الحقيقة السادسة: القول المطلوب من المشركين قد بيَّن القرآن أن الإنسان إذا اعتقد أن أحداً من دون الله يملك السلطة والقدرة على النفع أو الضرّ. ثم أخذ يدعوه ويستغيث به في جلب المنافع ودفع المضارّ مما لا يقدر عليه إلا الله أنه قد اتّخذه إلهاً. قال الله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّؤُنَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي اْلأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس:18]. وقال الله تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اْلكَافِرُونَ [المؤمنون: 107]. وقد جعل الله للإنسان قلباً يؤمن ويعتقد،ولساناً يعبر عما في قلبه من الاعتقادات. فيمكن معرفة عقائد الناس، وما تكنُّه صدورهم عن طريق التعبير والبيان بالألسنة، فمن أشرك بالله واعتقد هذا الاعتقاد الذي تحكى الآيات عنه من الطبيعي أن يتكلَّم بما يعتقده ويراه حقاً.وأن يقول بلسانه ما في قلبه، فيقول مثلاً: هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ [يونس:18] مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى [الزمر:3] هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88] مَنْ فَعَلَ هَذَا بآلهتنا [الأنبياء:62] وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ [هود:53] أي أن الإنسان المشرك من الطبيعي أن يشهد ويقول بلسانه أن مع الله آلهة أخرى. والمشركون لما أُمروا بأن يشهدوا أن "لا إله إلا الله"، لم يكن المراد منهم أن يقولوا بأفواههم ما ليس في قلوبهم. وإنما كان المراد أن يتركوا هذا الاعتقاد الباطل الذي لا يقوم على برهان،وهذه الشهادة التي يشهدونها بألسنتهم في آن واحد. قال الله تعالى:أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:19] فإن وُجد إنسان يقول بلسانه أشهد أن "لا إله إلا الله" وهو يعتقد أن "الوليّ" الفلاني يسمع الدعاء، ويقدر على الإغاثة،وتفريج الكربات، فإنه لم يشهد شهادة الحق بعدُ. لأنه شهد أولاً أن "لا إله إلا الله" ثم شهد بعدها أن مع الله إلهاً آخر. فأبطل بذلك شهادته الأولى وصار من المشركين الذين يشهدون أن مع الله آلهة أخرى. ولا فرق في الحقيقة، بين أن يسمّى الوليَّ الذي يدعوه ويرجوا خيره ويتّقى شرّه "إلهاً" أم لم يسمّه بهذا اللّفظ، وسمّاه بلفظٍ آخر، مثل "الوليّ" أو "السيد" أو "الشيخ" فالاختلاف في الألفاظ والاصطلاحات لا يغيّر شيئاً عن حقيقة الحكم الذي أعطاه القرآن لمن اعتقد هذا الاعتقاد الكافر، وشهد هذه الشهادة الباطلة. وقوله صلى الله عليه وسلم :{أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن "لا إله إلا الله"}. معناه: "أُمرت أن أُقاتلهم حتى يشهدوا أن "لا إله إلا الله" ويكفروا بشهادتهم "أن مع الله آلهة أخرى" أي "أقاتلهم حتى يتركوا قولهم: هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ الله [يونس:18] مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى [الزمر:3] وغير ذلك من أقوالهم وشهاداتهم الشركية. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: {أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا "لا إله إلا الله"}. معناه: "أُمرت أن أقاتلهم حتى يقولوا"لا إله إلا الله"ويكفروا بقولهم أن مع الله آلهة أخرى. أي أقاتلهم حتى يتركوا قولهم: هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ الله [يونس:18] مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى [الزمر: 3] وغير ذلك من أقوالهم الشركية. وقد كان المشركون يفهمون جيداً لما طُلب منهم أن يقولوا "لا إله إلا الله"،إنه يُراد منهم أن يقولوا هذه الكلمة مع تركهم للقول المخالف لها الذي كانوا يقولونه في جاهليتهم. فقد ورد في صحيح البخاري أن هرقل، ملك الروم، سأل أبا سفيان وهو على شركه عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا يأمركم؟ فأجابه أبو سفيان قائلا: "يقول: أُعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة". فقد فهِم أبو سفيان من الدعوة إلى شهادة أن "لا إله إلا الله" الموجهة إليهم، أنها تطلب منهم أن يتركوا ما يقول آباؤهم الذين يشهدون أن مع الله آلهة أخرى. فكان أصحّ فهماً من كثيرٍ من مدّعى العلم في هذا الزمن الذين يقولون إن الإسلام هو النطق بكلمة "لا إله إلا الله". وإن كان الناطق مع ذلك يشهد بأن مع الله آلهة أخرى. وبيّن القرآن كذلك،أن من أطاع غير الله في التحليل والتحريم واتّخذ أوامره شريعةً واجبة الإتّباع، أنه قد اتّخذه إلهاً وشريكاً مع الله. قال الله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ [الشورى:21] وقال الله تعالى: إتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْباَباً مِنْ دُونِ اللهِ وَاْلمَسِيحَ ابن مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون [التوبة:31] وقال الله تعالى:وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ [آل عمران:64] وقال الله تعالى: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121] ومن الأمور الطبيعية أن يتكلَّم هذا الإنسان الذي اتَّخذ الشركاء واتّبع غير الله في التحليل والتحريم بما يعتقده، وأن يعبر لسانه عما في قلبه وأن يقول مثلا: هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ [النحل:116] هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يطعمها إِلاَّ مَنْ نَّشَاءُ [الأنعام:138] مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ اْلأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَّيِّتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ [الأنعام:139] وهؤلاء المشركون الذين كانوا يتّبعون شرائع لم يأذن بها الله، لما جاءهم الإسلام ودعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يشهدوا أن "لا إله إلا الله"، لم يكن المراد أن يقولوا بأفواههم ما ليس في قلوبهم. وإنما كان المراد أن يعبدوا الله في التحليل والتحريم وأن يكفروا بالطاغوت، ويجتنبوا عبادته وطاعته في التحليل والتحريم. وكان المراد كذلك ألاّ يقولوا بألسنتهم هذا حلالٌ أو حرامٌ إلا أن يكون ذلك موافقاً لشريعة الله. قال الله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِاْلعُرْوَةِ اْلوُثْقَى [البقرة:256] وقال الله تعالى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وأنابوا إِلَى اللهِ لَهُمُ اْلبُشْرَى [الزمر:17] وقال الله تعالى: قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كذَّبُوا بآياتنا وَالَّذِينَ لا يؤمنون بِاَلآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:150] وقد بيَّنت هذه الآية الأخيرة أن من اتّبع غير الله في التحليل والتحريم المخالف لكتاب الله، يكن مكذِّباً بآيات الله، وكافراً بالآخرة، وجاعلاً لله شريكاً وعديلاً. ومن المعلوم أن المشركين الذين كانت الآية تخاطبهم عند نزولها كانوا يظنُّون أن ما يزاولونه من التحليل والتحريم شريعة الله التي ورثوها عن الآباء والأسلاف. وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف:28] فإذا كانت هذه منْزلتهم عند الله مع ظنِّهم أنهم إنما يتّبعون شريعة الله. فكيف تكون منْزلة المشركين المعاصرين الذين لا يرون الله سبحانه مستحقّاً للتشريع لعباده في هذا العصر. والذين يفضِّلون شرائع الكفرة على شريعة الله؟. لاشكّ أنهم أشدُّ كفراً وشركاً وتكذيباً بآيات الله. فإن وُجد إنسان يقول بلسانه أشهد أن "لا اله إلا الله" وهو يعتقد أن شريعة غير الله واجبة الإتّباع وأنّها صالحةٌ وعادلةٌ. فإنه لم يكفر بالطاغوت ولم يشهد شهادة الحق بعدُ. لأنَّه شهد أن "لا إله إلا الله" أولاً ثم شهد ثانياً أن مع الله إلهاً آخر. فأبطل شهادته الأولى. وقوله صلى الله عليه وسلم :{أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن "لا إله إلا الله" أو حتى يقولوا "لا إله إلا الله"}.معناه:"أُمرت أن أقاتلهم حتى يقولوا ويشهدوا أن "لا إله إلاّ الله"، ويكفروا بقولهم وشهادتهم أن مع الله آلهة أخرى" أي: أقاتلهم حتى يتركوا قولهم: هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ [النحل: 116] هَذَهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَّشَاءُ [الأنعام: 138] ما فِي بُطُونِ هَذِهِ اْلأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا [الأنعام:139]. وما أشبه ذلك من الأقوال والشهادات الشركية. وخلاصة القول هي أن الإنسان إذا شهد أن "لا إله إلا الله" وهو يشهد أن مع الله آلهة أخرى فلا قيمة ولا وزن لشهادته أن "لا إله إلا الله" لسببين: الأول: إنه شهد شهادتين متناقضتين كلّ واحدة منهما تنقض الأخرى كمن قال : (الخمر حرام ) (والخمر حلال) فيكون قوله ساقطاً. الثاني: إنه قد تبيَّن أنه يقول بلسانه ما ليس في قلبه، إذ لو كان قوله أشهد أن "لا إله إلا الله" من قلبه ما أبطلها بقوله"أن مع الله آلهة أخرى" ولا فرق بين من يعبد غير الله، ويسمَّى معبوده "إلهاً " و "ربّاً " وبين من يعبد غير الله ويسمَّى معبوده "ولياً " أو"سيداً" أو" شيخاً" أو"رئيساً" أو "ملكاً". فلا عبرة باختلاف الألفاظ إذا تشابهت القلوب، واتّفقت النيات والأعمال.