الحقيقة الثانية عشرة قد بيّن الله تعالى أن الإيمان شرطٌ لقبول العمل الصالح. وأن الكافر مهما عمل لا يكون عمله مقبولاً عند الله حتى يؤمن بالله ويعبده وحده لا شريك له. قال الله تعالى: ]فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ[ [الأنبياء:94]. وقال الله تعالى: ]مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[ [النحل:97]. وقال الله تعالى: ]وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً[ [النساء:124]. وبيّن تعالى أنه لا يقبل أعمال المشركين. لأن المشرك ليس مؤمناً بالله لشركه. وليست معرفة المشركين بالله وأنه خالقهم ورازقهم ومالكهم ومدبّر أمرهم إيماناً إلاّ مع التوحيد وإخلاص العبادة له. قال الله تعالى: ]وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاْءً مَّنْثُوراً[ [الفرقان:23]. وقال الله تعالى: ]وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ[ [الأنعام:88]. وقال الله تعالى: ]لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[ [الزمر:65]. وقال الله تعالى: ]وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَاْلآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[ [البقرة:217]. وقد كان مشركو العرب يدّعون أنهم يؤمنون بالله،وأنه ربهم الذي خلقهم. قال الله تعالى: ]قُلْ مَنْ رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ للهِ[ [المؤمنون:86-87]. ولكن الله نفى عنهم الإيمان لشركهم. وقال الله تعالى: ]وَقُلْ لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ[ [هود:121]. وكذلك كان أهل الكتاب قد قالوا : ]نَحْنُ أَبْنَاؤُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ[ [المائدة:18]. ولكن الله نفى عنهم الإيمان لشركهم. فقال الله تعالى: ]قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ اْلآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[ [التوبة:29]. فإذا عرفتَ أن الله لا يقبل عملاً صالحاً إلاّ بالإيمان. وعرفتَ أنه لا يقبل أعمال المشركين. يجب عليك أن تؤمن بذلك، وتعتقده. لأنه قد دلّت عليه نصوصٌ قطعيةٌ ثابتةٌ. ثم عليك أن تعرف أن كتاب الله لا يناقض بعضه بعضاً، وإنما يصدِّق بعضه بعضاً. فلا يجوز أن تستخلص من دلالات النصوص الصحيحة الأخرى ما يناقض هذا الذي عرفته واعتقدته. فمثلاً إذا جاءك الحديث الصحيح الذي فيه. {من حجّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه} لا يجوز أن تعجل وتقول أن من حجّ هذا البيت سواءً كان مشركاً أو يهودياً أو نصرانياً ينال هذه الفضيلة، لأن الحديث ورد بصيغة تُفيد العموم. لا يجوز هذا لأنك قد عرفت واعتقدت أن الله لا يقبل أعمال الكافرين والمشركين. وإذاً فلا بدّ أن يكون العموم الوارد في الحديث مقيداً بما تقدّم ذكره من النصوص. لأن كتاب الله لا يناقض بعضه بعضاً. فيجب أن تعلم أنه لا ينال هذه الفضيلة إلا المؤمنون الذين هم بربهم لا يشركون. وأن حجّ المشركين لا يكون أبداً متقبِّلاً عند الله حتى يتوبوا من الشرك. وكلّ ما ورد في الأحاديث بصيغة العموم فهو كمثله. ومن الجهل والخطأ الظنّ بأن المشركين يمكن أن ينالوا فضائل الأعمال الصالحة، إذا فعلوا ذلك في شركهم. ونورد هنا بعضاً من هذه الأحاديث التي وردت بصيغ عامة كأمثلة: {ما من عبد قال "لا إله إلا الله" ثم مات على ذلك إلاّ دخل الجنة}[مسلم]. {من قال "لا إله إلا الله" نفعه يوماً من دهره} {من صلَّى العشاء في جماعةٍ فكأنّما قام نصف اللّيل ومن صلَّى الفجر في جماعةٍ فكأنَّما قام اللَّيل كله} [مسلم]. {من صلَّى العشاء في جماعةٍ أربعين ليلةً لا تفوته الركعة الأولى من صلاة العشاء كتب الله له بها عتقاً من النار} [ابن ماجه]. {من صام يوماً في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار سبعين خريفاً} [الترمذي/والنسائي] {المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده} [متفق عليه]. {أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين في الجنة} [متفق عليه]. {من مات له ثلاثة من الولدلم يبلغوا الحنث كان له حجاباً من النار- أو دخل الجنة} [البخاري]. {من كظم غيظاً وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء}. [أبو داود/الترمذي]. {من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو، وضمّ أصابعه} [مسلم]. {إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان} [أحـمد]. فجميع هذه الأحاديث: وكل ما جاء على هذا النمط الذي فيه "أن من فعل كذا فله كذا وكذا" فالمراد هو: من فعل كذا من المؤمنين الذين هم بربهم لا يشركون. ولا يشمل العموم الوارد في كل حديث من هذه الأحاديث وغيرها المشركين والمرتدين والمنافقين. وبيَّن الله تعالى كذلك أنه لا يغفر أن يُشرك به وأنه حرَّم الجنة عن المشركين وأنهم مخلّدون في النار. قال الله تعالى: ]إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَادُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاْءُ[ [النساء:116]. وقال الله تعالى: ]إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ[ [المائدة:72]. وقال صلّى الله عليه وسلّم: {من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار} [مسلم]. وقال أيضا: {من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار} [البخاري]. فيجب على المسلم أن يعتقد ذلك الذي دلّت عليه الأدلّة القطعية الثابتة. وأن لا يشكّ في دخول المشرك النار وخلوده فيها وتحريم الله عليه الجنة. وأن لا يشكّ كذلك أن ذلك عامٌ في جميع المشركين الذين لا يقولون "لا إله إلا الله" والذين يقولونها. لأن الله لم يفرق بينهم بل بيَّن أن المشركين الوثنيين وأهل الكتاب يدخلون النار ويخلدون فيها. ومعلوم أن أهل الكتاب يقولون "لا إله إلا الله". قال الله تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ[ [البينة:6]. وبيَّن كذلك أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار. ومعلوم أنهم كانوا يقولون "لا إله إلا الله" ويصلُّون ويحجّون. قال الله تعالى:] إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ اْلأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً[. [النساء:145]. وبيَّن كذلك أن المرتدين يدخلون النار، ويخلّدون فيها. وقد كان كثير منهم يقولون "لا إله إلا الله" كبني حنيفة ومانعي الزكاة وغيرهم. قال الله تعالى:]وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَاْ والآخرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[ [البقرة:217]. فإذا آمنت بِهذه الآية وعرفت أن التلفظ بكلمة التوحيد لا ينجى الكافرين من دخول النار وخلودهم فيها. عندئذٍ تعرف عظم الجريمة التي يرتكبها أهل الانحراف الذين يقولون من قال "لا إله إلا الله" دخل الجنة وإن وقع في الشرك فعبد مع الله غيره. فنقول لهؤلاء الذين سلكوا مسلك اليهود في تحريف الدِّين. Û القرآن دلّ على أن من مات على الشرك والكفر والنفاق يدخل النار، ويخلد فيها. ولن ينفعه قوله "لا إله إلا الله". فهل عندكم آية واحدة أو خبر واحد صحيحٌ يدلُّ على أن من مات على الشرك والكفر والنفاق ينجو من النار، أو يخرج من النار بفضل قول "لا إله إلا الله"؟. Û ونقول لهم أيضا: القرآن دلّ –وكذلك السنة- على أن بعض الناس يدخلون النار بسبب ذنوبهم التي هي دون الشرك بالله، ولم يحجزهم إسلامهم وقولهم "لا إله إلا الله" عن دخول النار. فهل عندكم أدلة صحيحة تدلّ على أن قول "لا إله إلا الله" ينفع في الآخرة من مات على الشرك، ولا ينفع من مات على الإسلام ؟ Û ونقول لهم أيضاً: قد دلّت السنة الصحيحة على أن الله سيخرج من النار أقواماً يقولون "لا إله إلا الله" ممن كانوا لا يشركون به شيئاً بفضله وكرَمه. لأنَّ الله يغفر ما دون الشرك به لمن يشاء. فمن أين وجدتم أنتم الأدلّة القاضية بأنّ أهل الشرك والنفاق كذلك سيخرَجون من النار بسبب ما كانوا يقولونه بألسنتهم في الدُّنيا بغير صدقٍ ولا إخلاصٍ ولا يقينٍ؟. إن غلاة المرجئة المعروفين (بالكرامية)(1) الذين قالوا إن المنافقين مؤمنون. لأن الإيمان قول باللِّسان فقط. والمنافقون قد قالوا بأفواههم آمنّا، ويشملهم الخطاب في قوله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا[. إن هؤلاء المرجئة مع ما في رأيهم من انحراف وضلال كانوا أقرب إلى الحق من المرجئة المعاصرة(2)، لأن الأولين لم يقولوا: إن المنافقين يدخلون الجنة بـ"لا إله إلا الله". أما المعاصرون فيقولون: أن المشرك لا يضرّه شركه في الدُّنيا والآخرة إذا كان من الذين يقولون "لا إله إلا الله" في الدنيا ويستدلُّون لذلك بالحديث: {من قال "لا إله إلا الله" دخل الجنة}. ولا حجَّة لهم في ذلك كما عرفت. ــــــــــــ (1) اسم لغلاة من المرجئة القائلين بأن الإيمان قول باللسان لأن الله لما خاطب بقوله]يا أيها الذين آمنوا[ دخل في الخطاب المنافقون، فكلّ من ادّعى الإيمان بلسانه فهو مؤمن في الدنيا وإن كان كافراً بقلبه، ولكنهم لم يقولوا إن المنافقين يدخلون الجنة. وأول من ابتدع ذلك "محمّد بن كرّام" وإليه تنسب الكرّامية. (2) هي طائفة من المرجئة فاقو الكرّامية في الإرجاء وجعلوا المشركين عبّاد القبور، والطواغيت الحاكمة بالقوانين الوضعية مؤمنين في الدنيا، داخلين الجنة في الآخرة بما معهم من الإيمان الذي هو قول اللسان، والمرجئة المعاصرة مشركون لأنهم يتولَّون المشركين، أما الكرّامية فكانوا فرقة مبتدعةً غير كافرة .