[جـ] ومنها: قول الله تعالى عن الحاكمين بغير ما أنزل الله ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44] . فقد صرحت الآية بكفر الحاكم الذي لا يلتفت إلى أحكام الله وإنما يحكم بين الناس بِهواه أو هوى غيره، جاعلاً ذلك شريعة لهم واجبة الاتّباع في حدود حكمه وسلطانه كما هو واقع من الحكام في هذا العصر. ولم يكن بين علماء المسلمين في جميع العصور اختلاف في كفر الداعي إلى اتّباع أحكام التوراة أو الإنجيل التي بأيدي أهل الكتاب، ونبذ أحكام القرآن. ولا في كفر المسجيب لمثل هذه الدعوة، بل إن ذلك كان من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام الذي تعلمه الخاصة والعامة . والحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله في هذا العصر يتركون القرآن ويتّبعون النظم والقوانين الوضعية المستوردة من أهل الغرب، المنسلخين من الدِّين الكافرين بالله علانية. والآية ليست خاصة ببني إسرائيل كما يظنّه بعض الناس، وإنما هي تقرير إلهيٌّ لا يتقيّد بزمن ولا مكان. ولقد سمع حذيفة بن اليمان رضي الله عنه من يقول هذه المقالة فردّها قائلاً: "نعم الاخوة لكم بنوا إسرائيل، إن كانت لهم كل مرّة ولكم كلّ حلوة، كلاّ والله لتسلكنّ طريقهم قدر الشراك. [ابن جرير]. وعن إبراهيم النخعي أنه قال عن هذه الآية: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ "نزلت في بني إسرائيل، ورضي لكم بِها" [ابن جرير]. والدساتير الوضعية التي يحكمون بِها في هذا الزمن تشبه "الياسق" الذي وضعه "جنكزخان"، والذي قال عنه الإمام ابن كثير في تفسيره: "فمن فعل ذلك فهو كافرٌ يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكّم سواه في قليل ولا كثير". أما الحاكم المسلم الذي يحكم بما أنزل الله ولا يعتقد شريعة مخالفة لشريعة الله إذا جار في قضية بين اثنين فحابى أحدهما وظلم الآخر أو عاقب أحداً بشبهة أو ظنّ فهو آثم ظالم مرتكب للكبيرة ولا يخرج من الملّة حتى يستحلّ ذلك ويتّخذه شريعة مقدّمة على شريعة الله، وعن مثل هذا الحاكم المسلم قال ابن عباس رضي الله عنهما: "هي به كفرٌ وليس كفراً بالله وملائكته وكتبه ورسله" [ابن جرير] . وقال عطاء:"كفرٌ دون كفرٍ وفسق دون فسق وظلم دون ظلم" [ابن جرير]. وقال طاوس: "ليس بكفر ينقل عن الملّة". [ابن جرير] . هذه عن الحكم بغير ما أنزل الله، أما التحاكم إلى شريعة غير شريعة الله فقد قال الله عن المتحاكمين: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾ [النساء: 60]. إلى أن قال: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]. وقد نزلت هذه الآيات فيمن لم يرض بحكم الله في قضية معينة، فدلّت على نفاق أولئك القوم، وأن ما يدّعونه من الإيمان زعم باطل لا حقيقة له. ووجهت الآيات أنظار المؤمنين نحوهم ليكونوا منهم على حذر واحتراز، ولا ينخدعوا بدعاويهم الكاذبة واعتذاراتهم بحسن القصد والنية. ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ﴾ [النساء: 62] . وإذا بيّن الله نفاق قوم فقد بيّن كفرهم وعدم إيمانهم. إلاّ أن للمنافقين أحكاماً خاصة بهم يُعاملون على أساسها في الدنيا، وهي تخالف أحكام الكفار الذين يصرحون ويظهرون ولا ينافقون. والذين نبذوا كتاب الله في هذه الجاهلية الحديثة ليس كفرهم كفر نفاق، وإنما هو كفر ظاهر وردّة صريحة. فهم : (أولاً) يعلنون أن التشريع يتطور كما تتطور الآلات والصناعات، ومعنى العمل بكتاب الله وتلقي التشريع منه هو –في نظرهم- الجمود والتخلّف عن مسايرة الحياة العصرية. (ثانياً) لا يتعلّمون كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولا يأمرون بتعلّم ذلك بينما هم يرسلون الطلبة إلى الخارج، وينفقون عليهم ليقضوا السنوات في تعلّم النظم والقوانين البشرية الوضعية التي افتتنوا بِها وظنّوها أرقى من شريعة العليم الخبير، كي يصبحوا بعد ذلك قادة وقضاة ومحامين يحتلُّون أسمى المراكز ويُنظر إليهم بعين التقدير والاحترام . (ثالثا) ينتقصون شريعة الله ويقلّدون الكفار الغربيين في استنكارهم لجوانب منها كقطع يد السارق، ورجم أو جلد الزاني، وقتل المرتد، وحرمة الربا، والحجاب، وإباحة الطلاق، وتعدد الزوجات ... الخ . (رابعا) يحاربون المسلمين بشراسة ووحشية وينْزلون عليهم من العقوبات ما لا ينْزلون على المجرمين، حتى أصبحت الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة -والكفر بما يخالفها من المبادئ والنظريات والنظم- أخطر الجرائم التي تُرتكب في هذا العصر في اعتبارهم الجاهلي . (خامساً) يؤمنون بالقوانين الوضعية العالمية، كميثاق هيئة الأمم المتّحدة وقوانين محكمة العدل الدولية. هذه القوانين التي تسوِّي بين الكافر والمسلم والرجل والمرأة في الحقوق والواجبات. والتي تنكر الجهاد لإعلاء كلمة الدِّين وتصفه بالاعتداء على حقوق الآخرين . (سادساً) يظهرون المودّة لأهل الكفر بتبادل الزيارات وإقامة الحفلات والتعاون في كثير من المجالات كالمجال الاقتصادي والعسكري والتعليمي والتعاون كذلك في إيقاف الزحف الإسلامي المتزايد. كما يقولون، كل هذه الأمور وغيرها تخرجهم من صف المنافقين وأحكامهم وتجعلهم في صف الكافرين المجرمين وأحكامهم. ولا فرق في هذا بين الحاكمين والمحكومين: ﴿ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ﴾ [النحل: 106] .