الحقيقة الثانية: فهم المشركين لمعنى لا إله إّلا الله إن الله تعالى قد أخبر في كتابه أن المشركين الذين وُوجهوا بدعوة أن "لا إله إلا الله" كانوا يفهمون المراد منها وأنه ترك الآلهة وعبادة إله واحد. ولذا أنكروا هذه الدعوة وعدُّوها خروجاً عن دين الآباء والأجداد. ولم يكن أحدهم يَجرؤ على قولها إلا إذا أراد الاستسلام والدخول في الدِّين الجديد. وإليك الآيات الدالة على فهمهم التام للمقصود من الدعوة وأنه ترك الآلهة المعبودة وعبادة الله وحده بلا شريك. لما دعا نوح عليه السلام قومه إلى أن"لا إله إلا الله" وقال لهم: أُعْبُدُوْا اللهَ مَاْلَكُمْ مِنْ إِلِهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] كان جوابهم: لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَسُوَاعاً وَلاَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نوح: 23] ولما دعا هود عليه السلام قومه إلى أن "لا إله إلا الله"وقال لهم: أُعْبُدُوا اللهَ مَالَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [هود:51] كان جوابهم: يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَاْرِكِيْ آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [هود: 53] أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ أَباَؤُنَا [الأعراف:70] ولما دعا صالح عليه السلام قومه إلى أن "لا إله إلا الله" وقال لهم:أُعْبُدُوا اللّهَ مَالَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [هود:61] كان جوابهم: يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِيْنَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا [هود: 62] ولما دعا شعيب عليه السلام قومه إلى أن "لا إله إلا الله" وقال لهم:أُعْبُدُوا اللّهَ مَالَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [هو: 84] كان جوابهم: أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ [هود: 87] ولما دعا إبراهيم عليه السلام قومه إلى أن "لا إله إلا الله" وقال لهم: إِنَّنِي بَرَاْءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ. إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:26-27] قال له أبوه:أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم: 46] وقال قومه: حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا أَلِهَتِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [الأنبياء:67] ولما دعا محمد  قومه إلى أن "لا إله إلا الله"وقال لهم:إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيْءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام: 19] فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ [هود:14]. كان جوابهم:أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص: 5] وقد قال الله تعالى عن المشركين عامة وعن جريمتهم التي سيدخلون النار بسببها: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي اْلعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ.إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِاْلمُجْرِمِينَ. إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ. وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارَكُوا أَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات: 33-36]. وكذلك أخبر الله أن المشركين كانوا يعترفون بشركهم ويقرّون بأنّ لهم شركاء وآلهة ويظنون أن الله لا يبغض هذا الشرك الموروث عن الأسلاف، وكانوا يحتجّون على ذلك بمشيئة الله القدرية. قال الله تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ اَّلذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الأنعام:148] وقال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُوْنِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلاَ آباَؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النحل:35]. وقال الله تعالى:وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِاْلفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاْ تَعْلَمُونَ [الأعراف:28] وكانت تلبية قبائل نزار قبل مبعث النبي  لبيك اللّهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك. ولما قال النبي  لعمه أبي طالب وهو في مرض الموت:{قل: "لا إله إلا الله" كلمة أشهد لك بها عند الله} قال له أبو جهل وصاحبه: أترغب عن ملّة عبد المطلب، فأبى أبو طالب أن يقول "لا إله إلا الله" ومات على ملَّة عبد المطلب. فهذا يدلّ دلالة واضحةً على أنّهم كانوا على علمٍ بأن قول "لا إله إلا الله" يستلزم مفارقة ملّة عبد المطلب والأسلاف، ولذلك نفروا من قولها وقالوا كما حكى الله عنهم: أَجَعَلَ اْلآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ.وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادٌ [ص:5-6]. ولما قال النبي  لحصين بن المنذر: {كم إلهاً تعبد؟ قال سبعة، ستة في الأرض وواحداً في السماء. قال فمن تعدّ لرغبتك ورهبتك؟ قال الذي في السماء}. [الترمذي/والحاكم]. وإذا قال أحدٌ من هؤلاء المشركين الذين يعرفون معنى الكلمة وما تقتضيه: "لا إله إلا الله" كان من المعروف جيداً أنه يريد الإسلام، وأنه قد ترك الآلهة المعبودة الباطلة ، بعد أن علم بأنها لا تنفع شيئاً ولا تضرّ ولا تستحقّ العبادة. ولذلك أصبح من شريعة الإسلام وجوب الكفّ عن هذا الصنف من المشركين ولو في حالة الحرب إذا قالوا "لا إله إلا الله" بخلاف غيرهم الذين يقولونها في كفرهم وشركهم.