( ج ) تعاقب الإسلام والجاهلية : إنّ عمل الشيطان هو إضلال الناس عن صراط الله المستقيم تدريجيا، فهو في حياة الأنبياء ونزول الوحى، أضعف ما يكون. ولا يجد ألى قلوب المؤمنين سبيلا. ويعجز عن تزيين الكفر والشرك والعصيان لهم، فيكون مغلوبا في هذه الفترة. ويكون أولياؤه كذلك مغلوبين في ميادين المعركة،غير قادرين على كسر جيوش الإيمان. ولكنه كلّما طال الأمد عليهم، بعد غيبة الأنبياء وقلّة العلماء، استطاع أن يستميل بعضهم ويخرجهم عن الصراط، أولاً بالمعاصي والفواحش. ثم باستحلال المعاصي واستحلال مخالفة الكتاب، ثم يزدادون مع مرور الزمن حتى تكون لهم الغلبة الظاهرة والكلمة النافذة، فيكون أهل الإيمان مغلوبين على أمرهم، ويكونون قلّة تحت سلطان الكفر والجاهلية. وكان الله الرحيم يُرسل رسله بعد ذلك ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور. فيستجيب لدعوتِهم الناس فيقوي جانب الإيمان، فتكون الكرّة للمؤمنين على أعدائهم،فيتضاءل الشيطان وتقلّ جنوده. إن لم يكونوا مهلكين بعذاب من الله استأصلهم. وهذا التعاقب بين الإسلام والجاهلية "سنة" لا تتخلف. ولا تكون حياة أي مجتمع بشريّ خارجة عن احدى هاتين الحالتين. لقد سارت الحياة البشرية في طريقها بعد آدم عليه السلام مهتدية عدّة قرون لا يعلمها إلاّ الله، ثم وقع الانتكاس والوقوع في الكفر والشرك والجاهلية، فارسل الله نوحاً عليه السلام، يدعوهم إلى العودة إلى الإسلام الأول الّذي كان قبل هذه الجاهلية. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [سورة العنكبوت: 14]. فانتهي أمر الجاهلية واستخلف الله المؤمنين في الأرض بعد أن أنجاهم من الطوفان ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [العنكبوت :15]. وبعد ذلك كثُر المؤمنون، وعمروا الأرض، وأصبحوا أُمماً وقبائل، ثم وقعوا في الجاهلية والخروج عن صراط الله مرّة أخرى. ولم يقصص الله تعالى علينا كل أخبار الأمم، وكّل الرّسل، لأنّ قصصهم مع أقوامهم متشابِهة.فقصّ علينا طرفاً من ذلك. وسكت عن الآخرين. أخبرنا الله أنّه أرسل هوداً إلى عادٍ فكفرو به وبما جاء به من عند الله. فأرسل عليهم ريحاً أهلكتهم، ونَجّى هوداً والمؤمنين، وجعلهم خلفاء الأرض. قال تعالى: ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ، سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا﴾ [الحاقة: 7]. وقال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ [هود : 58]. وأخبرنا الله أيضاً أنه أرسل صالحاً إلى ثمود، فكفروا به وبما جاء به من الحق. وأنّه أهلكهم بصيحة، ونَجَّى المؤمنين مع نبيهم صالح، وجعلهم خلفاء الأرض. قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ، وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ [هود:66-67]. وأخبرنا أيضاً قصة شعيب ولوط وموسى وغيرهم -عليهم السلام- الّذين كُذِّبُوْا فاهلك الله أعداءهم الكفرة بعذاب استأصلهم . ثم أرسل الله تعالى رسوله الأخير محمدا صلى الله عليه وسلم فكُذِّب كما كُذِّب الّذين من قبله من الرسل. فنصره الله على أعدائه، فهزمهم في المعارك، حتى دخلوا في الإسلام طائعين وكارهين. ثم أسلمت العرب والعجم، وانتشر الإسلام إنتشاراً واسعاً. وساد المسلمون الأرض، وأصبحت جنود إبليس ذليلة مغلوبة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن سنة الله هذه في تعاقب الإسلام والجاهلية ستكون جارية في طريقها، وأنه سيخرج من هذه الأمة متنبئون ومرتدون. وستدرس معالم الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدري ما صلاة ولا صيام ولا نسك، ولكن لا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحقّ حتى تقوم الساعة. وفي الحديث: «إن الله زوى لي الأرض فأُريتُ مشارق الأرض ومغاربِها، وأنّ ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها، وأعطيتُ الكنْزين الأحمر والأبيض، وإنِّي سألتُ ربِّي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، ولا يسلط عليهم عدوّاً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال لي: يا محمد إنِّى إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يردّ، وإنِّي أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنةٍ عامةٍ ولا أسلّط عليهم عدوّاً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، وحتى يكون بعضهم يسبى بعضا، وإنّما أخاف على أمتي الأئمة المضلِّين. وإذا وُضِعَ السيفُ في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة. ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان. وأنه سيكون في أُمتي كذَّابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نَبِيٌّ وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي. ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى» [ابو داود، ومسلم]. وفي الحديث: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة». "وذو الخلصة طاغية دوس ألتي كانوا يعبدون في الجاهلية" [متفق عليه].