(الثالثة) (الأخوة في الله ) : إذا عرفتَ أن المؤمنين إخوةفي شرع الله. فاعلم أنّ هذه الأخوة أعلى قدراً من أخوة النسب كما يدلُّ قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ على أن الأخوة الحقيقية هي التي جعلها الله بين أوليائه المؤمنين..وأنّها محصورة فيهم ولا تتعدى إلى غيرهم. إن الأُخوة في الله تتحقّق مع تباعد الناس في النسب، فيتولّى المؤمنون بعضهم بعضاً. قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 71]. قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [المائدة:55-56]. أما "أُخوة النسب" فمفتقرة إلى "الأخوة في الله" فإن إنعدمت "الأخوة في الله" لاتنفع "أُخوة النسب"وحدها،ولا تجعل المؤمن ولياً لأخيه في النسب إذا كان كافراً. قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [التوبة: 23]. قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 144] فليس بين المؤمن وبين قريبه ونسيبه الكافر مودة وموالاة، وإن بقيت المصاحبة بالمعروف وصلة الرحم عندما لا يقاتلونه في الدّين ولايجهرون بطعن الإسلام ... فدلّ ذلك على أن الأخوة في الله أعلى قدراً من أُخوة النسب والقرابة. وينبغي أن نعرف أن الله لا يريد منا أن نقول "نحن إخوة في الله" قولاً دون أن تتجلَّى الأخوة في سلوكنا وعلاقاتنا والتعامل الّذي بيننا .. إن الله لا يريد منا ذّلك. قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2-3]. إنّ الله يريد منا أن نراعي حقوق الأخوة مراعاةً كاملةً هذه الحقوق المبيّنة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.يريد منّا أن نكون كالجسد الواحد في التعاطف والتراحم. قال تعالى: ﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح:29]. وقال تعالى: ﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة:54] وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكي منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمى» [متفق عليه]. وقال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعصاُ. وشبك بين أصابعه» [متفق عليه]. وقال صلى الله عليه وسلم: «لايؤمن أحدكم حتي يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه» [متفق عليه]. وقال صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربةً فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة» [متفق عليه]. وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: «المسلم أخو المسلم، لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله. كلّ المسلم على المسلم حرامٌ عرضه وماله ودمه. التقوى ها هنا، بحسب إمرئٍ من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم» [الترمذي]. وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا، ولاتناجشوا، ولا تباغضوا، ولاتدابروا، ولايبع بعضكم على بيع بعض.وكونو عباد الله إخواناً. المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يخذله. التَّقوى ها هنا. ويشير إلى صدره ثلاث مرّات، بحسب إمرىءٍ من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» [مسلم]. وقال صلى الله عليه وسلم: «أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» فقال رجلٌ يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً، أرأيت إذا كان ظالماً، كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره» [البخاري]. وقال صلى الله عليه وسلم: «حق المسلم على المسلم ستٌّ: إذا لقيته فسلم عليه، إذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمتّه، وإذا مرضَ فعُده، وإذا مات فاتبعه» [مسلم]. وكان لتوجيهات القرآن وتوجيهات النبيّ صلى الله عليه وسلم أثرٌ كبير في غرس شعور "الأخوة في الله" في قلوب الجماعة المسلمة الأولى فكانوا كما قال الله تعالى عنهم: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر:9] وينبغي أن نعرف كذلك أن التآخي والتحابي والتآلف الّذي بين المؤمنين إنما جاء من عند الله، وهو الّذي ألّف بين قلوبِهم كما قال تعالى: ﴿ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾ [الأنفال:63]. فإذا زال الإيمان من القلوب، وعمل الناس بِخلاف كتاب الله ونسوا حظاً منه، فسيزول تبعاً لذلك التآلف والتآخى والتحابى، وسيحلّ محلَّه التباغض والتحاسد والعداء. وهذه سنة إلهية قد تحقّقت فيمن قبلنا من أهل الكتب قال تعالى: ﴿ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [المائدة :14]. وروى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصى نَهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم وآكلوهم وشاربوهم مع أنّهم لم يرجعوا عن ضلالهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ﴿ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً فقال: لا والّذي نفسى بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عباد الله،لتسوُّنَ صفوفكم أوليخالفن الله بين قلوبكم» [متفق عليه]. وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدوٍ لاتقام فيهم الصلاة إلاقد إستحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية» [أبوداود]. وتحقّقت هذه السنة كذلك في المسلمين لما نسوا حظاً من كتاب الله، وأتبعوا سنن اليهود والنصارى، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، فاختلفوا وتفرّقوا وضعفوا كثيراً عن ردّ هجمات الأعداء. وهم الذين كانوا سادة العالم، ودانت لهم مشارق الأرض ومغاربِها، يوم أن كانوا مؤمنين حقيقيين متآخين في الله إلى أن سقطت (بغداد) في يدّ المغول (التتار)، وكانت عاصمة الخلافة الإسلامية في سنة656ﻫ، وكان ما كان من القتل والإبادة الوحشية التي لم يعرف لها مثيل. وكذلك سقطت الأندلس والشام في قبضة الصليبيين، فوقع شبه ما وقع في بغداد من القتل والإبادة والتشريد. ثم كان المسلمون ينتصرون كلما عادوا إلى الله وإلى العمل بكتابه، كما كان الحال في الشام ومصر في أيام صلاح الدين يوسف، ونور الدين محمود. وبعدهم أيام دولة المماليك، بفضل جهود العلماء الصلحاء "كالعزّ بن عبد السلام، وشيخ الإسلام ابن تيمية" وغيرهم . وقد بلغ الضعف والبعد عن كتاب الله منتهاه في القرون الأخيرة. وتنكّر الكثيرون لدينهم وقلّدوا الغربيين. واستمدوا منهم النظم والشرائع ومبادىء العمران والمدنية فصاروا غثاء كغثاء السيل .. فأذلهم الله وأهانهم .. وأصبحوا اليوم يعرفون (بالعالم المتخلف) أو (العالم الثالث) بعيدين عن عزّ الدنيا والآخرة.