(الثانية) (التجمع على آصرَةِ العقيدة) يجب أن تكون الجماعة الإسلامية جماعةً عالميةً مفتوحةً لجميع أجناس البشر، على إختلاف الألوان واللّغات، لأنّ الله هو الّذي أراد أن يتجمّع المؤمنون على آصرة العقيدة، دون أواصر اللّون واللغة والقوم والقبيلة والحرفة. وقد فرّق الناس كلّهم إلى فرقتين هُما :أولياؤه وأعداؤه. أوحزب الله وحزب الشيطان. قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10]. وقال تعالى: ﴿ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران: 103]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه» [متفق عليه]. وقال صلى الله عليه وسلم: «وكونو عباد الله إخواناً» [مسـلم]. فدلّ الكتاب والسّنة على أن المؤمن أخٌ للمؤمن، وإن كان بعيد الدار والنَسبِ. وقد كانَ صلى الله عليه وسلم يُقاتل قريشاً قومه، وقتلَ منهم سبعين من أشرافهم وصناديدهم ببدرٍ، في وقتِ كانت الأنصارُ أحبّ الناس إليه. وقد قال عنهم: «لو سلك النّاسُ شعباً وسلكتِ الأنصارُ شعباً لسلكتُ شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت إمرءاً من الأنصار»} [البخاري]. وقال صلى الله عليه وسلم: {الأنصارُ لا يُحبُّهم إلاّ مؤمن، ولا يُبغضهم إلاّ منافق، فمن أحبّهم أحبّه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله} [البخاري]. وقال صلى الله عليه وسلم: «الأنصارُ كرشي وعيبتي» [متفق عليه] أي: بطانتي وخاصتي. وذلك لما كانوا عليه من حسن الإسلام ونصرةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم والوفاء بالعهود والصدق عند اللقاء. لم يكونوا أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم في عمود النّسب، ولكنّ الإيمان رفعهم إلى تلك المنْزلة العالية. وكان بلال رضي الله عنه من خواص صحابتة، وكان رضي الله عنه عبداً حبشياً أعتقه أبوبكر رضي الله عنه بعد إسلامه. وقال صلى الله عليه وسلم عن سلمان الفارسيّ: «سلمان مناّ أهل البيت» [الطبرانى والحاكم]. وكان صلى الله عليه وسلم يُحبُّ زيد بن حارثة وابنه أسامة. وكان من صحابته عمّار، وخباب وصهيب الروميّ. وهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم إرتفعت منْزلتهم عند النبي صلى الله عليه وسلم وعند المسلمين بسبب حسن إسلامهم وجهادهم، بعد أن كانوا في الجاهلية من العبيد والموالي. لقد تعلّم المسلمون الأوائل من القرآنِ أن لا وزنَ لروابط القرابة والنسب إذا إنقطعت رابطة العقيدة، وأن الّذين تَجمعهم العقيدة في الله لا يفتقرون إلى قرابة النسب والمصاهرة كي يكونوا إخوةً. وإنّما هم إخوةٌ بالإيمان بالله وحده. جاء في القرآن مثالٌ للأب المؤمن والإبن الكافر في قصة نوح عليه السلام الّذي أهلك الله ابنه مع الكفار. قال تعالى: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [هود:45-46]. وجاء فيه مثالٌ للأب الكافر والابن المؤمن في قصة إبراهيم عليه السلام الّذي اعتزل أباه وقومه لما أصرّوا على الشرك. قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا، يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا، يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا، يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا، قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ [مريم :41 –45]. وجاء فيه مثالٌ للرجل المسلم وزوجته الكافرة في قصة امرأة نوح وامرأة لوط. قال تعالى: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾ [التحريم: 10]. وجاء فيه مثال للمرأة المؤمنة والرجل الكافر في قصة "آسية" امرأة فرعون. قال تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [التحريم: 11]. وجاء فيه مثالٌ للشباب المؤمنين في البيئة الكافرة في فتية أصحاب الكهف: قال تعالى: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا، هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ، وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ﴾ [الكهف: 13-16]. وهذه القصص والأمثلة المتنوعة تدلُّ على أن الله لا يريد للبشر أن يتجمّعوا على آصرةٍ غير آصرة العقيدة، وأن المسلم لا يتّخذ أقرباءه من أهل الشرك إخوة في الدِّين، وأن الإختلاف في العقيدة تنشأ عنه براءة الأبّ من الإبن والإبن من الأب، وبرآءة الزوج من الزوجة والزوجة من الزوج. وهذه حكمةُ أحكم الحاكمين . إن القيمة العليا في ميزان الله هي قيمة الإيمان، فيجبُ أن يكون التفضيل بين الأشخاص قائماً على أساس الإيمان والتقوي والعمل الصالح. ويجب أن يتحرّر المؤمنون من كل القيم الجاهلية التي كانوا يزنون الأشخاص والأحداث على أساسها في جاهليتهم. إن الإنسان الجاهليّ يُعظِّم ويَحترم بعض الأشخاص لأنَّ لهم أموالاً كثيرة، أو لأنّهم من بني فلان، ويحتقر آخرين لأنّهم ينتسبون إلى أجدادٍ مجهولين، أو لأنّهم من ذوي الألوان السُود، أو الحمر، أو لأنّهم من الطبقات الفقيرة. إن الإسلام لا يعرف هذه التفرقة الجاهلية، ولا يزنُ الأشخاص بِهذه الموازين والقيم الجاهلية. قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم ﴾ [الحجرات: 13]. فالإنسان الكريم هو التقيّ في ميزان الله، وإن كان خالياً من كل هذه الإعتبارات الجاهلية، كما بيّنه الله تعالى وهو خير الفاصلين. وقال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ، أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ [ص:27-28]. وقال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف :28]. قال تعالى: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ، وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 52-53]. وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ، وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا ﴾ [مريم:73-74]. وقال تعالى: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58]. وقال تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [البقرة:212]. عن أبى هريرة  أن رسو ل الله صلى الله عليه وسلم قال: «ربّ أشْعَثَ أَغبَرَ مَدفُوعٍ بالأبْوَابِ لَوْ أقسَمَ على الله لأبره» [مسلم].