم تعذروا المحل المتنازع فيه بجهله لحقيقة المسألة ! بل اعتبرتم جهله بالمسألة نقضا لأصل الدين. الخامسة: ذكرتم (ص٩) أن ابن الزبير أفتى بقتل زوجة المختار بن أبي عبيد التي لم تتبرّأ منه وهي عمرة بنت النعمان بن بشير وعزوتم ذلك إلى البداية والنهايه لابن كثير (حوادث سنة ٦٧هـ). والغريب استشهادكم لهذه القصة في تكفير من لم يكفر المشرك المنتسب أو لم يتبرأ منه مع أنه ليس في القصة ما ترمونه ذلك أن الذي في البداية والنهاية: ٨/٣١٨: «..وقد سأل مصعب أم ثابت بنت سمرة بن جندب امرأة المختار عنه فقالت: ما عسى أن أقول فيه إلا ما تقولون أنتم فيه، فتركها . واستدعى بزوجته الاخرى ، وهي عمرة بنت النعمان بن بشير ، فقال لها : ما تقولين فيه ؟ فقالت : رحمه الله ، لقد كان عبداً من عباد الله الصالحين، فسجنها. وكتب إلى أخيه إنها تقول إنه نبي، فكتب إليه أن أخرجها فاقتلها، فأخرجها إلى ظاهر البلد فضربت ضربات حتى ماتت.» وصريح النص أن هذه المرأة قد قتلت لإيمانها بنبوة المختار الثقفي وبذلك يسقط الاستدلال بهذه الرواية. السادسة: ذكرتم (ص٩) في سياق الاستشهاد بكلام العلماء مقولة ابن تيمية رحمه الله في الحلولية الاتحادية:«ومن كان محسنا للظن بهم وادعى أنه لم يعرف حالهم عرّف حالهم فإن لم يباينهم ويظهر لهم الإنكار وإلا ألحق بهم وجعل منهم» مجموع الفتاوي ٢/١٣٣. وكلام الشيخ رحمه الله غير ما نحن فيه لأن إحسان الظن بهم اقتضاه الجهل بالحال لأن من جهل حالهم أحسن الظن فيهم، وأما من عرف حالهم فلا يحسن الظن فيهم إلا لجهل آخر. وأما مسألتنا فإن هذا الرجل الذي لا يكفّر المشرك المنتسب يعرف حالهم ويحذر منهم ومن شركياتهم ويشدّد عليهم حسب المستطاع ويعرف أن أفعالهم وأقوالهم كفر وشرك بالله لكنه ظنّ أنه لا يجوز تكفير الجاهل أو المتأول حتى تقام عليه الحجة فامتنع عن تكفيرهم عينا لقيام المانع عنده وهذا يدل على أنه عرف حقيقة حالهم وعرف الحكم الشرعي للفعل والقول لكن امتنع عن تنزيل الحكم على الفاعل للشبهة القائمة عنده وبذلك ترجع المسألة عنده إلى شروط التكفير وانتفاء الموانع. واختم المقام بسؤال ذي أهمية بالغة عندي وهو: [هل هناك كفر أكبر لا ينقض أصل الدين؟ وهل الجهل أو الشك ببعض جوانب الربوبية كالجهل ببعض جوانب الألوهية أم هناك فرق بينهما؟ وما الدليل على الفرق إن كان]؟.