(الرابعة) الطاعة للقيادة تقوم النظرية الإسلامية للحكم والسياسة على القواعد الأتية: (أ) إن الله تعالى هو الملك الحقيقى لهذا الكون، وهو مصدر الحكم والتشريع للمجتمع الإسلامي الّذي رضى بالله ملكاً وربّاً، وكفر بملوك وأرباب الأرض. وكلّ ما يصدر من الله من الأوامر والنواهي يجب أن يمتثل به المسلمون وينفذوهُ وهذا الأمتثال والتنفيذ هو العبادة المطلوبة وهو معنى (لا إله إلا الله). قال تعالى: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 40]. (ب) إن الله تعالى أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم ليطيعه الناس في كل ما يبلغهم عن الله من كتاب وحكمة.فمن أطاعه فقد أطاع الله ومن عصاه فقد عصى الله. وهذا هو معنى (محمد رسول الله). قال تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [الشعراء: 110]. قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [النساء:64]. وقال تعالى: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء:80]. وقال تعالى: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7]. (ج) وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون للمسلمين أميرٌ أو خليفةًٌ يحملُ الناس على طاعة الله ورسوله، ويختاره المسلمون من بينهم .. وتكون طاعته واجبة ومن طاعة الله ورسوله، عندما يكون هو منقادا لكل ما ثبت عن الله ورسوله بنصٍ صريح. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59]. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن العاصي للأمير المسلم يكون عاصياً لله ورسوله وعليه إثم عظيم. فقد جاء في الأحاديث الثابتة: «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولاحجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» [مسلم]. وقال صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصانى فقد عصى الله. ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني» [متفق عليه]. وقال صلى الله عليه وسلم: «إسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبدٌ حبشيٌ كأن رأسه زبيبة» [البخاري]. وقال صلى الله عليه وسلم: «من فارق الجماعة شبراً فقد خلع الإسلام من عنقه» [أبوداود]. والأمير المسلم ليس بمعصوم، فإن أَمر بمعصية لايحلُّ للمسلم أن يطيعه فيها، وقد جاء في الحديث: «إنما الطاعة في المعروف». [متفق عليه]. والحديث: {على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبَّ وكره، إلا أن يؤمر بِمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة} [متفق عليه]. ولكن لا يجوز للمسلم أن يخلع يده من الطاعة والبيعة إلا إذا رأى كفراً بواحاً. كما جاء في الحديث: «إلا أن تروا كفراً بواحا عندكم من الله برهان» [متفق عليه]. قال أبوبكر الصديق رضي الله عنه لما اختاره المسلمون لمنصب الخلافة: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم» (د) وإذا تنازع الأمير وغيره في أمر قد بين حكمه في نصّ صحيح صريح، يجب الأخذ بالقول الموافق للنصّ، ويجب على الأمير أن يرجع إلى هذا القول إن لم يكن قوله. كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: 59] أما إن لم يكن لهذا الأمر المختلف فيه نصٌ صريح، أو اختُلِفَ في فهم النصّ الوارد فيه. أو كان الإختلاف فيه قديماً بين فقهاء المسلمين. فكل هذه الحالات الإجتهادية. للأمير أن يحمل الناس على رأى واحد يختاره بعد إستشارة أهل العلم. وهذا إذا كان الإختلاف في الأمر المعين مما يفرِّق وحدة المسلمين وإتّفاق كلمتهم. كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أكره الخلاف أو كلمة نحوها. لما صلَّى خلف عثمان رضي الله عنه أربع ركعات. وكان رأيه أن تصلّى ركعتين. وكان عثمان أمير المؤمنين يومئذ. كان عمر رضي الله عنه يطيع أبابكر في أمور يخالفه فيها في الرأي .. كتسوية المسلمين في العطاء، وكان عمر يرى تفضيل السابقين في العطاء. وكتأمير خالد بن الوليد في الحروب، وكان عمر يرى عزله عن القيادة. ثم عمل برأيه في خلافته. ولم يخالفه المسلمون كما لم يخالفوا أبابكر من قبل، لأن كليهما كان مجتهداً. مأجوراً على كل حال كما جاء في الحديث: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم واجتهد فأخطأ فله أجرٌ» [متفق عليه]. وهذه هي أهمّ القواعد التي تقوم عليها النظرية الإسلامية للحكم والسياسية، وهي تخالف مخالفة أساسية كل النظريات الجاهلية للحكم والسياسية والتشريع،التي تعطي البشر حقّ التشريع للعباد، وتَجعله مصدر السلطات، أي تَجعل البشر آلهةً "وأرباباً" من دون الله. والمسلم المحافظ لدينه ليس أمامه مجال للتفاهم والإصطلاح مع الجاهلية الحديثة، سواء ادّعوا الإسلام أو لم يدّعوه. وليس أمامه إلا السعي والعمل في تكوين الجماعة المسلمة التي تعتبر الخطوة الأولى في بناء المجتمع الإسلامي الكبير القائم على الأصول التي قرّرها الله ورسوله. والجماعة الإسلامية الناشئة تعتبر صورة مصغرة للمجتمع الكبير. فيجب أن يكون واقعها ترجمة صحيحة للإسلام عقيدةً وخلقاً وسلوكاً. ويجب أن يكون مفهوماً لديها أنّها لا تستحق من الله العون والتاييد والنصر حتى تخلص عملها لله وتتجرّد له، وحتى تتخلص من النفاق في الإعتقاد والعمل، وحتى تحبّ من تحبّه لله، وتبغض من تبغضه لله. وحتى تطيع قيادتَها طاعةً صحيحة لا إكراماً لشخصٍ، ولكن إبتغاء وجه الله وطاعة لله ولرسوله. ويجب أن تختار لقيادتَها الّذين يعرفون قدرها.. ويعرفون أنّها أمانة، وأنّها يوم القيامة خزىٌ وندامة كما في الحديث «إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة» [البخاري]. فلا يقوم لهذا الأمر إلا الذّين لهم هذه المعرفة، وهذه الخشية من محاسبة الله. فيهابون حَملها ويودّون أن غيرهم كفاهم. كما جاء في الحديث: «تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا .. وتجدون خيار الناس في هذا الشأن أشدهم كراهية له. وتجدون شرّ الناس ذا الوجهين الّذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه» [متفق عليه]. ويجب أن لا يختاروا للولاية والقيادة أحداً سألها، أو حرص عليها.. كما جاء في الحديث «إنا والله لا نولّي هذّا العمل أحداً سأله، أو أحداً حرص عليه» [متفق عليه]. لأن هذا السؤال وهذا الحرص دليل على قلّة معرفته بحقيقة الأمر وخطورته، والمسئوليات التي يضعها على عاتقه.. والتي يكون وراءها السؤال والحساب الإلَهي الدقيق. وفي الحديث: «قال أبوذر :قلت: يا رسول الله ألا تستعملني، فضرب بيده على منكبي. ثم قال: يا أباذر، إنك ضعيف، وإنّها أمانة وإنّها يوم القيامة خزى وندامة، إلاّ من أخذها بحقّها وأدّى الّذي عليه فيها» [مسلم]. وفي الحديث «يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل ألإمارة، فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أُعِنْتَ عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وُكلتَ إليها» [متفق عليه].