(د) الخديعة الكبرى : إن الشيطان عالم فاسد، وعدوٌّ ماكرٌ خبيثٌ، فلم يكن يقول للأمم الكثيرة ألتي أضلّها: "تعالوا أكفروا بالله. واكفروا بنبيكم. وتبرءوا من الإسلام"، لم يكن يقول لهم ذلك. لأنّه يعلم أنّه طريق صَعْبٌ مكشوفٌ. لا يقبله الناس. ويعلم كذلك أن البشرية يصعَبُ عليها أن تتبرأ من طريقة أسلافها وأجدادها، لا سيّما إذا كان أولئك الأجداد أنبياء تلقَّوا الوحي من الله. وتركوا العلم والحكمة بين الناس يتوارثها الأبناءُ عن الأباءِ . وإنَّما كان يبتدع لهم البدعة ويقول لهم: هذه حسنة، ولا يحرمها الإسلام، ولها منفعة عظيمة.وما إلى ذلك من القول.ثم إن البدعة كانت تؤول بِهم إلى الشرك. كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. وهو يتحدّث عن ضلال قوم نوح عليه السلام وكيف عبدوا وَدًّا وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً: قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسمّوها بأسمائهم ففعلوا ولم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عبدت" [البخاري]. فمن المعروف أنّ هؤلاء الذين عبدوا الأنصاب والتماثيل لم يكونوا يقولون: "نحن كفرنا بالله. وكفرنا بنبينا. وتبرأّنا من الإسلام"، وإنّما كانوا كما قال الله تعالى عنهم وعن أمثالهم: ﴿اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 30]. فقد أصبحوا أولياء الشياطين، وهم يزعمون أنّهم حزب الله وأولياؤه المتقون. وأصبحوا كافرين وهم يظنّون أنّهم مؤمنون، وأصبحوا خارجين عن التوحيد الذي كان أهمّ تعاليم الأنبياء وهم ينتسبون إلى الأنبياء . وقد أخبرنا الله تعالى أن شعيبا عليه السلام قال لقومه: ﴿وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ﴾ [هود : 89]. فيبدوا من السّياق أنّهم كانوا معترفين بنبوة نوح وهود وصالح ولوط، ومعترفين كذلك أنّ أقوامهم كانوا كفاراً. ولكنّهم كانوا مع ذلك واقعين تحت تأثير خديعة الشيطان الكبرى، كانوا يظنّون أنّهم "مؤمنون" وهم ينكرون التوحيد، ويظنّون أنّهم موافقون لطريقة رسل الله، وهم يكفرون بشعيب عليه السلام، ويشركون بالله ما لم ينْزل به سلطاناً. وقد قيل إنّهم كانوا من ذرّية إبراهيم عليه السلام، فكان إنتسابَهم لأنبياء الله إذاً قوياً، مع كونِهم من أظلم الظالمين. وأخبرنا الله كذلك في القرآن. أنّ قوم فرعون وهم من أعتى الأمم. كانوا يعترفون بنبوة يوسف عليه السلام. فجاء في القرآن أنّ الرجل المؤمن قال لقوم فرعون: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً﴾ [غافر : 34]. كانوا يعترفون بأن يوسف عليه السلام كان نبياً رسولاً أرسله الله، وكانوا مع ذلك ينكرون رسالته التي جاء بتجديدها موسى عليه السلام لانّهم كانوا يحسبون أنّهم مهتدون، فلما تجلّت لهم الحقيقة ورأوا الآيات وعلموا أنَّ موسى على الحقّ عاندوا وكفروا علوا واستكباراً فأخذهم الله بعذاب الاستئصال. وكذلك اليهود أنكروا الإسلام والتوحيد الّذي جاء به المسيح عليه السلام، وهم يحسبون أنّهم مهتدون وأنّهم على ملّة إبراهيم واسحاق ويعقوب وموسى عليهم السلام، ولم يدروا أنّ عيسى عليه السلام هو على ملّة أولئك الرسل وأنّهم هم الخارجون عن الصراط المستقيم، لأنّهم كانوا واقعين تحت تأثير "الخديعة الكبرى". وكذلك النّصارى أنكروا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستجيبوا له، وتَمسَّكوا بادّعائهم لعيسى، وتمسكوا بأناجيلهم. ولم يدروا أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم على ملّة إبراهيم وعيسى عليهما السلام،وأنّهم هم الخارجون عن الصراط المستقيم بتأثير "الخديعة الكبرى". وها نحن اليوم نرى أنّ هذه السنّة جارية في طريقها، نرى أقواماً ينتسبون للإسلام ويدّعون الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم وقعوا تحت تأثير "الخديعة الكبرى"، خرجوا عن الإسلام وأنكروا الحكم بكتاب الله، واستهزءوا بالمؤمنين وحاربوهم حرباً عنيفة، وأعلنوا جهرة إيمانهم بالديمقراطية والاشتراكية والقوانين والأديان البشرية، يُعلنون ذلك وهم يزعمون أنّهم يقولون (لا إله إلا الله محمد رسول الله) كما قال أهل الكتاب: "لا إله إلاّ الله موسى رسول الله" أو "عيسى رسول الله" وهم ينكرون رسالة الإسلام الحنيف، ألتي جاء بِها محمد صلى الله عليه وسلم وهو موافقٌ فيها لموسى وعيسى عليهم السلام. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذّة بالقذّة، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه»، قالوا يارسول الله اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟» [متفق عليه]. لقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث أُمم كافرة مشركة، منكرةٌ للحنيفية ملّة الأنبياء، وكلّ واحدةٍ من هذه الأمم كانت تزعم أنّها على ملّة إبراهيم عليه السلام الذي أرسله الله بالحنيفية،كما أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بِها. وهم اليهود والنصارى والمشركون العرب. فأنزل الله تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [أل عمران: 67]. وموقف النبي صلى الله عليه وسلم المعروف من هذه الأمم. وهذا البيان القرآني والفصل الربّاني يدلّ على أنّ المؤمن الذي يعرف الفرق الّذي بين الحنيفية وبين الشرك بالله. ليس له أن ينخدع بِما يدّعية أهل الشرك والضلال من الإستقامة على الإسلام، وهم ينكرون التوحيد والدعوة إلى الحنيفية. إن المؤمن إذا أبتلي بأقوام ينتسبون إلى ملّة الأنبياء وهم يكفرون بأهمّ ما تضمنته رسالات الأنبياء، عليه أن يقتدي بِهدي الأنبياء ومواقفهم من أمثال أولئك المنخدعين بخديعة إبليس اللّعين. أما من كان لا يعرف الفرق الذي بين الحنيفية وبين الشرك بالله، فلا عجب فيه إذا جَمع بين الضدّين وإنخدع بالدعاوي والأكاذيب، فإن الله تعالى إنّما فصّل آياته لقوم يعلمون. قال تعالى: ﴿وَنُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة : 11].