(ح) الإبتلاء : من سنة الله، أن يبتلي المؤمنين، وأن يمحّص صفوفهم، وأن يظهر المنافقين والكاذبين في زعمهم للايمان، رَحْمةً لعباده المؤمنين، كي لاينخدعوا بِهم. فالإبتلاء وإن كان صَعْباً على النفوس يُعتبر رحمة ونعمةً من نعم الله على عباده المؤمنين، ولولاه لامتلأت صفوفهم بالمنافقين وطلاّب الدنيا. وربُّما بلغوا مراكز القيادة والتوجيه، دون أن يشك فيهم أحد لأنّهم يتكلمون بكلام المؤمنين ويعملون ما يشبه أعمالهم. فجعل الله الإبتلاء ميزاناً ومقياساً لا يخطئ. يضع كل فرد موضعه الحقيقيّ، فيعلم المؤمنون من يثقون بِهم ومن لا يثقون بِهم، من يتعاونون معهم ومن يحترزون منهم. قال تعالى: ﴿الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت:1-3]. وقال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ، وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾ [العنكبوت:10-11]. وقال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج: 11]. وقال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ [محمد: 31]. وقال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: 16]. وقال تعالى: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [أل عمران: 179]. فظهر من الآيات أنّ الغرض الذي لأجله أبتلى الله المؤمنين هو تمحيص صفهم، وإخراج الضعفاء والمنافقين من بينهم. والله تعالى بيَّن أنه يبتلي أولياءه المؤمنين بأنواع من الشدائد، كالخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس. وملاقاة أذى الألسنه والأيدى من المشركين. قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة : 156- 157]. وقال تعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [آل عمران : 186]. وقال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة : 214]. وبينّ الله كذلك أن بسط النعمة والسلامة والأمن من الابتلاء قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الانبياء:35 ]. إن من طبيعة الإنسان الذي لم تخالط بشاشة الإيمان قلبه. أن يظهر منه الفرح والفخر والبخل إذا أسبغ الله عليه من نعمه. وأن يظهر منه الهلع والجزع واليأس عند المكارة والشدائد. وهذه من صفات الكفار، وقد نفاها الله عن المؤمنين المصلّين. قال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلا الْمُصَلِّينَ﴾ [المعارج : 19-22]. ولكن إذا نزل الإبتلاء بالشرّ يظهر من المصلِّين من يجزع وييأس من روح الله ورُبَّما خرج عن الإسلام جملة. وكذلك إذا نزل الإبتلاء بالخير. يظهر منهم من يمنع ويبخل ويفرح بخضرة الدنيا الفانية، ورُبما تنكّر لاخوانه في الله. ومن إدّعى الإيمان واتّصف بصفات الكفار فهو لا يكون إلا منافقاً خالصاً أو من ضعفاء الإيمان. والغرض من الإبتلاء يكون عندئذٍ قد تحقّق بمعرفة المؤمنين لأولئك المنافقين والضعفاء المنخرطين في صفوفهم. وقد قال صلى الله عليه وسلم عن المؤمن: «عجبا لأمر المؤمن إنّ أمره كلّه خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيراً له» [مسلم]. والجماعة التي يريد الله لها الخير والكرامة، يبتليها إبتلاءً شديداً يُزلزلها، وينفي عنها الخبث، أهل النفاق ومرضى القلوب. وقد جاء في الأحاديث: «أشدّ النّاس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل. فالأمثل، يبتلي الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابةً زِيْدَ في بلائه، وإن كان في دينه رقّة حفّف عنه. وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة» [الترمذي، ابن ماجه، أحْمد]. وقال صلى الله عليه وسلم: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحبّ قوماً إبتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط» [الترمذى]. وعندما يشتدّ البلاء وتطول مدّته ويبطئ النصر. يتحقّق ما أراده الله من إبتلائه لعباده. ويظهر كل فردٍ على حقيقته، ودرجته من الإيمان. وينقسم الأفراد الّذين كانوا يمثّلون جماعةً واحدة قبل الابتلاء والتمحيص إلى الأقسام الآتية : (الأول) المؤمنون الخلص وهم الذين أخلصوا النيّة وصدقوا في العمل. ولم يتردّدوا في بذل النفس والمال في سبيل الله. وهم الذين ازدادوا بالإبتلاءات إيْماناً. وخرجوا من كل إبتلاء ناجحين، لم يزدهم إلا إيماناً وتسليماً. وأولئك هم القاعدة الصلبة للجماعة، والعنصر الذي يقوم عليه كيانَها. ومثال ذلك المهاجرون والانصار، أصحاب بيعة العقبة، وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، إنّهم لم ينهزموا أمام الأحزاب: فقال تعالى: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا﴾ [الاحزاب: 22-23]. وهم الذين قال الله عنهم لما بايعوا تحت الشجرة: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح : 18]. وقال عنهم يوم حنين وجهادهم فيه: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ [التوبة : 25-26]. وقال تعالى عنهم في غزوة العسرة (تبوك): ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 117]. وقال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [التوبة:100]. ( الثاني ) ضعفاء من غير نفاق خالص الإيمانُ ينمو ويقوِّي في النفوس تدريجياً، حتى يكون قوياً مكتملاً راسخاً. لا تعوّقه الشبهات والشهوات المضلّة. فإن اجتهد المسلم في التدبّر والتفكير في آيات الله. وداوم على قراءة القرآن، وكثرة العبادات والذكر، ولازم أهل الصلاح والعلم، فإنّ إيمانه يكون في ازدياد ونموّ مستمرّ، وإن غفل ولها واشتغل عن القرآن والذكر، وصاحب أهل الغفلة والنفاق، فإن إيمانه ينقص تدريجياً، ورُبَّما تحوّل إلى منافق خالص، أو إلى مرتدٍ كافرٍ. وجاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «والقلوب أربعةٌ، قلبٌ أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط بغلافه، وقلبٌ منكوس، وقلبٌ مصفح. فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن، فسراجه فيه نور. وأما القلب الأغلف فقلب الكافر. وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص، عرف الحقّ ثم أنكر. وأما القلب المصفح فقلبٌ فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدّها الماء الطيّب، ومثل النفاق كمثل القرحة يمدّها القيح والدمّ، فأيّ المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه» [أحـمد]. فمن الطبيعي إذاً أن يكون في الجماعة ضعفاء متفاوتون في الضعف. ولكنّ هذا الضعف كما يبدوا من الحديث مرحلةٌ يَمرّ القلب البشري بِها. ولا بدّ أن يتجاوزها إلى أعلى، ويكون مؤمناً خالصاً كأهل القسم الأول، أو يتجاوزها إلى أسفل فيكون منافقاً خالصاً. وتجد في القرآن والسنة والسيرة صوراً من الضعف البشري الذي مرّ به أفراد كانوا جادّين في إيمانِهم، وكان الله تعالى يدعوهم إلى الأفضل والأكمل كي ينالوا رضى الله والجنة. وفي الغالب لا يخلوا الإِنسان من هذا الضعف في بداية إِسلامه، وكذلك إذا وُلد ونشأ في الإسلام، والطريق هو الإهتمام بتربيتهم ومتابعة أحوالهم والتعقيب على ما يحدث منهم مما لا يقبله الإسلام. ومما سجله القرآن من حالات الضعف مأ ياتي: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ، يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾ [الأنفال : 5-6]. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [أل عمران : 155]. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة :267-268]. وقال تعالى: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ [النور : 15]. وقال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [الجمعة: 11]. وقال تعالى: ﴿وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 102]. وهذه الحالات من الضعف البشريّ كانت تظهر من واقع الجماعة المسلمة الأولى، وكانت أحوال الناس دائماً في تَحسُّن مستمرّ بفضل الجهود التي كانت تُبذل في التربية، ولكن كان هناك مسلمون جُدد ينضمون إلى الجماعة. ويحتاجون إلى مزيد من التربية بإستمرار، فلم تكن الجماعة الإسلامية في مستوى واحد دائماً بسبب ذلك. وكان إبتلاء الله المستمرّ المتنوع يعمل عمله في داخل الجماعة، فيرفع أقواماً ويضع آخرين. (الثالث ) المنافقون وكانوا أقواماً تكلّموا بالإسلام، ودخلوا في عداد المسلمين وهم ليسوا في الحقيقة منهم، وإِنما كانوا يرعون مصالحهم الدنيوية ومراكزهم الاجتماعية. وكانوا ينتظرون أن تدور الدائرة يوماً على المسلمين، كي يتحرّروا من تكاليف الإسلام. وقد أنزل الله سوراً وآيات كثيرة بشأنِهم، فعرّف المؤمنين سماتَهم وما يتميّزون به عن المؤمنين الصادقين من صفات وأعمال. والمنافقون كانوا على نوعين : (النوع الأول): وهم قوم آمنوا بالله ورسوله حقيقة، وقد دخل الإيمان في قلوبهم، ولكن لما اِبتلاهم الله بالخوف والحروب والجوع ونقص الانفس والثمرات، ارتدّت قلوبهم ونافقوا وكانوا كما قال تعالى عنهم: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة: 17- 18]. وقال تعالى: ﴿لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُم﴾ [التوبة: 66]. كانوا مرتدين قد ارتدّت قلوبِهم وكفروا بعد إيمانِهم. ولكنّهم لم يغيِّروا شيئاً من ظاهرهم، فظلّوا معدودين من المسلمين، وإن كان يظهر للمؤمنين عند الشدائد والمِحن منهم شيء كثير يدلّ على نفاقهم . (النوع الثاني): وهم قوم أضطرّوا إلى إظهار الإسلام وهم غير مقتنعين به. رعاية للمصالح والمراكز التي كانت لهم في العشيرة والقبيلة، كما كان حال عبدالله بن أبيّ الذي أعلن إسلامه بعد وقعة بدر وقال: (هذا أمرٌ قد توجّه). وكان يضمر الكيد والشرّ للنبى صلى الله عليه وسلم، ولكنّ الله تعالى ردّ كيده في نحره وأصبح هو وأمثاله أذلاّء في الإسلام. وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجاهد المنافقين بالحجج والبيان: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [التوبة:73]. وقال تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا﴾ [النساء : 63]. وقال تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً﴾ [النساء:81]. وكان منهم من يوفّقه الله للتوبة ويتبرّأ من النفاق ويخلص عمله لله. قال تعالى: ﴿إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 146]. (الرابع): المرتدون إن الإيمان منحة إلهيةٌ، والله هو الّذي يهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم، وهو القادر على أن يسلب الإيمان من القلوب . قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: 213]. وقال تعالى: ﴿وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً، إِلاّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 86-87]. وقال تعالى: ﴿وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم: 27]. وقال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف:175-176]. إن المؤمن العارف بالله يخشى أن يرتدّ قلبه بسبب ذنوبه كما قال تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور : 63]. قال ابن كثير: ﴿أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾ أي في قلوبِهم من كفر أو نفاق أو بدعة. وقال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ [الانفال: 24]. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلم المؤمنين بالله وأتقاهم له يقول في دعائه: «اللّهم يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك» ولما سُئِلَ. قال: «إنَّ القلوب بين أصبعين من أصابع الله، إن شاء قلبه وإن شاء ثبّته» [الترمذي ومسلم]. وقال نبي الله إبراهيم عليه السلام في دعائه: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم : 35]. قال إبراهيم التيمي: "من يأمن البلاء بعد إبراهيم " [ابن جرير]. وقد قيل إن المنسلخ عن آيات الله المذكور في آية الأعراف كان رجلاً من أصحاب موسى، عالماً ثم كفر بعد إيمانه. وفي حياة النبي صلى الله عليه وسلم كان هناك من إرتدّ عن الإسلام ممن أسلم كما دلّت عليه الأخبار الآتية: عن أنس رضي الله عنه قال: "كان رجل نصرانياً فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبى صلى الله عليه وسلم ، فعاد نصرانياً. فكان يقول: "ما يدري محمّدٌ إلاّ ما كتبت له". فأماته الله، فدفنوه، فأصبح وقد لفظتْهُ الأرضُ، فقالوا: هذا فِعْلُ محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له فأعمقوا. فأصبح وقد لفظتْهُ الأرضُ. فقالوا: هذا فِعْل محمد وأصحابه نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم فألقوه خارج القبر. فحفروا له وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبح قد لفظتْهُ الأرضُ فعلموا أنّه ليس من الناس فألقوه" [متفق عليه]. عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "كان رجلٌ من الأنصار أسلم ثم إرتدّ ولحق بالمشركين، ثم نَدِمَ فأرسل إلى قومه: أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة؟ فنَزلت ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ﴾ إلى قوله ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، فأرسل إليه قومه فأسلم" [النسائى وابن جرير]. قال تعالى: ﴿وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ قال الإمام الطبريّ: ونزلت هذه الآية في الخائنين الذين ذكرهم الله في قوله: ﴿وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾، لما أبى التوبة من أبى منهم، وهو (طُعْمَةَ بن الأُبَيْرق) ولَحِقَ بالمشركين من عبدة الأوثان بمكّة، مرتدّا مفارقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه. [جامع البيان: م 4 /278]. وجاء في سيرة (ابن هشام): "وأما عبيد الله بن جحش، فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم، ثم هاجر مع المسلمين الى الحبشة ومعه امراته (أمّ حبيبة بنت أبي سفيان) مسلمة، فلما قدمها تنصَّر وفارق الإسلام ومات نصرانياً". كان عبيد الله بن جحش -حين تنصَّر- يَمُرُّ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم هناك من أرض الحبشة فيقول: "فقحنا وصأصأتُم"، أي: أبصرنا، وأنتم تلتمسون البصر، ولم تبصروا بعد. وخلف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعده على امرأته (أُم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب). وعن أنس رضي الله عنه: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكّة عام الفتح وعلى رأسه المغفر. فلمّا نزعه جاءه رجلٌ فقال: "اِبن خطل" متعلِّق بأستار الكعبة، فقال: «أقتلوه». [متفق عليه]. قال الحافظ اِبن حجر في "فتح الباري": هو عبدالله بن خطل، وإِنما أمر صلى الله عليه وسلم بقتل إبن خطل، لأنه كان مسلماً، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدّقاً، وبعث معه رجلاً من الأنصار، وكان معه مولى يخدمه، وكان مسلماً، فنَزل منْزلاً، فأمر المولى أن يذبح تيساً ويصنع طعاماً، فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئًا، فعدا عليه فقتله، ثمّ إرتدّ مشركاً، وكانت له قينتان تغنيان بِهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعت الردّة المشهورة، حيث إرتد عن الإسلام غالب من أسلم من قبائل العرب، وكانت ردّتُهم متنوعة، فمنهم من إرتدّ إلى عبادة الأوثان والأصنام، ومنهم من إعتقد نبوة الكذَّابين المتنبئين، كمسيلمة، وطليحة، والأسود العنسي، -وقد قُتل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم - وسجاح. ومنهم من امتنع عن أدَّاء الزكاة، وأقرّ بالتوحيد والصلاة. وقد قضى الصحابة رضوان الله عليهم على هذه الفتنة المستطيرة في مدى سنة واحدة في الحروب المعروفة بحروب المرتدين.