(الخامسة) العذر بالجهل في المسائل الجزئية: (أولاً): إنّ المسلم الذي آمن بالله وعبده بلا شريك وآمن بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر يمكن أن يجهل صفة من صفات الله فيعذر بالجهل ولا يكفّر إلاّ بعد البيان وإقامة الحجة عليه، والأحاديث الآتية تدلّ علي ذلك: عن حذيفة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: {كان رجلٌ ممن كان قبلكم يسيء الظنّ بعمله فقال لأهله: إذا أنا مت فخذوني فذروني في البحر في يوم صائف، ففعلوا به، فجمعه الله، ثم قال: ما حملك على الذي صنعتَ، قال: ما حملني إلاّ مخافتك فغفر له} (متفق عليه)، وعن أبي هريرة أنّ ناساً قالوا: يا رسول الله: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارّون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟، قالوا لا، قال: إنّكم ترون ربكم كذلك) (متفق عليه)، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال: {ياءيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنّكم لا تدعون أصم ولا غائباً أنّ الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، إنّه معكم إنّه سميع قريب تبارك اسمه وتعالى جده}، (البخاري) وقال صلّى الله عليه وسلم عن الدجال: {تعلمون أنّه أعور وأنّ الله ليس بأعور}(متفق عليه)، وقال الحسن البصري في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ الآتية :سببها أنّ قوماً قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: "أ قريبٌ ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه" فنَزلتْ الآية، وروى ابن جرير عنه أنه قال: "سأل أصحاب النبي، النبي صلّى الله عليه وسلم: "أين ربنا؟" فأنزل الله تعالى ذكره ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ﴾ الآية، وقد كان المشركون وأهل الكتاب يعلمون بوجود الله وربوبيته وألوهيته إلاّ أنّهم كانوا يجعلون له شركاء يعبدونهم في صورة من صور العبادة وكانت دعوة الإسلام تحارب هذا الشرك وتدعوا الناس إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله، فإذا شهدها الإنسان وكفر بالآلهة الباطلة كان يدخل بتلك الشهادة الإسلام دون أن يسأل عن صفات الله بالتفصيل، ولكنّه بعد إسلامه كان يتعلّم ما جهله من صفات الربّ من الكتاب والسنّة، وقد كانوا يأتون إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهم يسألونه عن بعض الصفات كما نرى ذلك من الأحاديث السابقة، أما إذا جحد الإنسان الصفة الثابتة بنصٍّ قطعيٍّ بعد علمه بها فإنه يصير بذلك الجحود كافراً لأنّه صار رادّاً للحقّ معارضاً لأخبار الله، ولذا قال الإمام الشافعي: "لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردّها ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنّه يعذر بالجهل، نثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]. وهناك من يخطئ في الاستدلال بالأحاديث المتقدمة فيجعل جاهل التوحيد كجاهل الصفة، وينقل كلام العلماء في جاهل الصفة لتبرئة جاهل التوحيد دون أن ينظر إلى كلامهم في جاهل التوحيد خاصة، وقد قال الإمام ابن تيمية في الردّ على المتكلمين لما ذكر أنّ أئمتهم توجد منهم الردّة عن الإسلام كثيراً قال: "وهذا إن كان في المقالات الخفية فقد يقال فيها مخطئ ضالٌ لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها ولكن هذا يصدر عنهم في أمور يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعث بها وكفر من خالفها مثل: عبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحد سواه من الملائكة والنبيين وغيرهم فإنّ هذا أظهر شعائر الإسلام،، ومثل إيجاب الصلوات الخمس وتعظيم شأنها ومثل تحريم الفواحش كالزنا والربا والخمر والميسر ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا فيها فكانوا مرتدين" [اقتضاء الصراط المستقيم]. فقد بيّن الإمام أنّ من أنكر التوحيد الذي هو أظهر شعائر الإسلام يكون عند ذلك مرتداً، وينبغي التنبيه على أنّ الجهل بالصفة ليس على درجة واحدة، فمن صفات الله ما لا يمكن أن يكون جاهلها مسلماً عاملاً بالتوحيد، مثل أن يجهل أنّ الله "حيٌ قيوم" أو أنّ الله "واحدٌ أحد" أو أنّ الله "خالق الكون" وعندما يقول العلماء أنّ جاهل الصفة لا يكفّر قبل إقامة الحجة الرسالية عليه فإنّهم لا يقصدون هذه الصفات وأمثالها، وإنما يقصدون بعض الصفات الجزئية التي كان ينكرها أو يعطلها بعض الفرق مع ثبوتها بالأدلَّة، مثل: (1) رؤية الله في الآخرة، (2) إنّ الله استوى على عرشه حقيقة كما يليق بجلاله، (3) إنّ القرآن كلام الله وأنّ الله لم يزل متكلماً إذا شاء، (4) نسبة الوجه واليدين والسمع والبصر إلى الله مع تنـزيهه عن مشابهة المخلوقين: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]. (5) نزول الله في كلّ ليلة إلى السماء الدنيا كما ورد في الحديث الصحيح. (ثانياً): وكذلك يُعذر المسلم بالجهل في الفروع لأنّ الأحكام إنّما أوجب الشرع الالتزام بها بعد العلم وبلوغ الخطاب للمكلّف، فمن لم يبلغه حكم من الأحكام لا يكون آثماً إذا عمل بخلافه، وذلك إذا لم يكن مقصّراً في طلب العلم، فمثلاً إذا نزل الشرع بتحريم شيء يكون ذلك الشيء محرّماً ابتداءً من وقت نزول الحكم، ومن وقع فيه يكون آثماً إذا كان عالماً بالتحريم، أما من وقع في المحرّم قبل أن يعلم ما نزل من التحريم، كمن كان غائباً وقت نزول الحكم، فإنّ الإثم لا يلحقه وحكمه حكمُ الواقع في المحرّم قبل نزول التحريم: قال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [المائدة: 93]. وقال تعالى: ﴿لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: 68]. وقال تعالى: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 275]. وقال تعالى: ﴿وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: 22] وقال تعالى: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: 23]. ولذلك كانت صلاة المسلمين الذين كانوا بأرض الحبشة إلى بيت المقدس صحيحة عند نزول الأمر باستقبال الكعبة على النبي صلّى الله عليه وسلم بالمدينة. قال ابن عمر رضي الله عنهما: "بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت فقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة" (متفق عليه). وقد تكلّم معاوية بن الحكم رضي الله عنه في الصلاة فلم يؤمر بالإعادة بل أرشده صلّى الله عليه وسلم قائلاً: "إنّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنّما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" (مسلم). "وسجد معاذ بن جبل رضي الله عنه لرسول الله صلّى الله عليه وسلم جاهلاً بحرمة هذه التحية في شريعة الإسلام، وليست كما كانت في الشرائع السابقة" ولكن ينبغي التنبيه على أنّ من أحكام الشريعة الإسلامية ما لا يمكن أن يجهلها المسلم في دار الإسلام لظهورها مثل وجوب الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان والزكاة والحج ووجوب الجهاد وبرّ الوالدين وتحريم الخمر والميسر وقتل النفس إلاّ بالحق وتحريم الربا ونكاح ذوات المحارم وغير ذلك من الأحكام ولذا قال العلماء: إنّها " من المعلوم من الدين بالضرورة " وقالوا بكفر من جحدها وإن ادّعى الجهل إلاّ إذا كان حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة عن مظان العلم، أمّا إذا قلّ العلم وظهر الجهل واندرست معالم الشريعة ولم يبق إلاّ التوحيد، ونشأ الناس وهم لا يدرون الصلاة والصيام والصدقة وغير ذلك من واجبات الدين، إذا وقع هذا في زمن من الأزمنة في بيئة من البيئات، فإنّ الناشئ فيها وهو لا يدري غير التوحيد يكون معذوراً بالجهل، وحكمه حكم من آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلم في أوائل الدعوة قبل أن يخاطبوا بالصلاة والصيام والصدقة وغير ذلك، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: {يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة ويسرى على كتاب الله عزّ وجلّ فلا يبقى منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة "لا إله إلاّ الله" فنحن نقولها" فقال له صلة: ما تغني عنهم "لا إله إلاّ الله" وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة فأعرض عنه حذيفة ثم ردّها عليه ثلاثاً كلّ ذلك يعرض عنه حذيفة ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: "تنجيهم من النار" ثلاثاً}،، أما إذا قصّر الإنسان في طلب العلم ولم يحاول جهده في معرفة الحقّ وإنّما رضى بالقعود مع الجهل فإنّه يكون آثماً مسئولاً أمام الله عما خالف من الشريعة وعما ارتكب من المعاصي بغير علم كما روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: {من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار} (الترمذي)،، وعن بريدة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنّة، رجلٌ قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحقّ وقضى بخلافه فهو في النار ورجل علم الحقّ وقضى به فهو في الجنّة} (أبو داود/الترمذي)، قال الإمام (ابن تيمية): "فهذا الذي يجهل وإن لم يتعمد خلاف الحقّ فهو في النار بخلاف المجتهد الذي قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجرٌ" فهذا جعل له أجراً مع خطئه لأنّه اجتهد فاتقى الله ما استطاع بخلاف من قضى بما ليس له به علم وتكلّم بدون الاجتهاد المسوغ له الكلام" (الردّ على الإخنائي).