(ب) الجواب من أبي عبد الرحمن الصومالي (الأول) ما هو أصلُ الدِّين الَّذي لا يُعذرُ فيه أحدٌ بالجهل ونحوه؟ (الجواب) أصلُ الدِّين الذي لا يستحقّ أحدٌ الإسلام إلاّ به ولا يُعذر بالجهل ولا بالتأويل هو "الإيمان بالله". وأقول ذلك لأمور: (الأول) عندما يطلق على أمرٍ من أوامر الدِّين أو خبرٍ من أخباره بأنّه "أصل الدِّين" فالمراد أنّه الأمر الأول أو الخبر الأول الذي يجب العلم به والانقياد له، ويجب اعتقاده قبل الأوامر والأخبار الكثيرة التي هي من دين الله. أو يقال: المراد بأصل الدِّين القاعدة الأولى التي يجب العلم بها وتقوم عليها سائر شعب الشريعة. والمعلُومُ أنَّ "الإيمان بالله" هو القاعدة الأولى التي يجب العلم بها وتقوم عليها سائر شعب الشريعة. واعلم أنّه لم يرد في آية ولا في حديث أمرٌ أو خبرٌ يقول عنه الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وسلم: "هذا أصل الدِّين الذي لا يعذر بالجهل ولا بالتأويل"، بهذا اللفظ. ولكنَّنا نعلم من جملة النصوص أنّه يجب على العبد أن يعلم قبل كل شيء: = أنّ الله يأمر بعبادته وحده لا شريك له والكفر بكل ما يعبد من دونه. = أنّ الله أوحى إلى الرسل وأمرهم بالتوحيد وتبليغه للخلق . = أنّ الله يدخل المطيع الذي استجاب لدعوة الرسل الجنّة ويُدخل العاصي النار. ونعلمُ أنّ جميع رسل الله كانُوا يدعُون إلى الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، قبل الدعوة إلى إلتزام الأحكام الشرعيَّة الفرعية. قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25]. وقال:﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ (فصلت: 6-7) (الثاني) إنَّ كتاب الله تعالى لم يجعل العلم بالتَّوحيد والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، كالعلم بأمور متفرّقة تنفرد وتستقلّ كل منها عن الباقي، وإنّما جعلها "كأمرٍ واحدٍ"، و"خبرٍ واحدٍ"، يأتي في وقت واحد. أي أنّ الرسول لم يكن يعلّمُ الناس التوحيد ثم بعد زمن يخبرهم بأنّه رسول الله ثم بعد زمن يخبرهم بالبعث والحساب والجنّة والنار، وإنّما كان يقول في اليوم الأول: "أنا رسول الله، أرسلني بالتوحيد ونبذ الشرك، ومن أطاعني دخل الجنّة يوم القيامة، ومن عصاني دخل النار". والقرآن الكريم عندما يعرض قصص رسل الله وما جرى بينهم وبين أقوامهم يُبرز لنا أنّ دعوة الرسل كانت دعوةً واحدةً وهي الدعوة إلى الإيمان بالله، بتوحيده وإخلاص الطاعة والعبادة له، والكفر بكلّ ما يعبد من دونه، والإيمان برسل الله ورسالاته وبالوعد والوعيد. ويُبرز كذلك أنّ هذه الدعوة لم تكن تقبل التجزئة، وإّنما كانت عبارة عن قضية واحدة متلاصقة الأجزاء تُعرض في آن واحد. فتأمل الأمثلة الآتية من الكتاب العزيز: قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: 59]. وقال: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ [الشعراء: 106-108]. فظاهر من الآيات أنّ نوحاً عليه السلام دعاهم إلى الإيمان بالتوحيد والرسالة والوعد والوعيد. وقال تعالى: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: 65]. وقال: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ إلى أن قال: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الشعراء: 123-135]. فظاهرٌ أنّه دعاهم إلى الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر في آنٍ واحد. وقال تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 73]. وقال: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ [الشعراء: 142-143]. وقال: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ. فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ. أَءُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا .﴾ [القمر: 23-25]. وظاهرٌ من ذلك أن صالحاً عليه السلام دعاهم إلى الإيمان بالتوحيد والرسالة والوعد والوعيد. وإذا تتبّعنا كل قصص الأنبياء المذكورة في القرآن نجد أن شأنهم واحدٌ وأنّهم قد جاؤا بالتوحيد والرسالة والوعد والوعيد، في آن واحد. قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25]. وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ. وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ [سبأ: 34-35]. وقال تعالى: ﴿كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ [ق: 14]. فجميع الأمم الكافرة المذكورة في القرآن التي أهلكها الله قد تبيّن أنّهم كفروا واستحقُّوا الإهلاك بسبب كفرهم بالتوحيد والرسالة والوعد والوعيد. وإذا ثبت بالأدلّة أن بيان الرسل للإيمان كان جملة واحدةً، وفي آن واحد، أي: أنَّهُ لم يكن بين بيان ركن التوحيد وبيان الرسالة فترة زمنية، وكذلك لم يكن بين بيان الرسالة وبيان البعث والحساب فترة زمنية، وهكذا.. كما هو المذكور في القرآن: ﴿فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف:59] ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ [الشعراء: 107-108]. إذا ثبت ذلك بالأدلّة عرفت صحّة القول بأنَّ أصل دين الإسلام هو "الإيمان بالله". (الثالث) قد أخبر الله تعالى أنه قد أخذ العهد والميثاق من بني آدم قبل أن يخرجوا من أصلاب آبائهم: قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [الأعراف: 172]. قال ابن عباس: "إن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم ميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" . [رواه الطبري]. فظهر من ذلك أنّ البشر عرفوا التوحيد والوعد والوعيد وهم في أصلاب آبائهم، وقد قال الله تعالى لآدم لما أهبطه إلى الأرض، ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 123-124] فقد علم آدم وذريته أنّه سيأتي من الله "هُدىً" أي رسالة تبيّن الحقّ من الباطل، وعلموا كذلك أنّ الله سيجازي المحسن عن إحسانه والمسيء عن إساءته. فآدم عليه السلام ترك ذرّيته وهم يعلمون التوحيد والرسالة والوعد والوعيد. وكانت ذرّية آدم عليه السلام تضلّ مع مرور الزمن عن الإيمان وتقع في الشرك وعبادة غير الله، وكان الله تعالى يرسل برحمته الرسل إلى البشر ليُنقذوهم من ذلك الضلال المبين. فكانوا ينقسمون بعد مجيء الرسول الجديد إلى مؤمنين وكافرين، فينجي الله المؤمنين ويُهلك الكافرين. وليس هناك أمةٌ من الأمم قد بلغها التوحيد الصحيح مجرّداً عن الرسالات والوعد والوعيد. ومن زعم خلاف ذلك فعليه أنْ يأتي بالدليل من الكتاب والسنّة. (الرابع) ثبت بالأدلّة أن الإيمان قضية واحدة لها أركان وتفاصيل كما جاء في الحديث الصحيح: "فأخبرني ما الإيمان". فظهر من السؤال أنهّ سأله عن قضية واحدة، وظهر من الجواب أركانها وتفاصيلها: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشرّه". كما جاء في القرآن: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾ [النساء: 136]. فتبيّن من ذلك أنّ المؤمن هو الذي حقّق هذا الإيمان بأركانه تلك قولاً وعملاً ونيةً. وأنّ الكافر هو الذي كفر بذلك ، سواءً كان سبب كفره العناد أو الجهل والتقليد أو الشكّ. ومن هذه الأمور الأربعة تعلمُ أنَّ القولَ بأنَّ "الإيمانَ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر" هو أصلُ الدينِ، أصحُّ وأسْلمُ من القولِ بأنَّ التَّوحيد هو أصْلُ الدِّين، والرسالة والوعدُ والوعيدُ توابع. ويتبيَّنُ كذلك أنَّهُ إذا جعل الله ورسُولهُ الإيمان أصل الدِّينِ، فلا حاجَّة تُلجئُنا إلى التفريقِ بين أصُول الإيمان، وإلى القولِ بأنَّ بعضها أصلٌ، والباقي توابع. بل يلزمُ منهُ أن يُقال: إنَّ جاهل الرسالة والوعد والوعيد معذُورٌ بجهله، لأنَّها ليست أصل الدِّين. واعلم كذلك أنَّ من قال: "أصلُ الدين هو صحة القصد وإرادة وجه الله"، قولُهُ صحيحٌ لأنَّ صحة القصد والإرادة، يجب أن تُصاحب العلم بأصُول الإيمان. وكذلك من قال: "أصل الدين هو التوحيد"، ومن قال: "أصل الدين هو الرسالة"، ومن قال: "أصل الدين هو محبَّة الله"، ومن قال: "أصل الدين هو الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر"، كلُّ ذلك أقوالٌ صحيحة إذا قصد بأنَّها أصلُ الدِّين لكونها داخلة في الإيمان، أو لا يصحُّ الإيمانُ بدُونها. قال الإمام ابن تيمية: "ولما كان أصل الدين هو الإيمان بالله ورسوله، كما قال خاتم النبيين والمرسلين: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله" وقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله"، كان أمرُ الدين توحيد الله والاقرار برسله" (الفتاوى:28\608) وقال: " اسمُ الإيمان قد تكرر ذكره في القرآن والحديث أكثر من ذكر سائر الألفاظ، وهو أصل الدِّين، وبه يخرج الناس من الظلمات إلى النور؛ ويفرق بين السعداء والأشقياء، ومن يوالي ومن يعادي، والدِّين كله تابع لهذا؛ وكل مسلم محتاج إلى معرفة ذلك" (الفتاوى:7\289) وقال: "وهذا كله تفصيل الشهادتين: اللتين هما أصل الدين شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً عبده ورسوله" (الفتاوى:1\76) وقال: " وهذا الأصل وهو التوحيد هو أصل الدين الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين ديناً غيره، وبه أرسل الله الرسل وأنزل الكتب" (الفتاوى:1\154). وقال: "فإن أصل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ورأس المعروف هو التوحيد، ورأس المنكر هو الشرك. وقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلّم بالهدى ودين الحق، به فرق الله بين التوحيد والشرك، وبين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين الرشاد والغي، وبين المعروف والمنكر". (الفتاوى:27\442) وقال: " وهذا الذي ذكرناه مما يبين أن أصل الدين في الحقيقة هو الأمور الباطنة من العلوم والأعمال، وأن الأعمال الظاهرة لا تنفع بدونها. كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده: الإسلام علانية والإيمان في القلب" (الفتاوى:10\15) وقال: "فإن أصل الدين هو حسن النية ، وإخلاص القصد؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلّم: "ثلاث لا يُغِلُّ عليهن قلب مسلم، إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم" (الفتاوى:16\58) وقال: "وأصل الدين هو عبادة الله: الذي أصله الحب والإنابة والاعراض عما سواه، وهو الفطرة التي فطر عليها الناس. وهذه المحبة التي هي أصل الدين: انحرف فيها فريق من منحرفة الموسوية من الفقهاء والمتكلمين حتى أنكروها، وزعموا أن محبة الله ليست إلا إرادة عبادته، ثم كثير منهم تاركون للعمل بما أمروا به، فيأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم". (الفتاوى:15\428) وقال: " وقد أجمعَ سلف الأمة وأئمتها على إثباتِ محبَّة الله تعالى لعبَادهِ المؤْمنين ومحبتهم له، وهذا أصْل ديْن الخليل إمام الحُنفاء عليه السلام". (الفتاوى:2\354) فمن ذلك تعلمُ أنَّ أصل الدِّين هو "الإيمان بالله"، وأنَّ "الإيمان بالله" لا ينفعُ بدون "محبَّة الله وإرادة وجهه وحسن النيّة والقصد"، فصارت من أصل الدِّين. وإذا ثبت أنَّ أصل الدِّين هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فإنَّ الأدلَّة دلَّت على أنَّ الكافر بالله لاعتقاده الشرك بالله، أو إنكاره لرسالة النَّبي صلى الله عليه وسلم، أو ما كان قبلها من الرسالات، أو إنكاره للكتب أو البعث أوالحساب، لا يُعذرُ بالجهل في أحكام الدنيا، وهو لا يكُونُ إلا كافراً جاهلاً، أو كافرا مُكذّبا مُعاندا، او مُعرضا. قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (المائدة:5) وفي الحديث: " إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ" (متَّفق عليه) قال الإمام ابنُ تيمية: ﴿وكذلك أخبر عن هود أنه قال لقومه‏: "اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ﴾ (‏هود‏: 50‏).‏ فجعلهم مفترين قبل أن يحكم بحكم يخالفونه؛ لكونهم جعلوا مع الله إلها آخر. فاسم المشرك ثبت قبل الرسالة؛ فإنه يشرك بربه ويعدل به ويجعل معه آلهة أخرى ويجعل له أندادا قبل الرسول ويثبت أن هذه الأسماء مقدم عليها وكذلك اسم الجهل والجاهلية يقال‏: جاهلية وجاهلا قبل مجيء الرسول وأما التعذيب فلا‏". (الفتاوى: 20/37) وقال الإمام اينُ القيِّم، في " طريق الهجرتين ": "والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله واتّباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافرٌ جاهلٌ، فغاية هذه الطبقة أنّهم كفّار جهّال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفّاراً، فإنّ الكافر من جحد توحيد الله وكذّب رسوله إما عناداً وإما جهلاً وتقليداً لأهل العناد" [طريق الهجرتين: 411] وقال أيضاً: في قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: 28]: "فهذا استدلال قاطع على أنّ الإيمان بالله أمر مستقرّ في الفطر والعقول وأنّه لا عذر لأحد في الكفر به البتة" (بدائع التفسير). وقال: "بل الواجب على العبد أن يعتقد: أنّ كلّ من دان بدين غير الإسلام فهو كافرٌ، وأنّ الله سبحانه وتعالى لا يعذّب أحداً إلاّ بعد قيام الحجة عليه بالرسول. هذا في الجملة والتعيينُ موكول إلى الله وهذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر" (الثاني) تكفير المشرك المُنتسب إلى الإسلام هل هُو من أصل الدِّين الَّذي لا عُذر لأحد فيه، ومن ثمَّ من نقضهُ فهو كافرٌ عندكم؟. وما هي العلّة في ذلك؟ (الجواب) المشركُ هو من يعبُدُ مع الله إلهاً آخر، سواء ادَّعى ملَّة الإسلام، واتِّباع رسالة مُحمد صلّى الله عليه وسلّم، أو تبرَّأ من ذلك. ولا فرق بين الصنفين في التسمية، والخلود في النَّار. ويدلُّ على عدم التفريق ما يأتي: (أولا) النصوص القرآنية الواردة في شأن الشرك وأهله صريحة مطلقة. قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً﴾ (النساء:48) وقال: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً﴾ (النساء:116) وقال: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ (الحج:31) (ثانيا) كان المشركون الوثنيُون يزعمُون أنّهم على ملَّة إبراهيم وإسماعيل. عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما "أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم لما قدمَ مكةَ أَبى أن يَدخُلَ البيتَ وفيه الآلهةُ، فأمرَ بها فأُخرِجَت، فأُخرِجَ صورةُ إبراهيمَ وإسماعيلَ في أيديهما منَ الأزْلام، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: قاتَلهمُ اللَّهُ، لقد علِموا ما استَقسَما بها قط". (البخاري) ولأبي داؤد: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فرأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام فقال: قاتلهم الله ، لقد علموا أنهما ما استقسما بها قط" (ثالثا) قد وصف الله اليهود والنصارى بالشرك والخروج من دين الإسلام. قال الله تعالى: ﴿إتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (التوبة:31) وقال: ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ (المائدة:72) وقال: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران:64) وقال : ﴿قُلْ يَا أَهْلَ اْلكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَاْلإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ ربِّكُمْ﴾ (المائدة:68) فلم يجعل الله للمشرك المنتسب إلى موسى وعيسى وزناً عنده، لأنهم كانوا كاذبين في زعمهم وانتسابهم. وكانوا قد فارقوا الرسل، لما فارقوا التوحيد الذي هو دين الرسل جميعاً. وإن ظنُّوا أنهم لا يزالون على شيء من الدِّين. (رابعا) لم يبلغنا ما يدلُّ على أنَّ من خصائص النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم -دون الرسل- أن المشرك المُنتسب إلى ملَّته، أفضلُ من المُشرك المُنتسب إلى ملَّة إبراهيم ، أو ملَّة مُوسى أو عيسى، عليهما السلام. قال الإمام النَّووي فى" شرح مسلم": (باب من مات لايشركُ بالله): "فأمّا دخول المشرك النار، فهو على عمومه فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي اليهوديّ والنّصرانيّ، وبين عبدة الأوثان، وسائر الكفرة، ولا فرق عند أهل الحقّ بين الكافر عنادا وغيره، ولا من خالف ملّة الإسلام، وبين من انتسب إليها ثمّ حُكم بكفره بجحده ما يكفرُ بجحده وغير ذلك. ـ اهـ وعلى هذا فإنَّ تكفير المشرك -سواء انتسب إلى الإسلام، أو لم ينتسبْ إليه- هُو من أصل الدِّين الَّذي لا عُذر لأحد فيه، لأنَّ من لم يعرف الكُفر، لم يعرف الإيمان. فإنّ الّذي وحَّد الله وترك الشرك بالله، ابتغاء وجه الله، إذا اعتقدُ أنَّ العابد لغير الله مسلم موحِّدٌ، لم يعرف التَّوحيد، وإن ادَّعاه. كما أنَّ الذي آمن برسالة محمد صلى اللهُ عليه وسلم، إذا آمن بأنَّ مسيلمة رسُول الله، وأنَّهُ كمحمّد صلى اللهُ عليه وسلم في الصدق، فإنَّهُ يُعتبرُ كافراً خارجاً عن الملّة، وبطل انتسابهُ إلى الملَّة، وعُدَّ من الكافرين بمُحمَّد صلى اللهُ عليه وسلم. وإليك هذه الرسالة، التي أرسلها الإمام محمد بن عبد الوهاب، إلى (محمد بن عباد) بعد أن قرأ الإمام أوراقاً كتبها في التوحيد فيها كلام من أحسن الكلام قال (بعد كلام طويل)... "فإذا كنت تعرف أنّ النبيّ صلى اللهُ عليه وسلم، ما قاتل الناس إلاّ عند توحيد الألوهية وتعلم أنّ هؤلاء قاموا وقعدوا ودخلوا وخرجوا وجاهدوا ليلاً ونهاراً في صدّ النّاس عن التّوحيد يقرؤن عليهم مصنّفات أهل الشرك لأيّ شيءٍ لم تظهر عداوتهم وأنّهم كفّار مرتدون؟. فإن كان باين لك أنّ أحداً من العلماء لا يكفّر من أنكر التوحيد، أو أنّه يشكّ في كفره فاذكره لنا وأفدنا. وإن كنت تزعم أن هؤلاء فرحوا بِهذا الدين، وأحبّوه ودعوا الناس إليه، ولما أتاهم تصنيف أهل البصرة في إنكار التوحيد، أنكروه وكفَّروا من عمل به، وكذلك لما أتاهم كتاب ابن عفالق الذي أرسله المويس لابن إسماعيل وقدم به عليكم العام وقرأه على جماعتكم، يزعم فيه أن التوحيد دين ابن تيمية، وأنه لما أفتى به كفره العلماء وقامت عليه القيامة، إن كنت تقول ما جرى من هذا شيء فهذه مكابرة وإن كنت تعرف أنّ هذا هو الكفر الصراح والردّة الواضحة ولكن تقول: أخشى النّاس فالله أحقّ أن تخشاه. ولا تظنّ أنّ كلامي هذا معاتبة، وكلام عليك، فو الله الذي لا إله إلاّ هو إنّه نصيحة لأنّ كثيراً ممن واجهناه وقرأ علينا يعلم هذا، ويعرفه بلسانه، فإذا وقعت المسألة لا يعرفها، بل إذا قال له بعض المشركين: نحن نعرف أنّ رسول الله لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً وأنّ النّافع والضارّ هو الله يقول: جزاك الله خيراً ويظنّ أنّ هذا هو التوحيد ونحن نعلّمه أكثر من سنة أنّ هذا توحيد الربوبية الذي أقرّ به المشركون.. فالله الله في التفطن لهذه المسألة فإنّها الفارقة بين الكفر والإسلام . ولو أنّ رجلاً قال: شروط الصلاة تسعة: ثمّ سردها كلّها فإذا رأى رجلاً يصلّي عرياناً بلا حاجة، أو على غير وضوء أو لغير القبلة لم يدر أنّ صلاته فاسدة لم يكن قد عرف الشروط، ولو سردها بلسانه. ولو قال: الأركان أربعة عشر ثمّ سردها كلّها ثمّ رأي من لا يقرأ الفاتحة ومن لا يركع ومن لا يجلس للتشهد ولم يفطن أنّ صلاته باطلة لم يكن قد عرف الأركان ولو سردها فالله الله في التفطن لهذه المسألة. (اﻫ ـ من كتاب سيرة الإمام\ لأمين سعيد) (الثالث) ما الفرقُ بين الحُكمِ بالكُفرِ على المُسلمِ بغير حقٍّ، وبين الحُكم بالإسلامِ للكافر بغير حقٍّ؟ (الجواب) (أولا) تكفير المسلم ليست على درجة واحدة، ولها التفصيل الآتي: 1) من كفّر مسلماً قائلاً "يا كافر" لا لسبب آخر إلاّ أنه يوحّد الله، فرماه بالكفر بُغضاً لتوحيده، وظنّاً منه أن التوحيد كفرٌ، فهذا لا شكّ في كفره، لجهله للتوحيد وبُغضه له. 2) ومن كفّر مسلماً لا يُعرَفُ منه إلا الإسلام، وليس فيه شبهة، قائلاً "يا كافر"، واعتقد ذلك، فقد وجب عليه الكُفر، لأنَّهُ جعل الإسلام كُفراً. فإن قالهُ ذلك سابّاً لهُ، فقد ورد ما يدلُّ على أنَّهُ يكفُرُ بذلك أيضا. وفي الحديث: "وَمَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُوَّ الله، وَلَيْسَ كَذلِكَ. إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ" (متفق عليه). قال الحافظ ابن حجر، بعد أن ذكر ما قاله العلماء عن تفسير الحديث: "وأرجح من الجميع أن من قال ذلك لمن يعرف منه الإسلام ولم يقم له شبهة في زعمه أنه كافر، فإنه يكفر بذلك، كما سيأتي تقريره، فمعنى الحديث فقد رجع عليه تكفيره، فالراجع التكفير لا الكفر، فكأنه كفر نفسه، لكونه كفر من هو مثله، ومن لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان دين الإسلام، ويؤيده أن في بعض طرقه "وجب الكفر على أحدهما" اﻫ 3) ومن كفّر مسلماً من غير بُغضٍ لتوحيده، ولكن بُغضاً لذنبه، وظنّاً منه أنَّ الذنوب تُخرج أصحابها من الملّة، كما فعلت "الخوارج" فهذا قد يكفر وقد لا يكفر وذلك بحسب قيام الحجة عليه . لأنه كان من أهل التوحيد ثم خالف الشريعة جهلاً وتأويلاً أخطأ فيه، فلا يكفّر قبل إقامة الحجَّة عليه. ولذا يُروى عن عليّ أنه لم يكفِّرهم ابتداءً .. ويُروى كذلك أنه كفّرهم أخيراً وأمر بنهب عسكرهم . ويروى عن مالك روايتان وأحمد روايتان كذلك. والإمام ابن تيمية مرّةً قال: "إنّهم كانوا مسلمين". ومرّةً قال: "إنّهم كانوا خارجين عن الإسلام". وكلا القولين في "الفتاوى". وسبب ذلك أن المبتدع مخالفٌ رادٌّ لنصوص قرآنية. فإن كانت الحجة قد أُقيمت عليه ولم يتب كان كافراً، وإلاّ كان مبتدعاً ضالاً لم تقم عليه الحجة. والخوارج كان لهم تأويل ولكنه لم يكن سائغاً ولذا لم يُعذروا به وأجمعت الأمة على تضليلهم وقتلهم إذا خرجوا. 4) ومن كفّر مسلماً بدر منه ما هو من علامات النفاق، فرماه بنفاق غيرةً لله ولدينه فهو مجتهدٌ. كما فعل عمر رضي الله عنه لما قال عن حاطب لما أفشى سرّ النبي صلى الله عليه وسلم "دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَـذَا الْمُنَافِقِ". (البخاري) (ثانيا) وأمَّا إدخال الكافر في الإسلام، فليس على درجة واحدة، وهو على التفصيل الآتي عندنا: 1) من اعتقد أنَّ الكافر العابد لغير الله، أنَّهُ مسلمٌ، وهو عالم بكفره وشركه الأكبر، فهو كافرٌ مثله لأنه ظهر أنه يجهل الإيمان بالله فإن عادى مع ذلك الموحّدين زاد اليقين بكفره. 2) ومن اعتقد أنَّ المبتدع الكافر ببدعته، والذي أقيمت عليه الحجة، وكفّره العلماءُ، أنَّهُ مسلمٌ بسبب جهله لمسألته، فهذا لا يكفّر حتى تبيّن له الحقيقة، فإن أصرَّ بعد ذلك ألحق به. وقد أفتى ابنُ الزبير بقتل زوجة "المختار بن أبي عبيد"، التي لم تتبرَّأ منه. كما جاء في "البداية والنهاية" لابن كثير: " وقد سأل مصعب أم ثابت بنت سمرة بن جندب أمرأة المختار عنه، فقالت ما عسى أن أقول فيه إلا ما تقولون أنتم فيه، فتركها واستدعى بزوجته الأخرى، وهى عمرة بنت النعمان بن بشير، فقال لها: ما تقولين فيه؟. فقالت: رحمه الله لقد كان عبدا من عباد الله الصالحين. فسجنها وكتب إلى أخيه إنها تقول إنه نبى فكتب إليه أن اخرجها فاقتلها فأخرجها إلى ظاهر البلد فضربت ضربات حتى ماتت" (حوادث سنة 67هـ) وقال الإمام ابن تيمية: "وهكذا هؤلاء الاتّحادية فرؤوسهم هم أئمة كفر يجب قتلهم ولا تقبل توبة أحد منهم إذا أخذ قبل التوبة. فإنه من أعظم الزنادقة الّذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر" [الفتاوى: م 2/ص: 130]. وقال: "ومن كان محسناً للظنّ بهم وادّعى أنّه لم يعرف حالهم عرف حالهم فإن لم يباينهم ويظهر لهم الإنكار وإلاّ ألحق بهم وجعل منهم" . وقال: "ومن لم يكفّر هؤلاء وجعل لكلامهم تأويلاً كان عن تكفير النصارى بالتثليث والاتّحاد أبعد" [الفتاوى: م 2/ ص: 133]. 3) ومن جعل كافراً مسلماً بسبب إظهار الكافر للإسلام والصلاح وإخفائه لكفره لم يكن كافراً بل ولا آثماً. لأنَّهُ مُتَّبعٌ للشريعة الآمرة بالاكتفاء بظاهر المنافقين. (ثالثا) إنَّ الله تعالى جعل الكفار قسمين، قسمٌ مظهرٌ لكفره وعداوته للحقِّ وأهله، وقسمٌ منافقُون، مظهرُون للإسلام والإخلاص والبراءة من الشرك وأهله. ثمَّ إنّ الله تعالي أكثر في القرآن من ذكر أولئك "المنافقين" وأنزل سوراً وآيات كثيرة تبيّن صفاتهم التي تميّزهم عن المؤمنين الصادقين، وذلك كي لا ينخدع بهم المؤمنون . ومن المعلوم أنّ هؤلاء المنافقين كانوا يظهرون الإسلام ويدّعون الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ويبطنون الكفر وكراهية الحقّ ومعلوم كذلك أنّ الله كشف أسرارهم وأظهر نيّا تهم الخبيثة وبين سمّاتهم البارزة ليحذرهم المؤمنون ولا يثقوا بأكاذيبهم ودعا ويهم. فإذا كان الله لا يريد ولا يرضى لعباده المؤمنين أن ينخدعوا ويثقوا بأولئك الكفار المنافقين الّذين لا يظهرون كفرهم .. فهل من المعقول أنَّهُ يرضى لهم الانخداع والثقة للكفار المشركين الّذين يظهرون كفرهم وشركهم ؟ وكيف لا ينخدع للمنافقين من انخدع للمشركين المظهرين للكفر الصريح؟. وكيف لا يكون ذلك المنخدع مخالفاً للقرآن الكريم الّذي ينهى عن طاعة المشركين والمنافقين ويأمر بجهاد الفريقين . قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (الأحزاب:1) وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (التَّوبة:73) واللهُ سبحانه وتعالى لما قسم النَّاس إلى قسمين، مُؤمنين وكافرين، وقسم الكافرين إلى قسمين مختلفين في أحكام الدُنيا، هما: (الأول) الكافرُون المظهرون لكفرهم، المباينون لأهل الإسلام. (الثاني) المنافقُون المظهرُون للإسلام، المنتسبون لأهل الإسلام. لما جعل الله الكفار قسمين، لم يقسم المُؤمنين إلى قسمين: (الأول) مظهرين لإيمانهم، مباينين لأهل الكفر. (الثاني) مظهرين للكفر، متابعين لأهل الكفر، ولهم أحكام الكفار في الدُنيا. وإنَّما جعلهم أمَّة واحدة، ليست من أهل الكفر في شيء، وليس منهم مُتكلِّمٌ بالكفر، مُنتسبٌ إليه، إلا المُكره. والإكراه رخصة متعلِّقة بظرف عارض لا يدُوم. وعلى هذا فإنّ المُسلم ليس مأمُوراً باعتقاد أنّ في بعض الكُفار خيراً وإسلاماً، ولكنَّهُ مأمُورٌ باعتقاد انَّ في بعض المسلمين كُفراً ونفاقاً. كما قال تعالى عن المنافقين: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ (المنافقون:4) ولذلك يكثرُ أن يقع المسلم في الخطأ الذي هو تكفيرُ المسلم بغير حقٍّ، والظنُّ بأنَّهُ من أهل النِّفاق، ويندرُ أن يقع في الخطأ الّذي هو إدخال الكافر المظهر للكفر في الإسلام. بل لا يُدخلُ الكافر المظهر للكفر في الإسلام، إلا من لا يُؤمنُ بالإيمان والإسلام الحقيقي. (الرابع) تكفيرُ الأعيان والطوائف والقبائل، هل هُو من باب الاجتهاد الَّذي تختلفُ فيه الأنظارُ أم لا؟ (الجواب) إنَّ ما يكفُرُ به الفردُ، تكفرُ به الطائفة إذا أظهرتهُ. والتكفيرُ الّذي ليس من باب الاجتهاد، في حقِّ الفرد، يكُون كذلك في حقِّ الجماعة. وعلى هذا: 1) إذا كان الفردُ المعيَّن، أو الطائفة أوالقبيلة المعيَّنة، خارجة عن أصل من أصُول الإيمان، كالتَّوحيد أو الرسالة أو الوعد والوعيد، فالتكفير حينئذ ليس من باب الاجتهاد، وليس موقُوفاً على العلماء، بل من لم يُكفرهم فهو كافرٌ. وقد تعرض لبعض المسلمين شُبهة تُوقفهم عن التكفير، أو العقوبة، وتدعُوهم إلى التحقيق، مثل من كان يعلم منهم الإسلام، ولم يعلم بالردَّة، أو رأى عدم عدالة الشهُود بالردَّة، كما اختلف خالد وعمر في مالك بن نويرة، وأمثال ذلك. ولكن لا عُذر للمتوقف العالم بحالهم. 2) إذا كان الفردُ المعيَّن، أو الطائفة أوالقبيلة المعيَّنة، جاحدة أو خارجة عن أمرٍ معلُومٍ من الدِّين بالضرُورة، كالصلاة والزكاة والصيام والحجِّ والجهاد، أو كانت تستحلُّ الحرام المعلُوم تحريمه من الدِّين بالضرُورة، كاستحلال الدماء، أوالخمر، أوالميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو الزنا، وغير ذلك، فالتكفير حينئذ ليس من باب الاجتهاد، وليس موقُوفاً على العلماء، بل من لم يُكفرهم بعد معرفته بحالهم، فهو كافرٌ. 3) إذا كان الفردُ المعيَّن، أو الطائفة أوالقبيلة المعيَّنة، تعتقدُ بعقيدة مخالفة لنصٍّ قطعيٍّ ثابت، لا شكَّ في ثُبُوته، ولكنَّهُ من المقالات الخفية، الَّتي تشتبهُ على بعض النّاس، وليس من المعلُومٍ من الدِّين بالضرُورة، فإنَّها تُبدَّعُ، كالخوارج والمعتزلة وأمثالهم، وتكفيرهم من باب الإجتهاد، ومن كفَّرهم لا يُعادي من لم يُكفِّرهم. ويُقالُ للمُعيَّن منهم مُخطئٌ ضالٌّ، لم تقم عليه الحجَّة التي يكفرُ تاركها.