[ل] ومنها أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة صحيحة أنه أمر بقتل الخوارج وحرّض على ذلك وبيّن ما في ذلك القتل من أجر عظيم عند الله، وثبت كذلك عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم أجمعوا على قتالهم ولم يختلفوا فيه لما ظهرو في عهد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وثابت كذلك أن الفقهاء قد اختلفوا في حكمهم، فمنهم من رأى تكفيرهم مستدلاً ببعض الألفاظ الواردة في الأحاديث: قال صلى الله عليه وسلم: "شرّ القتلى تحت أديم السماء" [الترمذي وأحمد وابن ماجه]. وقال صلى الله عليه وسلم: "يمرقون من الدِّين مروق السهم من الرمية" [متفق عليه]. وقال صلى الله عليه وسلم: "يمرقون من الإسلام" [متفق عليه]. وقال صلى الله عليه وسلم: "لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد" [متفق عليه]. ومنهم من لا يرى تكفيرهم ويقول إنّهم كانوا متأولين، ومنهم من يرى التوقّف وعدم الإطلاق عليهم بكفر ولا إسلام، ومع هذا فالجميع متّفقون على قتالهم إذا خرجوا واجتمعوا عملاً بالأحاديث الصحيحة وإقتداءً بالصحابة. والسؤال هو ما هي حقيقة أولئك الخوارج الذين وقع الإجماع على قتالهم وقتلهم؟ إذا بحثنا عن حقيقتهم فإننا نجد أنّهم قبل ضلالهم: (أولا) كانو مسلمين ومن قرّاء المسلمين الذين تعلّموا القرآن من الصحابة الذين كانو بالعراق، كعبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعريّ وغيرهم. (ثانياً) لم يطعن أحد في إيمانِهم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولم يكونوا مشركين في الإعتقاد والعبادة ولا في الإتّباع والتشريع. (ثالثاً) إنّهم ظنّوا أن مرتكب الكبيرة خارج عن الإسلام والإيمان بمجرّد وقوعه فيها، ثم أصبح ذلك عقيدة لهم يطبقونها على المسلمين، فاستحلّوا دماء المسلمين وأموالهم، وأصبحوا من مصادر الخطر الذي يهدّد أمن المجتمع واستقراره. وهذا هو أصل ضلالهم. (رابعاً) وكانوا مع إفسادهم الكبير في الأرض مشهورين بالشجاعة والفروسية والصدق والإستماتة في سبيل المبدأ، واشتهروا كذلك بكثرة العبادات. فإذا عرفنا حقيقة القوم وعرفنا كذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم في حقّهم وما أجمع عليه المسلمون من قتلهم فإنّنا نستنتج من ذلك. (أولا) أن المسلمين الموحّدين الذين لا يشركون بالله شيئاً وشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمّداً رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا إجتمعوا واتّفقوا على أمر مخالف لكتاب الله كترك واجب أو إستباحة محرّم فإنّهم يقاتَلون ويُقتلون. كما قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ﴾ [الأنفال: 39]. فأولئك الخوارج إستحلّوا أعراض المسلمين واستحلّوا كذلك دماءهم وأموالهم، فأحلّت هذه المخالفات الشرعية دماءهم وأصبحوا شرّ القتلى تحت أديم السماء مع ما إشتهروا به من التمسّك لأصل الإسلام والعبادة الكثيرة. (ثانياً) إن المخالف للحقّ إذا ظنّ واعتقد أنه على الحقّ وغيره على الباطل لا يكون معذوراً بالجهل ولا ترفع عنه عقوبة المخالفة، لأن الخوارج أنكروا الحقّ وظنُّوه باطلاً، واعتقدوا الباطل وظنُّوه حقّاً، فلم يعذرهم الشرع بالجهل وإنما أباح قتلهم. (ثالثاً) إن الطواغيت المعاصرين وأتباعهم، الذين نبذوا كتاب الله كله واستحلّوا قيادة الأمم بشرائع لم يأذن بِها الله جاءتْهم من الغربيين الكفّار. إن أولئك الطواغيت والراضين عنهم أشدّ كفراً وضلالاً من الخوارج الذين أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم دماءهم، لأن الأولين خالفوا جزءً من الشريعة واستمسكوا ببقية الشريعة بشدّة وقوّة. أما المعاصرون فقد خرجوا عن الشريعة كلّها وعدّوها من مخلّفات القرون الماضية. وظنّوا أن الكفّار أهدى سبيلاً وأعدل شريعة، فاتّبعوا سبيلهم واتّخذوا كتاب الله مهجوراً. ولقد كان الخوارج مع اختلافهم الجزئي يظنّون أنهم متبعون للشريعة وكانوا يرجون رضى الله والجنة بأعمالهم المخالفة للشريعة وكانوا يسمّون أنفسهم بـ"الشراة" .. أي الذين شروا أنفسهم بالجنة ... أما المعاصرون فهم أفسد قلوباً من الخوارج فلا يطلبون رضى الله والجنة بما فعلوه من الكفر، بل إنّهم لا يرون رضى الله والجنّة غاية تستحقّ الاهتمام والطلب وهم كما قال تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم: 7]. وقصة الخوارج وما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأنهم أصل عظيم يبيِّن وجوب التبرّؤ والقتال لمن خرج عن الشريعة واتّخذ خلافها طريقاً يستحسنه، ولو كان ذلك الخارج ينتسب إلى الإسلام ويشهد الشهادتين، ويقوم الليل ويصوم النهار ولو كان كذلك جاهلاً يتأول ويظنّ أنه على الحقّ المبين. والقصة كذلك حجة على الذين يجادلون عن الخارجين عن الشريعة من المنتسبين إلى الإسلام، هذا الجدال الذي لا يقوم على أصلٍ صحيحٍ من الكتاب والسنة، ولا يبعثه إلا الهوى ورعاية المصالح الدنيوية، أو الجهل وعدم إدراك حقيقة الدِّين إدراكاً صحيحاً وعدم معرفة أن الإنسان قد يكفر ويرتدّ وهو ينتسب إلى الإسلام ويشهد الشهادتين. وقد استدلّ الإمام ابن تيمية رحمه الله بِهذه القصة لما بيّن كفر المستغيثين بغير الله من المنتسبين إلى الإسلام فقال في الرسالة السنية: "فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضاً من الإسلام لأسباب منها الغلوّ في بعض المشايخ، بل الغلوّ في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بل الغلوّ في المسيح، فكل من غلا في نبيّ أو رجلٍ صالح وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان أنصرني أو أغثني أو أرزقني أو أنا في حسبك ونحو هذه الأقوال. فكل هذا شركٌ وضلالٌ يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل. ولما سُئِل عن قتال الروافض استدلّ بقصة الخوارج وبيّن أنّهم شرّ من الخوارج الذين أمر بقتالهم". [الفتاوى: م:28]. وكذلك لما سئل عن قتال التتار المنتسبين إلى الإسلام استدلّ بقصة الخوارج وبيّن أنّهم شرّ من الخوارج وأنهم إستباحوا دماء المسلمين بغير تأويل وأنّهم أولى بالقتل والقتال منهم. ولو أنه كان حيّاً ورأى ما عليه كثير من المنتسبين إلى الإسلام كالعلمانيين والديمقراطية والإشتراكيين ودعاة التجديد والتقليد للغربيين لقال قولاً يشبه أقواله في المتقدمين أو أشدّ منه لأنّ شريعة الله لا تتغيّر وحكمها ثابت إلى يوم القيامة. إن قتال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومعه الصحابة للخوارج المارقين وقبله قتال الصديق رضي الله عنه ومعه الصحابة لما نعى الزكاة. وإجماع العلماء والفقهاء بعدهم على تصويب أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب في قتالهم للخارجين عن الشريعة. إن ذلك القتال وذلك الإجماع يكفي لمعرفة مذهب السلف الصالح في مسألة المنتسبين إلى الإسلام إذا خرجوا عن الشريعة بتأويل أو بغير تأويل. ويكفي كذلك لمعرفة بطلان فكرة المرجئة القائلة بأن من قال لا إله إلا الله حرُم دمه وماله ودخل الجنة، من غير إستثناء ومن غير إشتراط لشرط من الشروط. والنصوص الدالة على كفر وضلال متّبع الهوى أكثر من ذلك. ونكتفي بِهذا القدر الذي فيه الكفاية لمن كان قصده إتّباع الحقّ.