الحقيقية العاشرة إن كلمة "لا إله إلا الله" لم توضع لتكون كلمة تُقال باللِّسان. وُإنما وضعت لتتحقَّق العبودية الكاملة لله بعد قولها. فمن قالها وجب عليه العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم. ووجب عليه أن يكون مؤمناً بالله بقلبه ولسانه وجوارحه. ومن ثم فإن فعل الواجبات كلها وترك المحرّمات كلّها تُعتبر من حق "لا إله إلا الله" الذي لا يجوز تضييعه. فمن اتّخذ طريقاً يفضي إلى تضييع حقّ من حقوقها الواجبة، فإن الإسلام لا يقرّ ذلك عليه، بل يأمر بقتله وإن قال بلسانه"لا إله إلا الله". لأنه لم يأت بالقول المأمور به الذي هو القول المقترن بالعمل. فعندما عزم أبو بكر الصديق رضي الله عنه على قتال مانعي الزكاة وقيل له: كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم {أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا "لا إله إلا الله" فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقّها}؟. قال أبو بكر: فإن الزكاة من حقِّها، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقاتلتهم على منعه !!. ثم اجتمعوا واتّفقوا على رأي أبي بكر. فأصبح أمراً مجمعاً عليه أن الزكاة من حق "لا إله إلا الله"، وأنه لا ينفع التلفظ أحداً يمتنع عن أدائها. فإذا كان ذلك كذلك فما بالك بالتوحيد الذي هو أخطر شأناً من دفع الزكاة؟ وهل يعقل أن يتّفق الصحابة على قتل مانع الزكاة مع قوله "لا إله إلاّ الله" ويخلّوا سبيل المشرك العابد لغير الله لأجل تلفظه بكلمة التوحيد التي نقضها بشركه وكفره البواح ؟ وقد جاء الحديث مقيداً بالبراءة من الشرك بلفظ: {من قال "لا إله إلا الله" وكفر بما يُعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عزّ وجلّ}. [مسلم]. وهذا نصٌّ قاطعٌ ورد في محل النِّزاع وبيان لمراد النبي صلّى الله عليه وسلّم في الأحاديث المطلقة الخالية من هذا القيد، فلا يجوز التمسك بالنص المفيد للعموم مع ورود التقييد والتخصيص في نص آخر صحيح. ومما يدلُّ على أن التلفظ لا ينفع أحداً مع تضيـيع حقوق الكلمة،قوله تعالى: ]وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ[ [الأنعام:121]. فقد خُوطب المسلمون بهذه الآية لما خاصمهم المشركون فقالوا: ما ذبح الله فلا تأكلوه وما ذبحتم أنتم أكلتموه. قال القرطبي في قوله: ]وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ[ أي في تحليل الميتة ]إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ[ فدلت الآية على أن من استحلّ شيئاً مما حرّم الله تعالى صار به مشركاً. وقد حرّم الله سبحانه الميتة نصاً، فإذا قَبِلَ تحليلها من غيره فقد أشرك. قال ابن كثير: ]وَإِنْ أَطَعْتُمُوْهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُوْنَ[ أي حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره، فقدمتم عليه غيره، فهذا هو الشرك. كقوله تعالى: ]اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللهِ[ [التوبة:31] وقد روي الترمذي في تفسيرها عن عديّ بن حاتم أنه قال: يا رسول الله ما عبدوهم. فقال: بلى، إنهم أحلّوا لهم الحرام وحرّموا عليهم الحلال فاتّبعوهم فذلك عبادتهم إياهم. فإذا كان من شهد أن "لا إله إلا الله وأن محمداً رسو ل الله" وأطاع الله في فعل الواجبات وترك المحرّمات يصبح مشركاً باستحلاله لأكل الميتة فقط، فكيف بمن يستحلّ مخالفة الشريعة كلّها ويتّبع الشرائع التي ما أنزل الله بها من سلطان، وأيهما الأجدر بأن ينفعه التلفظ بكلمة التوحيد، إذا كان التلفظ نافعاً مع الشرك وتضييع حقوق الكلمة الكثيرة ؟. إن قول الله تعالى للمسلمين الذين شهدوا أن "لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" بعلمٍ وإخلاصٍ ويقينٍ ]وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ[ [الأنعام:121]. إن هذا القول وحده دليلٌ كاف لنقض الشبهة الضالّة والفكرة المنحرفة للمرجئة المعاصرة التي فاقت الأولين في تسويغ النفاق وتمييع الحدود. ومما يدلّ كذلك على أن التلفظ مع التضييع للحقوق لا وزن له في ميزان الإسلام، قضية الولاء وحكم الإسلام على من والى المشركين. لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم أعلم الأجيال بمعنى "لا إله إلا الله" ومدلولها. ولذا لم يكن فيهم من يقول "لا إله إلا الله" ثم يعبد غير الله بعد ذلك في الاعتقاد والدعاء أو في الاتّباع والتشريع. وقد عُرف من سيرتهم بُغضهم الشديد للشرك وأهله. وعدم موالاتهم لهم. وقد جرّ ذلك عليهم التعرض للضيق والتعذيب الشديد في مكة حتى هاجروا إلى الحبشة مرتين. ولما هاجروا أخيراً إلى المدينة وتكوّنت لهم هناك دولة. قاتلهم المشركون وتحزّبوا ضدّهم، وحاولوا استئصالهم في غزوة الأحزاب. كل ذلك جرى لعلم الفريقين بأنه لا مجال للتفاهم والتعايش بين حزب التوحيد وحزب الشرك. كما أنه لا مجال للالتقاء بين عقيدة التوحيد وعقيدة الشرك. وهذا الجيل الذي بلغ الذروة في العلم والعمل، قد خاطبه القرآن قائلا: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاْءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى اْلإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِّنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[ [التوبة:23]. وقال تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ[ [المائدة:51]. وقال تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَّ تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا للهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِيناً[ [النساء:144]. وقال تعالى: ]لاْ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ اْلآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَاْدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيـرَتَهُمْ[[المجادلة:22]. بهذا الحسم والوضوح فصّل القرآن قضية الولاء. وجعل الولاء لغير الله ورسوله والمؤمنين كفراً وخروجاً عن الإسلام. ولم يجعل كذلك قول "لا إله إلا الله" مع المعرفة والتطبيق شرطا مانعا من تكفير الموالين للمشركين، وإخراجهم عن دائرة الإسلام. فإذا كان من قال "لا إله إلا الله" وكفر بما يُعبد من دون الله والتزم أحكام الإسلام ولم تقع منه مخالفة شرعية غير مودَّة المشركين وموالاتهم يكون خارجاً عن الملَّة بهذه المخالفة الشرعية الوحيدة. فكيف يكون حكم غيره الذي يقول "لا إله إلا الله" في الشرك والكفر واستحلال المحرّمات؟ وإذا كان قول "لا إله إلا الله" ينفع، وإن كان القائل يقولها في الشرك والكفر واستحلال المحرّمات، فلماذا لم ينفع الصحابة البريئين من الشرك الذين كان أحدهم يكفر ويعدّ من المشركين لمجرد المودّة والموالاة الظاهرة لأهل الإشراك؟ ولماذا قيل لهم ]وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ[.؟ [المائدة:51] قد بيّنا فيما تقدَّم أن من امتنع عن دفع الزكاة، ومن اتّبع غير الله في التحليل والتحريم، ومن والى المشركين لا يكونون من أهل "لا إله إلا الله" لتضييعهم لحقوقها. وهذه الأمور الثلاثة سردناها كأمثلة. وإلا فإن التكاليف الشرعية كلّها من فعل الواجبات وترك المحرّمات على هذا المستوى. فإذا لم يأت العبد بما وجب عليه مستحلاً لذلك مستحسناً له صار كافراً خارجاً عن الملّة وإن قال بلسانه "لا إله إلا الله". وإن لم يأت به من غير استحلال واستحسان فإنه يكون آثماً متعرّضاً لغضب الله وعقابه ومن أهل الكبائر الذين لا تُقبل شهادتهم في الدنيا. هذا الفهم الصحيح لكلمة الشهادة وحقوقها هو الذي جعل جيل الصحابة أفضل الأجيال على الإطلاق في العلم والعمل. وجعلهم مع علمهم وعملهم الكثير خائفين على أنفسهم من النفاق، وكذلك كان التابعون وتابعوهم. ولما طرأت فكرة المرجئة على المجتمع الإسلامي نفر منها العلماء نفوراً شديداً ورأوا أنها من أخطر البدع على الإسلام. قال عبد الله ابن أبى مليكة وهو يردُّ عليهم:"لقد أدركتُ ثلاثين من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم كلُّهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحدٌ يقول إيمانه كإيمان جبريل". [البخاري]. وروى البغوي أنَّ يعقوب بن عطاء سأل أباه عطاء بن أبى رباح فقال: "يا أبتاه أن أصحاباً لي يزعمون أن إيمانهم كإيمان جبريل؟ فقال يا بنيّ ليس إيمان من أطاع الله كإيمان من عصى الله". اﻫـ [الفتاوى: م7/ص207]. وقال الإمام الشافعي: "وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون (الإيمان قولٌ وعملٌ ونيةٌ) لا يجزئ واحدٌ من الثلاثة إلا بالآخر". [الأم]. وقال حنبل حدثنا الحميدي قال: وأخبرت أن ناساً يقولون: "من أقرّ بالصلاة والزكاة والصوم والحجّ ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت، ويصلِّي مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقرّاً بالفرائض واستقبال القبلة". فقلت: "هذا الكفر الصراح وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين". قال الله تعالى: ]وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[ [البينة:5]. وقال حنبل: سمعتُ أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول:"من قال هذا فقد كفر بالله وردّ على أمره وعلى الرسول ما جاء به عن الله" إ ﻫـ. [مجموع الفتاوى: م7 /ص 209].