(9) مزالق الطريق الخوف: إن إحساس الإنسان بالخوف عند ملاقاة الخطر شعورٌ فطريٌّ يعتري كل إنسان حتى الأنبياء والصالحين. قال تعالى: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى، قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى﴾ [طه: 67-68]. وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآَمِنِينَ﴾ [القصص: 31]. وقال تعالى:﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾ [الكهف: 18]. وقال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [الأنفال: 26]. والخوف المذموم الذي لا يقبله الشرع نوعان: (الأول) عبادة غير الله بالخوف، باعتقاد قدرته على إنزال الشرّ على من يريد، فيكون الإنسان الذي اعتقد ذلك خائفاً وجِلاً من غير الله، يسعى لإرضائه واتقاء شرّه وهذا من الشرك الاعتقادي. قال تعالى: ﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ، إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هود:53-56]. وقال تعالى: ﴿وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ، وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 80-82]. (الثاني) وهو ترك الواجب أو فعل المحرّم لأجل الخوف من الناس، وفاعل ذلك إذا لم يكن مكرهاً على ذلك يكون آثماً مرتكباً للحرام باختياره. وشروط الإكراه هي: 1) أن يخالف القتل أو الضرب الشديد. 2) أن يكون فورياً أو جرت العادة بعدم تخلّف عقوبة القتل أو الضرب إذا لم يفعل الحرام. وأصل ذلك هو قصة عمار بن ياسر رضي الله عنه لما عذَّبه المشركون فتكلّم بالكفر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عادوا فَعُدْ" . وأنزل الله تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: 106]. ويَجوز لمن أكره أن يتكلّم بالكفر، أو أن يفعل الحرام الذي لا يتعدّى ضرره إلى غيره، كأكل الميتة، وشرب الخمر، وما شابه ذلك. ولا يجوز له أن يفعل ما يتعدّى ضرره إلى غيره كقتل النفس، وإتلاف مال الغير، والزنى، وما شابه ذلك. كما جاء في لحديث: "المسلمُ أخو المسلمُ لا يظلمه ولا يسلمه" [متفق عليه]. ومن الناس من يقع في مزلق خطير، وينحرف انحرافاً فاحشاً بسبب الخوف، وذلك أنه يرى القوّة الهائلة الجبارة للكفار، والحركات السريّة والعلنية المسخَّرة لحرب الإسلام، والتي تدعمها الدول الكبرى بالأموال والأقلام ووسائل الإعلام، فيشعر أمامهم بالخوف والضعف والضآلة. فيزيّن له الشيطان أن يُخالف الشريعة من جوانب كثيرة، معتقداً استحالة العمل للإسلام إلاّ بِهذه الطريقة المهزومة. ولدى المؤمن من بيَّان ربّه ما يصدّه عن ذلك الطريق الملتوي. فهو يعلم: (الأول) إن الله إذا أراد انتصار الإسلام على الجاهلية فإن ذلك واقعٌ لا محالة. قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القصص: 5-6]. فإرادة الله هذه كانت من وراء انتصار موسى وبني إسرائيل على فرعون وقومه. فتفيد الآية أن إرادة الله تتحقّق على كل حال، وأن المؤمنين عليهم أن يكونوا مؤمنين حقيقيين معظِّمين لأوامر الله وشرعه آخذين بالأسباب كي ينصرهم الله على أعدائهم ويمكنهم في الأرض. فإن الله إذا أراد للإسلام النصر والتمكين فإن ذلك سيتمّ ولا يقدر الإنس والجنّ على إيقاف قدر إلهيّ مرسوم. وإذا لم يرد للإسلام ذلك في زمن من الأزمان وجولة من الجولات فإن ذلك لا يأتي ولا يتحقّق بطريق لم يأذن به الله. فالاستقامة إذاً ضروريّة للمؤمنين مهما تكن نتيجتها في قدر الله. (الثاني) إن الله تعالى قد بيّن في كتابه الحالات التي للمؤمن فيها أن يخالف بعض الشريعة، وأن يقع في المحظور كحالة الإكراه وحالة الاضطرار في قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 173]. وإذا كانت هناك حالة أخرى يجوز للمسلم فيها الخروج عن الشريعة أو عن بعضها لبيّنها الله تعالى. (الثالث) إن الخوف من البشر لا تنتهي بالإنسان إلى ذلك المستوى إلا حين تضعف معرفته بربِّه وما وصف به نفسه، فالله تعالى هو القائل عن نفسه : ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [البروج: 16]. ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [الأنعام: 18]. ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التغابن: 1]. ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ [الأنفال: 8]. ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: 58]. فإذا عرف الإنسان ربَّه بصفاته فلن يكون لغيره سلطان على نفسه، فيعبد ربه وإن كره الكارهون. ﴿كَلاّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ [العلق: 19].