الحقيقة الرابعة: الأمر الأول الوحيد قد أخبر الله تعالى في كتابه أنه لم يأمر عباده إلا أمراً واحداً، وبيّن أن هذا الأمر هو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. قال الله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً(. [النساء:36] وقال الله تعالى:(وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ( [البينة:5]. وقال الله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً( [التوبة:31] فقد أكّدت هذه الآيات أن إخلاص العبادة لله هو الأمر الأول الوحيد الذي أمر الله عباده في كتابه قبل الأوامر الأخرى الفرعية. ومن لم يحقِّق ويلتزم بهذا الأمر الأول لا يكون مسلماً مؤمناً بالتزامه وعمله بالأوامر الفرعية الكثيرة. لأنَّ كلّ ما بعد هذا الأمر الأول من الأوامر والنواهي الفرعية مثل: الأمر بالصلاة والزكاة والصيام والحجّ والجهاد وغير ذلك. وكذلك النواهي،كالنهي عن قتل النفس إلا بالحقّ وعن الخمر والميسر والزنا والربا وغير ذلك. فكلّ هذه الأوامر والنواهي الشرعية قائمة على ذلك الأمر الأول، ومنبثقة منه، ولا تكون مقبولةً عند الله إلا به. فإن الإنسان إذا أدّى الواجبات، واجتنب المحرّمات، وانقاد لجميع الأحكام الشرعية، فإن كل ذلك لا ينفعه شيئاً حتى يحقق أولاً ذلك الأمر الأول الوحيد. فيترك الشرك وعبادة غير الله. قال الله تعالى:(لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ اَلخَاسِرِينَ( [الزمر:43] وقال عزّ وجلّ: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ( [الأنعام: 88] والأمر بقول"لا إله إلا الله"ليس أمراً فرعياً مثل الأمر بالصلاة والزكاة وغيرها وإنما هو أمر بعبادة الله وحده لا شريك له وصيغة ثانية له ولذلك قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ( [الأنبياء:25] وقال أيضا: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ( [النحل:36]. والأحاديث الكثيرة المرويّة عن النبي  مثل الحديث: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: "لا إله إلا الله"} وحديث: {قولوا "لا إله إلا الله" تفلحوا} . وما في هذا المعنى من الأحاديث يجب أن يُفهم منها أنها كانت دعوة إلى عبادة الله وحده بلا شريك، واجتناب الطواغيت، يؤديها النبي  ويبلِّغها إلى الناس كما فعل مَن قَبله من الرسل. ولم تكن طلباً من الناس أن يأتوا بالنطق، والتلفظ بكلمة التوحيد بأفواههم، مع استبقائهم للشرك، وعبادة غير الله في واقعهم العملي. ولا يجوز أن يحسب الإنسان من أهل "لا إله إلا الله" حتى يرضي بعبادة الله وحده بلا شريك، ويجتنب عبادة الطواغيت. والأمر بالإسلام الوارد في القرآن كذلك كقوله تعالى: (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ اْلعَالَمِينَ( [الأنعام:71] وقوله: (فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا( [الحج:34] وقوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ( [هود:14] وقوله تعالى: (فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ( [البقرة: 132]. ليس هذا الأمر أمراً فرعياً كالأمر بالصلاة والزكاة.وإنما هو أمرٌ بعبادة الله وحده لا شريك له، وصيغة ثالثة لهذا الأمر الأول الوحيد. وليس طلباً من الناس أن يقولوا بأفواههم:"أسلمنا" أو"نحن مسلمون"، مع استبقائهم للشرك وعبادة غير الله في واقعهم العملي . إذا عرفت أن هذه الأوامر الثلاثة التي هي: (1) الأمر بعبادة الله وحده بلا شريك. (2) الأمر بقول لا إله إلا الله. (3) الأمر بالإسلام. عبارة عن أمر واحد عُرض بصيغ مختلفة تؤدّى إلى غاية واحدة. إذا عرفت ذلك يسهل عليك أن تعرف أن من لم يحقِّق ذلك الأمر الأول الوحيد الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، والكفر بما يُعبد من دونه من الآلهة والطواغيت، لا يكون من أهل "لا إله إلا الله"، ولا يكون كذلك من أهل "الإسلام".لأن الأمر بإخلاص العبادة لله هو الأمر بقول "لا إله إلا الله" وهو الأمر بالإسلام. ويسهل عليك أيضاً أن تعرف ضلال من فرق بين هذه الأوامر الثلاثة، وظنّ أن إسلام المرء يتمّ بالنطق بكلمة التوحيد. فإن قال الإنسان: "لا إله إلا الله" فقد أسلم. أما إخلاص العبادة لله، والكفر بالآلهة والطواغيت، فليس في نظره شرطاً يجب أن يصاحب نطقه بكلمة التوحيد. فخالف بذلك ما صرح به القرآن. وجوَّز أن يكون الإنسان مسلماً وهو يعبد مع الله غيره، ويتّبع ما لم يأذن به الله من شرائع الطواغيت.وهذا جهلٌ فاحشٌ، وجمعٌ بين الضدين يدلُّ على سوء فهمهم وبُعدهم عن معرفة حقيقة الإسلام. فينبغي التنبه على أن الإخلاص، وعدم الشرك شرطٌ لقول "لا إله إلا الله".وإنها لا تنفع قائلها إلا إذا قصد إخلاص العبادة لله والبراءة من الشرك. وأن المشرك مهما قالها لا يُحسب من أهلها، حتى يتوب من الشرك.