[ب] ومنها : قصة إبليس اللّعين، هذه القصة المذكورة في القرآن في عدّة مواضع للاتّعاظ والاعتبار، فقد أخبرنا الله أن هذا المخلوق كان قبل كفره مع الملائكة عباد الرحمن المسبِّحين باللّيل والنهار، الذين لا يسأمون، وأنه أصبح كافراً خارجاً عن الإسلام لما أبى واستكبر عن الانقياد لحكم واحد من أحكام الله. قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 34] . وقال تعالى: ﴿إِلا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾ [الإسراء: 61] وقال تعالى: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: 19]. فدلّت القصة على أن من ردّ أمر الله واستكبر عن الانقياد لحكم واحد من أحكامه واتّخذ خلافه منهجاً يستحسنه فإنه يصير بذلك كافراً خارجاً عن ملّة الإسلام، مهما كانت معرفته بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر عظيمة، كمعرفة إبليس، فإنه كان ذا معرفة عظيمة بالله، وقد خاطب الله بالربوبية والخلق قائلا: ﴿رَبِّ فَأَنْظِرْنِي﴾ وقال: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ﴾. وكان كذلك عارفاً بالمعاد معترفاً بقدرة الله على بعث الأجساد. فقال: ﴿أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الأعراف: 14]. وكان كذلك عارفاً بالملائكة، وكان من بينهم لما صدر من الله الأمر بالسجود لآدم عليه السلام ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾ [الحجر: 30-31]. وهو كذلك عارف بالحقّ الذي أنزله الله في كتبه على ألسنة رسله، وكان ولم يزل في معركة ضدّ رسل الله والمؤمنين، يريد أن يصرف الناس عن الصراط المستقيم وهو القائل: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: 16-17]. ومع معرفته هذه لُعن وطُرد من رحمة الله وصار رأساً في الكفر لما أبى واستكبر عن تنفيذ أمر واحد من أوامر الله،ثم تمحّض بعد ذلك للشرّ والإغواء. فإذا كان ذلك كذلك فكيف يكون المستكبرون المعاصرون أحسن حالاً وأكرم منْزلة من إبليس اللّعين، وهم لا يعرفون أصول الإيمان كمعرفته، ولا يخالفون أمراً واحداً كما وقع منه، وإنما هم يخالفون كتاب الله المليء بالأوامر والنواهي، ويرمونه بالجمود والعجز عن مسايرة الواقع بلسان الحال أو المقال، ويستحلُّون قيادة الأمم والجماعات بآراء وكتب ما أنزل الله بِها من سلطان. ولا شكّ في كون سيئاتهم من سيئات إبليس داعيهم إلى الشرك والضلال. ولكن ينبغي أن لا ننسى أن عدوّ الله صار كافراً بأقلّ مما يصرُّون عليه وهم يزعمون أنهم مسلمون. أما قصة آدم عليه السلام وأكله من الشجرة المحرّمة فإنها تدلّ على أن المؤمن قد يغفل وينسى فيقع في الحرام وهو لا ينوي الكفر واستحلال المحرّمات، وتدلّ على أن الله يقبل توبة التائبين: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الشورى: 25] . والمؤمن الواقع في الحرام التائب من الذنب يشبه من غشيه ظلام اللّيل فحجبه عن رؤية الطريق فعدل عنه ثم جاءه من الله نور يكشف الظلمات فأبصر به الطريق فعاد من قريب. ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201] .