(السادسة): "القول فى مصير أهل الفترة في الآخرة" 1ـ ذهب فريق من العلماء إلى امتناع وجود من لم تبلغه الدعوة إلى التوحيد واستدلوا بذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر:24]. و ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]. و ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ﴾ [الملك: 8-9]. وغير ذلك من الآيات التي في هذا المعنى. واستدلوا أيضاً بحديث وفد "بني المنتفق" الذي فيه: "ذلك بأنّ الله بعث في كلّ سبع أمم نبياً فمن عصا نبيه كان من الضالين ومن أطاع نبيه كان من المهتدين" (أحمد)، وحديث عائشة رضي الله عنها، قالت: "قلتُ يا رسول الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذاك نافعه؟، قال: {لا ينفعه إنّه لم يقل يوماً ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدِّين}، [مسلم]. ورأوا أنَّ حديث "الإمتحان"ضعيفٌ لا تقوم بمثله حجَّة. قال الإمام إبن عبد البرّ: "أحاديث هذا الباب ليست قويَّة، ولا تقوم بها حجَّة، وأهل العلم ينكرونها، لأنَّ الآخرةَ دار جزاء وليست دار عمل ولا إبتلاء، وكيف يُكلَّفون دخول النَّار وليس ذلك فى وسع المخلوقين، والله لايكلِّفُ نفساً إلا وسعها"(ذكره إبن كثيرفى تفسيره ) وقال الإمام النووي فى"شرح مسلم": قوله: (أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: في النار، فلما قفى دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار) فيه أن من مات على الكفر فهو في النار ولا تنفعه قرابة المقربين، وفي أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم. 2ـ وذهب فريق آخر من العلماء إلى وجود " أهل الفترة" الذين لم تبلغهم الدعوة، وماتوا قبل مجئ الرُّسل، كما يُفهم من قوله تعالى: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاً يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النِّساء: 165] وقوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾ [المائدة: 19]. ومرادهم بـ "أهل الفترة" هو كلُّ من أنكر الشرك واجتهد فى معرفة الحقِّ فعجز عن دركه، وليس كلَّ من رضي بما أدركه من الشرك والجاهليَّة، كما بيَّن ذلك الشاطبيُّ فى كلامه المتقدِّم. وكذلك قال إبن القيِّم فى "طريق الهجرتين": "وأمَّا العاجز عن السؤال والعلم الَّذى لم يتمكن من العلم بوجه فهم قسمان أيضا: *أحدهما: مريد للهدى مؤثِّر له محبٌّ له، غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم من يرشده، فهذا حكم أرباب الفترات ومن لم تبلغه الدعوة. *والثانى: معرضٌ لا إرادة له، ولا يُحدثُ نفسه بغير ما هو عليه، فالأول: يقول: يا ربّ، لو أعلم ديناً خيرا مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه، ولكنِّى لاأعرف سوى ما أنا عليه، ولا أقدر عليه، فهو غاية جهدى ونهاية معرفتى، والثانى: راض بما هو عليه، لا يؤثِّر غيره عليه ولا تطلب نفسه سواه، قال: "ففرقٌ بين عجز الطالب وعجز المعرض". اﻫ وقال هذا الفريق من العلماء: إنّ الله سيمتحنهم يوم القيامة فيكون فريق في الجنة وفريق في السعير، واستدلوا بحديث الأربعة: عن الأسود بن سريع رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: "أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصمّ لا يسمع شيئاً، ورجلٌ أحمقٌ، ورجلٌ هرمٌ ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: ربّ قد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً، وأما الأحمق فيقول: ربّ قد جاء الإسلام والصبيان يحذفونى بالبعر، وأما الهرم فيقول: ربّ لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، وأما الذي مات في فترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنّه، فيرسل إليهم أن أدخلوا النار فو الذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً"- (أحمد). ورواه أبو هريرة وزاد: "ومن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً ومن لم يدخلها يسحب إليها"،، قال ابن كثير فى التفسير في قوله تعالى: "وما كنا معذبين "الآية": "إنّ أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نصّ على ذلك كثير من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متّصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها" وأسلم الطرق أن نقول ما قاله "الإمام ابن القيم": "والله يقضى بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذب إلاّ من قامت عليه حجته بالرسل فهذا مقطوع به في جملة الخلق، أما كون زيد بعينه أو عمرو قامت عليه الحجة أم لا فذلك مما لا يمكن عليه الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد: · أنّ كلّ من دان بدين غير الإسلام فهو كافرٌ، · وأنّ الله سبحانه وتعالى لا يعذّب أحداً إلاّ بعد قيام الحجة عليه بالرسول. هذا في الجملة والتعيينُ موكول إلى الله وهذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر" (طريق الهجرتين).