فمن المجادلين عن أهل الجاهلية من يقول: "إن من صحّ اعتقاده لا يكفر باتّباعه وعمله بتشريع غير الله" . وهي شبهة مضلِّة ينخدع بِها قليلوا المعرفة بالإسلام، والأدلّة التي تجيب عنها كثيرة جدّاً، ويستطيع المسلم أن يعرف بُعدها عن الحقيقة وضلالها من وجوه كثيرة، إذا تدبّر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة وما أجمع عليه المسلمون في القرون المفضَّلة، ويكفي في ردّ هذه الشبهة وإبطالها وجه واحدٌ من أوجه الأدلّة الصحيحة الآتية : (أ) منها : بيّن القرآن أن المتبِّع لتشريع غير الله النابذ لشريعة الله ليس من الذين أخلصوا الألوهية لله، وإنما هو يعبد "إلهاً" و"رباً" غير الله . قال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 31] . وقد فسّر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاتّخاذ للأرباب بطاعة العلماء في التحليل والتحريم المخالف لأمر الله كما ثبت في حديث عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه. وقال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64]. وقال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21]. فصرحت الآيات بأن المتّبع لتشريع غير الله قد عبد "إلها" و "رباً" غير الله، ولم يحقّق التوحيد المأمور به، فصار من المشركين، ولا فرق بينه وبين الذي يعبد المسيح ابن مريم ويستغيث به في جلب المنفعة أو دفع المضرّة. ولما وقعت اليهود والنصارى في هذا النوع من الشرك لم ينفعهم انتسابهم إلى الإسلام لله واتّباع ملّة إبراهيم وموسى عليهم السلام. فدلّ ذلك على أن من وقع فيما وقعوا فيه من الشرك من هذه الأمة لا ينفعه انتسابه إلى الإسلام لله واتّباع ملّة محمّد صلى الله عليه وسلم ، لأنه ليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب، وإنما يتفاضل الناس في الإيمان والاستقامة، وتحقيق العبودية لله بلا شريك. فإذا عرفت هذا وأنّ "أهل التوراة" أصبحوا مشركين بتقديمهم آراء العلماء على كتاب الله. فمن الجهل والغباوة الظنّ بأن "أهل القرآن" سيظلُّون مسلمين غير مشركين وهم يقدّمون آراء الكفار الجهال على كتاب الله في باب التشريع والتقنين للعباد . وإذا عرفت من كتاب الله أن اتّباع غير الله في التشريع شرك مخرج عن الملّة، فاعرف أيضاً أن المشرك لا يكون أبداً صحيح الاعتقاد، ولا بدّ من أن يكون في قلبه من الشكّ والاستكبار ما جعله يفضِّل شرائع الكفرة على شريعة الله. وإذا كان هذا التابع لتشريع غير الله عالماً بالإسلام وما جاء به من العقائد والأحكام علماً نظرياً، فإن ذلك لا ينفعه شيئاً ولا يصير به مسلماً حتى يعتقده. فإن هناك فرقاً بين المعرفة النظرية والاعتقاد الجازم المنشئ للتطبيق والعمل. فمن هنا تعرف فساد قولهم: "إنّ من صحّ اعتقاده لا يكفر باتّباعه وعمله بتشريع غير الله". لأنه لا يتّبع ويعمل بتشريع غير الله مع وجود تشريع الله إلاّ الكافرون المشركون الشاكُّون المستكبرون.