الحقيقة الثالثة عشرة إن الناس في كتاب الله أقسام ثلاثة هي: الأول: الكافرون. وهم الذين لم يؤمنوا بالله وحده بل عبدوا معه غيره، أو كفروا بملائكة الله، أو كتبه، أو رسله، أو اليوم الأخر، أو استكبروا عن الانقياد لأوامر الله من الوثنيـين وأهل الكتاب والمجوس والمرتدين عن الإسلام وآيات القرآن صريحة في كفر هذه الطوائف، وعدم قبول الله لأعمالهم الصالحة، ودخولهم النار، وخلودهم فيها. وقول أحدهم "لا إله إلا الله" مع إصراره على الكفر لا ينفعه شيئاً، ولا ينال فضل الكلمة العظيمة. لأنّ الله قال عن رسله الذين أرسلهم بـ"لا إله إلا الله" وكانوا أعلم الناس بها: ]وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ[ [الأنعام:88] ولم يستثن الله قولهم "لا إله إلا الله" من أعمالهم التي يحبطها الشرك ولم يقل: ]وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ[ ، إلا قولهم "لا إله إلا الله" فإنه لا يحبطه الشرك وسينالون فضل الكلمة وإن أشركوا. وكذلك قال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: ]لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[. [الزمر:65]. ولم يستثن كذلك قوله "لا إله إلا الله" من جملة أعماله. فدل ذلك على أن من أشرك بالله وهو من القائلين بـ"لا إله إلاّ الله" لا يبقى له عمل واحد، وسيكون من الخاسرين في الدنيا والآخرة. فإن قيل أن قول "لا إله إلا الله" ليس من الأعمال وإنما هو من الأقوال. فالجواب لقد فهم السلف أنها من الأعمال. فقد قال ابن عمر رضي الله عنهما عن قوله تعالى: ]فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ[ [الحجر:92-93]. قال: عن "لا إله إلا الله". وقال مجاهد كذلك: عن "لا إله إلا الله". ويروى ذلك مرفوعاً عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من حديث أنس: {]فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ[.قال:عن "لا إله إلا الله"} [الترمذي/وإبن جرير]. فهي إذاً من الأعمال. فمن أشرك بالله، وهو لا يزال يقول بلسانه "لا إله إلا الله" لا ينال فضلها العظيم قبل أن يتوب من الشرك. وستكون من أعماله التي أحبطها الشرك بالله. ومن تمسك بأنها من الأقوال، ولم تدخل في جملة الأعمال التي أحبطها الشرك. فلن ينفعه ذلك أيضا من وجه آخر، وهو إن من أحبط جميع أعماله الصالحة وبقيت له كلماته الطيبات التي يقولها بلسانه كـ"سبحان الله" "والحمد لله" و "لا إله إلا الله" و "الله أكبر" قد بيّن القرآن أنها لا ترفع إلى الله، فقد قال الله تعالى: ]إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ[ [فاطر:10]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الكلم الطيِّب ذكر الله تعالى، يصعد به إلى الله عزّ وجلّ والعمل الصالح أداء الفريضة، فمن ذكر الله تعالى في أداء فرائضه حمل عمله ذكر الله تعالى يصعد به إلى الله عز وجل. ومن ذكر الله تعالى ولم يؤد فرائضه ردّ كلامه على عمله فكان أولى به". [ابن جرير] وقال إياس بن معاوية: "لولا العمل الصالح لم يرفع الكلام" .[ابن كثير] وقال الحسن و قتادة: "لا يقبل الله قولاً إلا بعمل من قال وأحسن العمل قبل الله منه" [ابن جرير]. الثاني: المنافقون وهم الكفار الذين أخفوا كفرهم وتظاهروا بالإسلام والإيمان. فكان لهم في الدنيا أحكام المسلمين، وفي الآخرة أحكام الكفار، فهم يدخلون النار ويخلدون فيها. لأنهم في الحقيقة كالصنف الأول، وهم مثلهم في عدم قبول الله لأعمالهم الصالحة. قال الله تعالى: ]قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ. وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ[[التوبة:53-54]. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: {شهدنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال لرجل ممن يدّعى الإسلام هذا من أهل النار. فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالاً شديداً فأصابته جراحة. فقيل يا رسول الله الذي قلت إنه من أهل النار فإنه قاتل قتالاً شديداً وقد مات، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إلى النار، قال: فكاد بعض الناس أن يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل إنه لم يمت ولكنه به جراحاً شديداً. فلما كان من اللّيل لم يصبر على الجراح، فقتل نفسه. فأُخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك. فقال:"الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله" ثم أمر بلالاً فنادى في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وأن الله ليؤيِّد هذا الدِّين بالرجل الفاجر}. [متفق عليه]. ولم ينفع المنافقين قولهم "لا إله إلا الله" لأن هذه الكلمة لا تنفع إلا من قالها "صدقاً من قلبه" "غير شاك"، والمنافقون يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم فكانوا من أصحاب النار. وما قاله الله تعالى في القرآن في شأن المنافقين مع كثرتهم في المجتمع الإسلامي وتظاهرهم بالإسلام والتوحيد دليلٌ كاف يردّ على الذين أخذوا الحديث {من قال "لا إله إلا الله" دخل الجنة} على عمومه ولم يفرقوا بين من قالها بصدقٍ ومن قالها بنفاقٍ. وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما، وهما الكافرون والمنافقون لا ينفعهم في الآخرة تكلُّمهم بالتوحيد، ولا يدخلون الجنة أو يخرجون من النار بفضل "لا إله إلا الله"، وليسوا هم المقصودين في جميع الأحاديث التي تتحدّث عن فضل "لا إله إلا الله" والتي فيها أن من قالها "دخل الجنة" أو "حرّم على النار" أو "سيخرج من النار" ومن احتجّ لدخول الكافرين والمنافقين الجنة بالحديث: {من قال "لا إله إلا الله" دخل الجنة} وقال: "أنا أخذت الحديث على عمومه"، لا يختلف شيئاً عمن احتجّ بالحديث {من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كان له حجاباً من النار أو دخل الجنة}. وقال: "أنا أخذت الحديث على عمومه. وأن من مات له ثلاثة من الولدلم يبلغوا الحنث سيدخل الجنة وإن كان مشركاً أو يهودياً أو نصرانياً"!!. فكما لا يصحّ أن يؤخذ هذا الحديث على عمومه كذلك لا يصحّ أن يؤخذ الحديث الآخر {من قال "لا إله إلا الله" دخل الجنة} على عمومه. لأن كلا الحديثين لا يتناول الكفار والمنافقين الذين بيَّن القرآن أحكامهم في سور كثيرة، وعرف أنهم لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها. قال الله تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أّبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ[ [الأعراف:40]. وقال الله تعالى: ]إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً[ [النساء:140]. وقال الله تعالى:]ليُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيماً[ [الأحزاب:73]. الثالث: وهم المؤمنون. الذين آمنوا بالله وحده وعبدوه لا شريك له وآمنوا بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. واتّبعوا ما أُنزل إليهم من ربهم. وهؤلاء الذين ينفعهم قولهم "لا إله إلا الله" في الدنيا والآخرة، ولكن بالنظر إلى تفاضل درجاتهم وقيامهم بأوامر الله ينقسمون إلى أقسام ثلاثة: 1- المحسنون : وهم المؤمنون الذين فعلوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرّمات والمكروهات، وهم أحرصهم على الخير وأسرعهم إلى فعل الخيرات وهم ]وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ[ [الواقعة:10-11]. 2- المؤمنون : وهم الذين فعلوا الواجبات وتركوا المحرّمات وهم الذين سمّاهم القرآن أصحاب اليمين أو أصحاب الميمنة. وهذان القسمان المحسنون والمؤمنون هم الذين وعدهم الله الجنة والنجاة من النار لكمال إيمانهم ويقينهم وصدقهم وإخلاصهم . قال الله تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ اْلفِرْدَوْسِ نُزُلاً. خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً[ [الكهف:107-108]. وهم الذين قالوا "لا إله إلا الله" صدقاً من قلوبهم غير شاكين، يبتغون بذلك وجه الله. ولذا قاموا بفعل الواجبات وترك المحرّمات. فحرَّمهم الله على النار ولم يحجبهم عن الجنة. قال الله تعالى:]لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوْا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاْليَوْمِ اْلآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَاْلكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَأَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البأساء والضرّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ[ [البقرة:177]. وقال الله تعالى:]إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون[[الحجرات:15] فيتبيّن من الآيات أن الصادقين في إدّعائهم للإيمان الذين ليس في قلوبهم شكّ وريب، هم الذين يقومون بفعل الواجبات وترك المحرّمات. وقيامهم بذلك دليلٌ على صدقهم ويقينهم. قال الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ - ﴿ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ - ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾. وقال عن المنافقين: ]فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ[ ، ]وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ[. فوصفهم بالريب والشكّ والكذب وعدم الصدق. ولذلك عجزوا عن فعل الواجبات وترك المحرّمات فكانوا هم الفاسقين. قال الله تعالى: ]إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[ [التوبة:67]. ولأهمية الصدق واليقين نبَّه النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك في أحاديثه، لأن من اتّصف بهما لا يكون مصرّاً على ذنبٍ أصلاً. ولا يحبّ إلى ما يحبُّه الله ورسوله فيكون عندئذٍ محرَّماً على النار. قال صلّى الله عليه وسلّم: {ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرّمه الله على النار}. [متفق عليه]. وقال صلّى الله عليه وسلّم: {لا يلقى الله بهما عبدٌ غير شاك فيُحجب عن الجنة} [مسلم]. وكذلك من اتّصف بالإخلاص لا يكون مشركاً، ولا مرائياً بأعماله. ويكون حنيفاً مقبلاً على الله معرضاً عما سواه. فلا يكون حينئذٍ مصرّاً على ذنبٍ لانجذاب قلبه إلى الله. ومن كان حاله كذلك لا يكون من أهل النار. قال صلّى الله عليه وسلّم :{فإن الله حرّم على النار من قال "لا إله إلا الله" يبتغي بذلك وجه الله} [متفق عليه]. وأخبر أن أسعد الناس بشفاعته هو: {من قال "لا إله إلا الله" خالصاً من قلبه} [البخاري]. 3- أهل الوعيد: وهم قوم لهم إيمان يفرقهم عن الكفار والمنافقين، فآمنوا بالله وحده وعبدوه لا شريك له. ولكنهم ضعفوا عن بعض تكاليف الإيمان فوقعوا في المحرّمات أو تركوا الواجبات من غير استحلال. ولذلك فهم في أحكام الدنيا مع المؤمنين والمحسنين ويشملهم قوله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا[ وجميع أهل هذه المراتب الثلاثة مسلمون، لكونهم استجابوا لدعوة التوحيد والإسلام. ولكن لما كان المؤمن هو الذي حُرّم على النار ويدخل الجنة بلا عذاب، لا يُقال لأهل هذه المرتبة الأخيرة "مؤمنون"، لكونهم من أهل الوعيد الذين إن شاء الله عذَّبهم بذنوبهم وإن شاء غفر لهم ذلك كله. ولكن يُقال لهم "مسلمون". وقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الله سيخرج من النار أقواماً لتوحيدهم وعدم شركهم بعد أن مكثوا فيها مدّةً لا يعلمها إلا الله. فجاء في حديث الشفاعة: {حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً ممن أراد الله أن يرحمه ممن يشهد أن "لا إله إلا الله"، فيعرفون في النار بأثر السجود} [متفق عليه]. وفي رواية: {يخرج من النار من قال: "لا إله إلا الله" وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال: "لا إله إلا الله" وكان في قلبه من الخير ما يزن برّة، ثم يخرج من النار من قال:"لا إله إلا الله" وكان في قلبه ما يزن من الخير ذرة} [متفق عليه]. وهؤلاء الذين يخرجون من النار وكان في قلوبهم من الخير ما يزن شعيرةً أو برّةً أو ذرةً، لا خلاف بين علماء الإسلام أنهم أهل الكبائر الذين لم يشركوا بالله شيئاً وكانوا من أهل الإسلام. ولم يقل أحدٌ منهم أن أهل الكفر والنفاق الذين كانوا يقولون "لا إله إلا الله" في الدنيا سيخرجون من النّار. لأنه قد ثبت لديهم ببيان القرآن أن أهل الكفر والنفاق خالدون في النّار، وليسوا بخارجين منها ولا تنفعهم شفاعة الشافعين. فليسوا إذن من أهل "لا إله إلا الله" وإن قالوها وليس في قلوبهم مثقال ذرة من خير يتقبَّله الله منهم. هذه هي أقسام الناس كما بيَّنه الكتاب والسنة وكما هو مذهب علماء السلف "كافرون" و "منافقون" و "ومؤمنون". والمؤمنون على مراتب بعضها أفضل من بعض:"محسنون" و "مؤمنون مقتصدون" و "أهل الوعيد". ومن قال أن هناك صنفاً رابعاً غير "الكافرين" و "المنافقين" و "المؤمنين" وقال: هذا الصنف الرابع هو قومٌ يعملون بالشرك والكفر ويتَّبعون ما لم يأذن به الله من كتب الطواغيت ولكنَّهم يدخلون الجنة بفضل قولهم "لا إله إلا الله"، من قال ذلك فقد افترى إثماً عظيماً وابتدع في دين الله بدعةً شنيعةً والله حسيبه وهو بعباده خبيرٌ بصيرٌ. ولكن ينبغي التنبُّه لبعض الأمور: الأول: إن الإنسان قد يؤمن بالله ويشهد أن "لا إله إلا الله" صدقاً من قلبه، مستيقناً بها قلبه، غير شاكّ، ويبتغى بذلك وجه الله، ولكن يعاجله الموت قبل أن يعمل في الإسلام عملاً واحداً أو أعمالاً كثيرةً. فهذا يدخل الجنة كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : {ما من عبد يشهد أن "لا إله إلا الله" وأنَّ محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرّمه الله على النار} [متفق عليه]. وقال صلّى الله عليه وسلّم: {من شهد أن "لا إله إلا الله" وأن محمداً رسول الله حرّمه الله على النار} [مسلم]. ومما وقع في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم من ذلك ما يأتي: عن أنس رضي الله عنه أن يهودياً قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "أشهد أنك رسول الله" ثم مات، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: {صلُّوا على صاحبكم} [أحمد/أبو يعلى]. عن أنس رضي الله عنه قال: {كان غلام يهودي يخدم النبي صلّى الله عليه وسلّم فمرض فأتاه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم. فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم، فأسلم. فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار} [البخاري]. عن ابن عباس رضي الله عنه قال: {كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مسيرة ساره إذ عرض له أعرابيٌّ فقال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لقد خرجتُ من بلادي وتلادي ومالي لأهتدي بهداك وآخذ من قولك، وما بلغتك حتى مالي طعام إلا من خضر الأرض فأعرض عليّ، فعرض عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقبِل، فازدحمنا حوله، فدخل خف بكره في بيت جرذان فتردَّى الأعرابيُّ فانكسرت عنقه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "صدق والذي بعثنى بالحق لقد خرج من بلاده وتلاده وماله ليهتدي بهداي ويأخذ من قولي، وما بلغني حتى ما له طعام إلا من خضر الأرض أسمعتم بالذي عمل قليلاً وأُجر كثيراً؟ هذا منهم"} وفي لفظ: {هذا عمِل قليلاً وأُجِر كثيراً} [ابن أبي حاتم/وأحمد]. قال البراء رضي الله عنه: {أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم رجلٌ مقنع بالحديد فقال يا رسول الله أقاتل أو أسلم؟ قال: أسلم ثم قاتل. فأسلم ثم قاتل فقُتِل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمِل قليلاً وأُجر كثيراً} [البخاري]. وثبت في السيرة أن عمرو بن ثابت بن وقش أسلم يوم أُحد فباشر القتال فقُتِل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: {إنه من أهل الجنة}. وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: (أخبروني عن رجل دخل الجنة لم يصلّ صلاة. ثم يقول: هو عمرو بن ثابت). الثاني: إن الإنسان المسلم قد يكون مسرفاً على نفسه، كثير الذنوب، مرتكباً للكبائر، ثم يوفقه الله للتوبة النصوح. فيقبل الله توبته ثم إنه قد يعمل بعد ذلك أعمالاً صالحةً وقد يموت، فيلقى الله بما قدم من الذنوب قبل أن يتوب مع توبته النصوح وتوحيده الخالص الذي مات عليه، فيدخل الجنة كما جاء في حديث البطاقة. عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: {يُصاح برجل من أمتي على رؤس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل منها مدّ البصر، ثم يُقال: أتنكر من هذا شيئاً؟ فيقول: لا يا ربِّ. فيُقال: ألك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا. فيقال: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن "لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" فيقول: يا ربِّ ما هذه البطاقة مع هذا السجلات؟ فيُقال: إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات، وثقُلت البطاقة}[الترمذي/والنسائي/والحاكم]. قد مرّ بك أن كلمة التوحيد لا تنفع الكافرين في الآخرة. وأنها لا تمنع بعض المسلمين من دخولهم النار، وتمنع بعضهم من ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيميه: "فلا منافاة بين الأحاديث فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصرّاً على ذنبٍ أصلاً، فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحبّ إليه من كل شيء ، فإذاً لا يبقى في قلبه إرادة لما حرّم الله ولا كراهية لما أمر الله، وهذا هو الذي يحرم على النار، وإن كانت له ذنوبٌ قبل ذلك، فإن هذا الإيمان وهذه التوبة وهذا الإخلاص وهذه المحبّة وهذا اليقين لا تترك له ذنباً إلاّ يمحى كما يمحي اللّيل بالنهار".