( 4 ) ضرورة ميلاد الجماعة إن جمع المسلمين وتوحيدهم كي يكوّنوا جماعةً متعاونة تسعى لتحقيق ألوهية الله في الأرض وإزالة الأنظمة البشرية، والطواغيت المطاعة الحاكمة بغير ما أنزل الله ليس نافلة من النوافل التي للإنسان فيها الخيار، وإنما هي فريضة دينية لها أهمية عظيمة في نظر الإسلام. وأهْميتها تظهر لك من وجوه كثيرة : (الأول) إن الغاية التي لأجلها يسعى المسلم هي بلوغ رضى الله ودخول جنّته، وقد أنزل الله في كتايه صفات أهل الجنّة في الدنيا فقال: ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ [الشورى:36-39]. فذكرت الآيات صفات المؤمنين الذين سيدخلون الجنّة، ومن هذه الصفات: (1) أن أمرهم شورى بينهم، فهم جماعة واحدة، لها أهداف ومصالح مشتركة فهي تصدر قراراتِها بعد الشورى وتبادل الآراء. (2) إنّهم إذا اصابَهم البغي ينتصرون. فهم وحدةٌ واحدةٌ، قادرةٌ على الحركة لردّ الإعتداء في كل حين، لا يختلفون ولا يتفرّقون، لأنّ لها من يوجّهها ويأمرها فيُسمع ويطاع. فعلى المؤمن الحريص على دخول الجنّة والنجاة من النّار أن يكون عضواً في جماعةٍ لها تلك الصفات. وقد جاء في الحديث: «يد الله مع الجماعة ومن شَذَّ شُذَّ في النّار» [الترمذي]. وقال صلى الله عليه وسلم: «وأن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملّة -يعني الأهواء- كلّها في النار إلاّ واحدة وهي الجماعة» [أحـمد وابن ماجه]. وقال صلى الله عليه وسلم: «والجماعة رحمة والفرقة عذابٌ» [أحـمد]. وقال صلى الله عليه وسلم: «فمن أراد منكم بحبحة الجنّة فليلزم الجماعة» [أحمد]. (الثانى) إن المسلم مأمورٌ بإقتفاء آثار رسل الله عليهم الصلاة والسلام في كل أمرٍ من أمور الحياة، لأنّهم كانوا على الصراط المستقيم. وقد كان من هديهم إتّخاذ الأنصار والأعوان من المؤمنين المستجيبين لدعوتِهم إلى الإسلام. قال تعالى: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 52]. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾ [الصف:14]. وقال تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾ [الإسراء: 80]. وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال:62-63]. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل ويطلب منهم أن ينصروه حتى يبلِّغ رسالة ربه. فلما أسلمت قبائل الأوس والخزرج سَمَّاهم (الأنصار) وأخذ منهم البيعة على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأولادهم. فمن كان مقتدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم فعليه بِهذا السبيل الذي هو أن ينصر الحق بالطريقة التي نصره بِها رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الإقتداء بِهديه صلى الله عليه وسلم لا يتمّ بإعفاء اللحي وترك الإسبال في اللباس والخشوع في الصلاة وغير ذلك من الأعمال الشّرعية التي يأتي بِها المسلم بمفرده. إن الإقتداء بِهديه صلى الله عليه وسلم لا يتمُّ حتى يسلك المسلم مسلكه صلى الله عليه وسلم في نصر الحق وإظهار دين الله على الأديان، وإن كان ذلك أمراً شاقّاً في ظاهره يحتاج إلى بذل النّفس والمال، فليس هو مخيّر في ذلك: قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا﴾ [الأحزاب:36]. قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب:21]. فمن النفاق أن نتّخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتنا في الأمور السهلة اليسيرة ولا نتّخذه في الأمور الشاقّة العسيرة، كما أنّه من الجهل والعجز أن نقول: إنه صلى الله عليه وسلم أُسوتنا في كل شىء، ثم لا نَجتهد في فهم أهدافه وأحواله وهديه العملى في كل الشئون. وإليك بعض الأحاديث التي هي مما قالها عن نفسه صلى الله عليه وسلم: «ألا إنّ ربِّي أمرني أن أُعلِّمَكُم ما جهلتم يومي هذا: كل مال نَحلْتُهُ عبداً حلالٌ. وإنِّي خلقتُ عبادى حنفاء كلّهم وإنّهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتْهم أن يشركوا بِي ما لم أنزل به سلطاناً.وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربَهم وعجمهم إلاّ بقايا من أهل الكتاب. وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلى بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظان، وإن الله أمرنى أن اُحرّق قريشاً.فقلت:رب إذاً يثلغوا رأسى فيدعوه خبزةً، قال إستخرجهم كما إستخرجوك واغزهم نغزك وأنفق فسننفق عليك.وابعث جيشاً نبعث خمسةً مثلُه، وقاتل بمن أطاعك من عصاك». [مسلم]. وقال صلى الله عليه وسلم: «بُعثتُ بين يدي الساعة ليُعْبَدَ الله وحده، وجعل رزقي تحت ظلّ رمحي، وجُعِل الذلّة والصغار على من خالف أمرى». [الترمذي]. وقال صلى الله عليه وسلم: «أنا نبيّ التوبة أنا نبيّ الملحمة» [أحـمد]. وقال صلى الله عليه وسلم: «أنا الضّحوك القتال» [مجموعة الفتاوي]. وقال صلى الله عليه وسلم:{والّذي نَفسي بيده لوددتُ أني أُقتل في سبيل الله ثّم أحيا ثّم أقتل ثّم أحيا ثّم أقتل) [متفق عليه]. وقال صلى الله عليه وسلم: «والّذي نفسي بيده لأقاتلنَّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتى. ولينفذنّ الله أمره» [البخاري]. (الثالث) إن المسلم مأمور بجهاد الكفار حتى لا تكون فتنة ويكون الدّين لله. قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ [الأنفال:39]. وليس له أن يبخل بنفسه وماله، وإلاكان خارجا عن صفّ المؤمنين. قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ [التوبة:111]. وهذه الفريضة لا يقدر على أدائها إلاّ الجماعة المتّحدة الكلمة، التي تتلقَّى الأوامر من مصدر واحد. فالجهاد إذاً متوقّف على وجود الجماعة، فبناؤها يكون واجباً كذلك، لأنّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فمن كان صادقاًفي إيمانه بفريضة الجهاد في سبيل الله لا بدّ له من أن يؤمن بضرورة بناء الجماعة الإسلامية. وإلاّ كان كاذباً في إدعائه للإيمان بفريضة الجهاد في سبيل الله.ولقدكان عدد المسلمين العاملين في الجيوش الإسلامية التي كانت تعمل بأمر النبي صلى الله عليه وسلم يبلغ ثلاثين ألفاً لما نزلت ﴿إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ [التوبة:39]. فإذا كان القعود عن الجهاد لا يحلُّ للمسلم حتى وإن كانت للمسلمين قوةٌ ومنعةٌ، فكيف له أن يقعد عن تأييد المسلمين والإنضمام إلى جماعتهم في وقت لم يعد لديهم قوّة ومنعة وهم في أشدّ الحاجة إلى من ينصرهم ويقف إلى جنبهم، كما هو حال المسلمين الحقيقيين اليوم الذين يحاولون أن يكونوا مسلمين كما أراده الله لهم في ظلّ الحكومات الجاهلية المحاربة للإسلام. فليس لنا أن ننخدع بأقوال المحتالين المنافقين، الذين إعتادوا أن يقولوا نحن نؤمن بفريضة الجهاد ولا نؤمن بضرورة بناء جماعة إسلاميةً.ليس لنا أن ننخدع بِهذا لأنه ظاهر التناقض، ولايصدر إلاّ ممن هان عليه أمر دينه. ويردّ عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرته وما هو معروف من التاريخ الإسلامي، الّذي لا يحفظ جهاداً إسلامياً ذا شأن تمّ بدون جماعة وقيادة إسلامية مطاعة. إنَّ المسلمين جنود الله في التصور الإسلامي، ويقاتلون في سبيل الله. وإنَّ المشركين جنود الطاغوت ويقاتلون في سبيل الشيطان. قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76]. فإذا تفرَّقت جنود الله وجنود الطاغوت مجتمعةٌ فلن يكون هناك قتال ودفعٌ للباطل، فيظل أهل الشرّ مسيطرين على رقاب العباد. (الرابع) إن في كتاب الله قوانين دولية وإجتماعية كثيرة، وفيه حدود لايستطيع إقامتها الأفراد المتفرقون مالم يجتمعوا ويوحدوا كلمتهم ويكونوا جماعة إسلامية. فإن فعلوا ذلك وقُدِّرلهم السلطة والتمكين، فعندئذ يقدرون على إقامة تلك الحدود كما يريده الله. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ [الحج:41]. والمسلمون مأمورون بأن يحاولوا جهدهم المستطاع في تحسين أحوالهم، حتى يبلغوا درجة من القوّة يقدرون بِها على إقامة كتاب الله، وإلاّ كانوا كالذين نزلت فيهم الأية: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [المآئدة :68]. فالجماعة إذاً ضرورية لإقامة كتاب الله وتنفيذ الحدود والأحكام الكثيرة التي يحتويها. (الخامس) إن الإنسان إذا أسلم وحسن إسلامُه تنقطع المودة والموالاة بينه وبين أقرب أقربآئه، بل إنّهم في أكثرالأحيان يعادونه ويحاولون أن يفتنوهُ عن دينه. فإن حدث ذلك يكن المسلم في حاجة إلى إخوة في الدِّين، يجد فيهم التوجيه والإرشاد والتثبيت، والتواصي بالحقّ، ويقاسمونه المشاكل والمتاعب التي تواجهه، والتي تنشأ عن الروابط والوسائل المنقطعة بسبب العقيدة. فإن وجد المسلم هذه الجماعة فإنه يكون في ملجأ ومأمن من كثير من الوساوس الشيطانية،التي تلاحق المسلم في أول إسلامه وهو يقاوم ضغط المجتمع الجاهلي، ويواجه المحن والشدائد بمفرده. فالجماعة إذاً ضرورية لصيانة الإنسان من وساوس الشيطان. وقد جاء في الحديث: «فإن الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد» [أحـمد]. وقال صلى الله عليه وسلم: «فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية» [أبو داود]. (السادس) إن لدين الله أعداءً يتربّصون به ويجتهدون في محوه وإزالته من قلوب معتنقيه وعقولهم بالقوة والإغراءوالتعليم الفاسد، ولايتردّدون في قتل المئات والآلاف إذا سنحت لهم الفرصة.ويشهد لهذا القرآن والتاريخ. قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ [النساء:101]. وقال تعالى: ﴿ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ﴾ [التوبة:10]. وقال تعالى: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ﴾ [البقرة:217]. وقال تعالى: ﴿ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ﴾ [الممتحنة:2]. وهذا الّذي تقرّره الآيات قد عُرف أنه الموقف الطبيعي الذي يحفظه التاريخ للكفار في كلّ بقعة تغلبوا على المسلمين فيها. فمذابح الصليبين في الأندلس والشام معروفة، وكذلك التتار وأفاعيلهم الوحشية في المشرق الإسلامي وعاصمة الخلافة الإسلامية مسجّلة في التاريخ. وبعد ذهاب سلطان المسلمين والخلافة الإسلامية لم تنته بعد الحروب الصليبية، ولا يزالون يطاردون المسلمين الحقيقيين بواسطة عملائهم الذين يتسمّون بأسماء المسلمين، الذين هم في الحقيقة قيادات رمزية خاضعة لنفوذ الصليبيين والصهيونيين الكفرة. فوجود الجماعة الإسلامية ضروريٌّ للدفاع عن الإسلام المهدّد ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾ [الأنفال:73]. إذا عرفتَ أنّ ميلاد الجماعة الإسلامية في المجتمع الجاهلي ضرورية، فيجب أن تعرف على التحديد ما هي أهداف الجماعة الإسلامية؟. إنّ الهدف الرئيسي للجماعة الإسلامية يجب أن يكون بلوغ رضى الله وجنّته والنجاة من سخطه وناره. قال تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴾ [الفرقان:63-66]. وقال تعالى: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ، وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ﴾ [الشعراء:83-85]. ولكن الله تعالى أخبر أنّ هذا الهدف الرئيسي لايتحقق بالأماني والدعاوى، وإنما يتحقق بالعمل والسعي والجهاد حتى يكون الدين كلّه لله وأن الجنة لا يدخلها إلا من إشتراها من الله بنفسه وماله. قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الْأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ، رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ. رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ [آل عمران: 190-195]. وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة:111]. وقال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142]. وقال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214]. وقال تعالى: ﴿ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبه:88-89]. وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبه: 33]. فإذا كان هذا ما قرّره الله في محكم كتابه فلابد أن يكون من أهداف الجماعة الإسلامية إلغاء الجاهلية وإحلال الإسلام محلّها، وأن تكون وسيلتها في تحقيق هذا الهدف: (1) البيَّان: أي الدعوة إلى الإسلام الحقيقي وتصحيح مفاهيم المنحرفين عنه. (2) الحركة: أي بناء الجماعة الإسلامية التي يتمثل فيها منهج الله، والتي تكون أسوة وقدوة لغيرها في تطبيق الإسلام، وحَمل راية الجهاد في سبيل الله، والجهاد يحتاج إلى إعداد العدّة والقوّة من الرجال والسّلاح والمال. كما قال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [الأنفال: 60]. وليس البيّان وبناء الجماعة مرحلتين بينهما فترة زمنية وإنما هما عملان يتّمان في آن واحد، لأن أول من يستجيب للدعوة والبيان سيكون اللبنة الأولى لبناء التّجمع الإسلامي. وقد كانت الجماعة الإسلامية الأولى في وقت من الأوقات تتكوّن من النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بكر،وخديجة، وزيد ابن حارثة، وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم. ثم إستمرّت الدعوة والبيان فأستجاب لها :عثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف. فانضموا إلى الجماعة فأزداد عدد أفرادها. وهكذا كلّما استجاب للدعوة فردٌ أو أفرادٌ كانت الجماعة تنموا وتقوى ويكثر أنصارها ودعاتَها، وبالتالي يكبر تأثيرها في المجتمع الذي كان يأتي بردّ فعل عنيف غضباً لعقائده ونظامه العريق، ولكن ذلك لم يكن يزيد الدعوة إلاّ انتشاراً، والجماعة إلا قوةًّ، فكانت الجماعة الأولى كما قال الله تعالى: ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ [الفتح:29]. وهذا هوالطريق الصحيح لنشأة كلّ جَماعة إسلامية. قال سيد قطب (رحمه الله): "يجب أن يعرف أصحاب هذا الدِّين جيداً أنه -كما إنه في ذاته دين ربانيٌّ- فإن منهجه في العمل منهج ربانيٌّ كذلك. متوافٍّ مع طبيعته، وإنه لا يُمكن فصل حقيقة هذا الدين عن منهجه في العمل" . [معالم في الطريق].