الحقيقة الخامسة الحنيف والحنيفية قد ذكر الله تعالى إبراهيم عليه السلام في كتابه كثيراً. ووصفه بأنه كان حنيفاً، وأنه لم يكن من المشركين. قال الله تعالى:إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً للهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ اَلْمُشْرِكين﴾ [النحل:120] وقال الله تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بريءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات وَاْلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ اْلمُشْرِكِينَ [الأنعام:78-79] ومعنى (الحنيف) هو كما قال الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية قال:(حنيفاً) أي في حال كوني حنيفاً.أي مائلا عن الشرك إلى التوحيد. ولهذا قال وما أنا من المشركين. وقال الإمام ابن القيّم (الحنيف) المقبل على الله المعرض عن كل ما سواه. (والحَنِيفية) هي دين إبراهيم، ومعناها. الإقبال على الله والميل إلى عبادته وحده بلا شريك، والبراءة من الشرك، ومن أهل الشرك. وهذا هو الإسلام الذي أمره الله. ومقتضى الإقرار بـ "لا إله إلا الله". وقد بعث الله تعالى محمدا  بالحنِيفية ملة إبراهيم عليه السلام فأمره أن يكون حنيفاً وأن لا يكون من المشركين وبيَّن أنها دين الفطرة وأنها أحسن الأديان. قال الله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وما كان مِنَ اْلمُشْرِكِين [النحل:123] وقال الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيْنًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء:125] وقال الله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. دِيْناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وما كان مِنَ اْلمُشْرِكِينَ. قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ اْلعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:161-163]. وقال الله تعالى:فَأَقِمْ وَجْهَكَ للِدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ اْلقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُوْنَ.مُنِيـبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ اْلمُشْرِكِينَ [الروم:30-31]. وقال الله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِّنْ دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اْلمُؤْمِنِينَ. وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ اْلمُشْرِكِينَ [يونس:104-105]. وقال الله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ اْلأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ [الحج:30-31]. فمن هذه الآيات وأمثالها في القرآن، نستخلص عدّة حقائق هامّة، أهمُّها: (1) أن الحنيفية هي الدِّين الوحيد الذي يرضاه الله لعباده. ومعناها أن يعبد الإنسان الله مخلصاً له الدِّين، وأن يتبرّأ من الشرك ومن أهل الشرك. (2) أن الحنيفية هي الإسلام وأن الإسلام هو الحنيفية وقد جاء في الحديث: {بُعثت بالحنيفية السمحة} [رواه أحمد]. (3) أن الحنيف هو المسلم وأن المسلم هو الحنيف. فكما لا يجوز أن يُقال لمن أشرك هو "الحنيف"، لا يجوز كذلك أن يُقال "هو مسلم". قال الإمام ابن تيمـية: "فالقلب إن لم يكن حنيفاً مقبلاً على الله معرضاً عمَّا سواه كان مشركاً"(1) والغافلون عن هذه الحقائق الكبيرة من مدّعى العلم والفقه في هذا الزمن جاءوا بتفصيل عجيب،لم يسبقوا إليه حيث قالوا. من قال "لا إله إلا الله" بلسانه فهو المسلم. فإن قال "لا إله إلا الله" ثم عبد الله وحده فهو المسلم الحنيف، وإن قال "لا إله إلا الله" ثم أشرك بالله فهو مسلم وإن لم يكن حنيفاً. ففرّقوا بين الإسلام والحنيفية، كما فرّقوا بين المسلم والحنيف ولم يعلموا أن من أشرك بالله كما لا يكون حنيفاً لا يكون كذلك مسلماً. إذ لا فرق بين الصفتين. ولم يعلموا كذلك أن الإنسان قد يقول "لا إله إلا الله" بصدق ويقين وإخلاص،وقد لا يقول. وأنّ هناك فرقاً بين قائلها بصدق ويقين وإخلاص، وبين قائلها بشركٍ وشكٍ ونفاقٍ. ولم يعلموا أن قائل "لا إله إلا الله" في كفره وشركه يكون على إحدى حالتين: الأولى: أن يكون كفره ظاهراً، فيحكم بكفره مع قوله "لا إله إلا الله" وتجرى عليه أحكام أمثاله من الكفار. الثانية: أن يكون كفره باطناً ويبدى التوحيد والإخلاص والبراءة من الشرك في الظاهر، فيكون حينئذٍ منافقاً في الدرك الأسفل من النار مع قوله "لا إله إلا الله"، ولكنه في الدنيا تجرى عليه أحكام المسلمين لإتيانه بالإسلام الظاهر. فاليهود مثلاً: كانوا على الحالة الأولى. كانوا يقولون "لا إله إلا الله" ويدَّعون أنهم على ملة موسى وإبراهيم عليهما السلام. فأبطل القرآن زعمهم، بأنهم يشركون بالله وليسوا بحنفاء. وأنهم خالفوا بذلك ملَّة الأنبياء الذين هم كانوا على الحنيفية. وأنهم أصبحوا كفاراً. قال الله تعالى: وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ اْلمُشْرِكِينَ [البقرة:135] وقال الله تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ اْلمُشْرِكِينَ [آل عمران:67] وقال الله تعالى:قُلْ يَا أَهْلَ اْلكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّواْ فَقُولُوا اَشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64] فلظهور شركهم وكفرهم، وإصرارهم عليه، اعتبرهم القرآن كفاراً. ولم ينفعهم قولهم "لا إله إلا الله". إذ كان ذلك القول في كفرهم. وكذلك المرتدون الذين ظهروا في عهد الصحابة، وما بعده. كانوا على الحالة الأولى. فقد كفروا وأشركوا وخرجوا عن الحنيفية، وهم لا يزالون يقولون بأفواههم "لا إله إلا الله". فلم ينفعهم القول، بل حكم عليهم بالكفر. ونفذ فيهم أحكام المرتدين بحزمٍ وصرامةٍ شديدة. أما المنافقون فقد كانوا على الحالة الثانية،حيث كانوا يُظهرون الإسلام، وموافقة الحنيفية، ويبطنون الكفر، ومعاداة الحقّ وأهله فأُجريت أحكامهم على الظاهر. ونفعهم القول في الدنيا. إذ أصبحوا معصومي الدماء والأموال ولم ينفعهم في الآخرة فكانوا في أسفل دركات النار. قال الله تعالى: إِنَّ اْلمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ اْلأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً [النساء:145]