(ثالثا) قطع موالاتِهم: لا يحلّ للمسلم أن يوالي أهل الجاهلية المشركين، وأن يتّخذ منهم أولياء. وكلمة (وليّ) تحمل معاني القرب والحبّ والنصرة والطاعة. والمرء قبل إسلامه كانت عشيرته أوقبيلته أومجتمعه أقرب النّاس إلى قلبه، وكان يحبُّهم ويطيعهم وينصرهم ويرجوا منهم النصرة، وكان يغضب لهم ويكره مساء تَهم. وهذا هو (الولاء) فإذا أسلم المرء وبقيت العشيرة أو القبيلة أو المجتمع في الشرك لا يحلُّ أن يستمرّ ولاؤه لهم،وأن يكون كما كان قبل إسلامه، بل عليه قطع موالاتِهم، واتّخاذ المؤمنين أولياء له من دونِهم. فمن أعلن موالاته لأهل الشرك وبراءته من أهل التوحيد كان كافرا مشركا مثلهم. ومن أعلن موالاته لأهل التوحيد وبراءته من أهل الشرك، ولكنه أضمر خلاف ذلك ووالى المشركين في السرّ كان منافقاً له ما للمنافقين في الدنيا والاخرة. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [التوبة:23]. وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة:51]. قال تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا. الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء:138-139]. وقال تعالى: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾ [آل عمران:28]. قال الإمام إبن كثير في قوله تعالى: ﴿ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾ أي من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرّهم فله أن يتقيهم بظاهره لابباطنه ونيته، كما قال البخارى عن أبي الدرداء أنه قال "إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم". وقال الثوريّ: قال ابن عباس: "ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان". ولم ينه الله المسلمين عن صلة أرحام المشركين الذين لا يقاتلونَهم في الدِّين، ولا يجهرون بطعن الإسلام. قال تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الممتحنة: 8-9] قال تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ [لقمان:15]. قال تعالى: ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾ [التوبة: 12]. ومن العلاقات التي لا تنقطع بين أهل الإسلام وأهل الجاهلية التي لا تعد من الموالاة • صلة الأرحام، والإحسان إلى الضعفاء والمساكين. • دعوتُهم إلى الله، وتعليمهم دين الإسلام. • الأخذ والعطاء في أمور التجارة والتعامل اليومي. أما الإجتماع معهم في المعابد والمساجد وهم لا يزالون مصرين على شركهم وكفرهم للوقوف بين يدى الله صفا واحداً، والإقتداء بِهم في صلاتِهم، فهذا لا يجوز، ويدلُّ عليه ما يأتي: قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ [التوبة :17]. مع قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة : 28]. قال تعالى: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون:6]. فدلت الآية على أن أهل الإسلام وأهل الشرك لا يلتقيان في أمر من الأمور الدينية قبل توبة أهل الشرك من الشرك. والصلاة من أهم أمور الدِّين كما قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5]. فسمَّى الصّلاة ديناً. وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103]. يدلُّ على أنّ المشركين ليسوا من أهل الصّلاة.فمن صلّى منهم فهو كمن لم يصل. فكيف تصحّ الصّلاة خلفهم. وقد قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ وقال تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس:87]. قال المفسرون: (قبلة) أي مساجد. وقال سيد قطب في "ظلال القرآن" عند هذه الآية: "وهذه التجربة التي يعرضها الله على العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة ليست خاصة ببني إسرائيل، وإنّما هي تجربة إيمانية خالصة، وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمت الفتنة وتجبر الطاغوت وفسد الناس وانتنت البيئة، وكذلك كان الحال على عهد فرعون في هذه الفترة.وهنا يرشدهم الله إلى أمور: (1) إعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها ما أمكن في ذلك، وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها لتطهرها وتزكيها وتدربِها وتنظمها حتى يأتي وعد الله لها. (2) إعتزال معابد الجاهلية وإتخاذ بيوت العصبة المؤمنة مساجد تحسّ فيها بالإنعزال عن المجتمع الجاهليّ، وتزاول فيها عبادتَها لربِّها على نَهجٍ صحيح، وتزاول بالعبادة ذاتِها نوعاً من التنظيم في جو العبادة الطهور". [في ظلال القرآن]. وقد أُمر النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن أن يكون من المؤمنين، وأن لا يكون من المشركين. كقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام:14]. وقوله تعالى: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [النمل:91]. وقوله تعالى: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس:104]. وقد أُمر صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات وأشباهها في القرآن أن يكون من المؤمنين في "العقيدة" وفي "الولاء"، ونَهي صلى الله عليه وسلم عن أن يكون من المشركين في "العقيدة وفي "الولاء". والنبي صلى الله عليه وسلم كان معصوما من ذلك، ولكن الخطاب للأمة، كي يعلموا أنّ من وافق المشركين في عقائدهم وأعمالهم التي قد صاروا بِها مشركين يكن مثلهم مشركا مخالفا للحق الّذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وليعلموا كذلك أنّ من لم يوافق المشركين في ذلك ولكنه والاهم ووادّهم من دون المؤمنين يكن أيضا كافراً مثلهم كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم﴾ [المائدة: 51]. فقد خوطب الصحابة رضوان الله عليهم بهذه الآية بعد الهجرة إلى المدينة بزمن وكانوا مسلمين يشهدون الشهادتين ويؤدون الفرائض ويجاهدون الكفار ويطلبون الشهادة. فدلّ ذلك على أن من والى المشركين موالاة ظاهرة لا ينفعه تكلّمة بالإسلام وأداؤه لبعض فرائضه لكفره الظاهر بالله. قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة : 51].