(و) القرن السابع: (1) قال سيف الدِّين علي بن أبى علي الآمدي (ت: 631ﻫ) فى"الإحكام فى أصول الأحكام": "المسألة الثالثة: مذهب الجمهور من المسلمين أنه ليس كل مجتهد في العقليات مصيباً وأن الإثم غير محطوط عن مخالف ملة الإسلام سواء نظر وعجز عن معرفة الحق أم لم ينظر. وقال الجاحظ وعبيد الله بن الحسن العنبري من المعتزلة بحط الإثم عن مخالف ملة الإسلام إذا نظر واجتهد فأداه اجتهاده إلى معتقده وأنه معذور بخلاف المعاند. وزاد عبيد الله بن الحسن العنبري بأن قال: كل مجتهد في العقليات مصيب وهو إن أراد بالإصابة موافقة الاعتقاد للمعتقد فقد أحال وخرج عن المعقول وإلا كان يلزم من ذلك أن يكون حدوث العالم وقدمه في نفس الأمر حقا عند اختلاف الاجتهاد وكذلك في كل قضية عقلية اعتقد فيها النفي والإثبات بناء على ما أدى إليه من الاجتهاد وهو من أمحل المحالات وما أظن عاقلا يذهب إلى ذلك، وإن أراد بالإصابة أنه أتى بما كلف به مما هو داخل تحت وسعه وقدرته من الاجتهاد وأنه معذور في المخالفة غير آثم فهو ما ذهب إليه الجاحظ وهو أبعد عن الأول في القبح، ولا شك أنه غير محال عقلاً وإنما النزاع في إحالة ذلك وجوازه شرعاً، وقد احتج الجمهور على مذهبهم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. أما الكتاب فقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ (ص: 27 ) وقوله: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [فصلت: 23] وقوله تعالى: ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ (المجادلة: 18 )، ووجه الاحتجاج بهذه الآيات أنه ذمهم على معتقدهم وتوعدهم بالعقاب عليه ولو كانوا معذورين فيه لما كان كذلك. وأما السنة فما علم منه عليه السلام علماً لا مراء فيه تكليفه للكفار من اليهود والنصاري بتصديقه واعتقاد رسالته وذمهم على معتقداتهم وقتله لمن ظفر بهم وتعذيبه على ذلك منهم مع العلم الضروري بأن كل من قاتله وقتله لم يكن معانداً بعد ظهور الحق له بدليله فان ذلك مما تحيله العادة، ولو كانوا معذورين في اعتقاداتهم وقد أتوا بما كلفوا به لما ساغ ذلك منه، وأما الإجماع فهو أن الأمة من السلف قبل ظهور المخالفين اتفقوا أيضاً على قتال الكفار وذمهم ومهاجرتهم على اعتقاداتهم ولو كانوا معذورين في ذلك لما ساغ ذلك من الأمة المعصومة عن الخطإ". (2) وقال أبو عبد الله محمَّد القرطبي: ﴿أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ بمعنى لست تفعل هذا ولا عذر للمقلد في التوحيد" [الجامع لأحكام القرآن]. (3) قال الإمام النَّووي (ت: 676ﻫ) فى" شرح مسلم": (باب من مات لايشركُ بالله): "فأمّا دخول المشرك النار، فهو على عمومه فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي اليهوديّ والنّصرانيّ، وبين عبدة الأوثان، وسائر الكفرة، ولا فرق عند أهل الحقّ بين الكافر عنادا وغيره، ولا من خالف ملّة الإسلام، وبين من انتسب إليها ثمّ حُكم بكفره بجحده ما يكفرُ بجحده وغير ذلك. (4) وقال الإمام أحمد بن إدريس القرافي (ت: 684ﻫ) فى"تنقيح الفصول": (الفصل السادس) في التصويب: قال الجاحظ وعبيد الله بن الحسن العنبري بتصويب المجتهدين في أصول الدين بمعنى نفي الإثم لا بمعنى مطابقة الاعتقاد واتفق سائر العلماء على فساده. وقال فى"أنواع الفروق": (الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لا يَكُونُ الْجَهْلُ عُذْرًا فِيهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَكُونُ الْجَهْلُ عُذْرًا فِيهِ) اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ قَدْ تَسَامَحَ فِي جَهَالاتٍ فِي الشَّرِيعَةِ فَعَفَا عَنْ مُرْتَكِبِهَا، وَأَخَذَ بِجَهَالاتٍ فَلَمْ يَعْفُ عَنْ مُرْتَكِبِهَا وَضَابِطُ مَا يُعْفَى عَنْهُ مِنْ الْجَهَالاتِ الْجَهْلُ الَّذِي يُتَعَذَّرُ الاحْتِرَازُ عَنْهُ عَادَةً، وَمَا لا يُتَعَذَّرُ الاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَلا يَشُقُّ لَمْ يَعْفُ عَنْهُ وَلِذَلِكَ صُوَرٌ. (أَحَدُهَا) مَنْ وَطِئَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً بِاللَّيْلِ يَظُنُّهَا امْرَأَتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ عُفِيَ عَنْهُ ؛ لأَنَّ الْفَحْصَ عَنْ ذَلِكَ مِمَّا يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ. (وَثَانِيهَا) مَنْ أَكَلَ طَعَامًا نَجِسًا يَظُنُّهُ طَاهِرًا فَهَذَا جَهْلٌ يُعْفَى عَنْهُ لِمَا فِي تَكَرُّرِ الْفَحْصِ عَنْ ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالْكُلْفَةِ، وَكَذَلِكَ الْمِيَاهُ النَّجِسَةُ وَالأَشْرِبَةُ النَّجِسَةُ لا إثْمَ عَلَى الْجَاهِلِ بِهَا. (وَثَالِثُهَا) مَنْ شَرِبَ خَمْرًا يَظُنُّهُ جُلابًا فَإِنَّهُ لا إثْمَ عَلَيْهِ فِي جَهْلِهِ بِذَلِكَ. (وَرَابِعُهَا) مَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا فِي صَفِّ الْكُفَّارِ يَظُنُّهُ حَرْبِيًّا فَإِنَّهُ لا إثْمَ عَلَيْهِ فِي جَهْلِهِ بِهِ لِتَعَذُّرِ الاحْتِرَازِ عَنْ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَلَوْ قَتَلَهُ فِي حَالَةِ السَّعَةِ مِنْ غَيْرِ كَشْفٍ عَنْ ذَلِكَ أَثِمَ. (وَخَامِسُهَا) الْحَاكِمُ يَقْضِي بِشُهُودِ الزُّورِ مَعَ جَهْلِهِ بِحَالِهِمْ لا إثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ الاحْتِرَازِ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَلَيْك مِنْ هَذَا النَّحْوِ وَمَا عَدَاهُ فَمُكَلَّفٌ بِهِ وَمَنْ أَقْدَمَ مَعَ الْجَهْلِ فَقَدْ أَثِمَ خُصُوصًا فِي الاعْتِقَادَاتِ فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ قَدْ شَدَّدَ فِي عَقَائِدِ أُصُولِ الدِّينِ تَشْدِيدًا عَظِيمًا بِحَيْثُ إنَّ الإِنْسَانَ لَوْ بَذَلَ جَهْدَهُ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي رَفْعِ الْجَهْلِ عَنْهُ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الله تَعَالَى أَوْ فِي شَيْءٍ يَجِبُ اعْتِقَادُهُ مِنْ أُصُولِ الدِّيَانَاتِ، وَلَمْ يَرْتَفِعْ ذَلِكَ الْجَهْلُ فَإِنَّهُ آثِمٌ كَافِرٌ بِتَرْكِ ذَلِكَ الاعْتِقَادِ الَّذِي هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الإِيمَانِ وَيَخْلُدُ فِي النِّيرَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذَاهِبِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ أَوْصَلَ الاجْتِهَادَ حَدَّهُ، وَصَارَ الْجَهْلُ لَهُ ضَرُورِيًّا لا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يُعْذَرْ بِهِ". (5) قال عبد السلام بن عبد الله ابن تيمية (590ﻫ - 652ﻫ) فى المسودة: (مسائل أحكام المجتهد والمقلد وغير ذلك) مسألة المصيب فى الاصوليات من المجتهدين واحد وهو قول الجماعة وحكى عن عبيد الله العنبري أنه قال المجتهدون من أهل القبلة مصيبون مع اختلافهم. (6) وقال عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيميه (627ﻫ - 682) في المسودة: "ولهذا يكفر جاحد الأحكام الظاهرة المجمع عليها وان كان عاميا دون الخفية فما فرق بينهما في التكفير فرق فى التقليد، وكذلك أيضا منع التقليد فى جميع مسائل الاصول فيه نظر بل الحق ما ذكره القاضي وابن عقيل أن المنع فى التوحيد والرسالة فانهما ركنا الاسلام وفاتحة الدعوة وعاصمة الدم ومناط النجاة والفوز فأما تكليف عموم الناس درك دقائق المسائل الاصولية بالدليل فهو قريب من تكليفهم ذلك فى الفروع فليميز الفرق". (7) وقال الإمام أحمَد بن عبد الحليم ابن تيميه (661ﻫ- 728ﻫ) فى المسودة: "قال أبو المعالي: ومما يداني مذهب العنبري مذهب أقوام قالوا المصيب واحد فى الاصول ولكن المخطىء معذور ويستحق الثواب لانه بذل جهده فتجرى أحكام الكفرة على الكفرة ويقاتلون فى الدنيا لامر الشارع بذلك ولكن يثابون فى الآخرة اذا لم يكونوا معاندين وقد يتمسكون فى هذا المذهب بقول الله تعالى ان الذين أمنوا والذين هادوا الآية وقال الجاحظ وثمامة المعارف ضرورية وما أمر الرب الخلق بمعرفته ولا بالنظر بل من حصلت له المعرفة وفاقا فهو مامور بالطاعة فمن عرف وأطاع استحق الثواب ومن عرف ولم يطع خلد فى النار وأما من جهل الرب فليس مكلفا فإن مات جاهلا لم يعاقب ثم منهم من قال يصير ترابا ومنهم من قال يصير الى الجنة فعوام الكفرة أحسن حالا من فسقة العارفين بالله وشنع على هذه المذاهب بعد شناعه على العنبري قال والمخطىء فى الاصول لا شك فى تأثيمه وتفسيقه وتبديعه وتضليله واختلف فى تكفيره. وقال: "وكذلك قال أبو الخطاب الذى لا يسوغ التقليد فيها هو معرفة الله ووحدانيته ومعرفة صحة الرسالة وذكر أن الادلة على هذه الاصول الثلاثة يعرفه كل أحد بعقله وعلمه وإن لم يقدر العامى على أن يعبر عنه قال وبه قال عامة العلماء وقال بعض الشافعية يجوز للعامى التقليد فى ذلك قال ولا يختلف الشافعية أنه ليس للمكلف المسلم أن يقلد فى وجوب الصلاة والصوم عليه ونحو ذلك، فأولى أن لا يجوز التقليد فى الوحدانية والنبوة ثم قال وكذلك أصول العبادات كالصلوات الخمس وصيام رمضان وحج البيت والزكاة فان الناس أجمعوا على أنه لا يسوغ فيها التقليد لأنه ثبت بالتواتر ونقلته الأمة كلها خلفها عن سلفها" وقال في (الردّ على الإخنائى): "وكثير من الناس يقع في الشرك والإفك جهلاً وضلالاً من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع"، وقال أيضاً في (الصارم المسلول): بعد أن بيّن أنّ كلام الله خبرٌ وأمرٌ: "فيصدق القلب أخباره تصديقاً يوجب حالاً في القلب بحسب المصدّق به والتصديق هو من نوع العلم والقول،، وينقاد لأمره ويستسلم، وهذا الانقياد والاستسلام هو من نوع الإرادة والعمل ولا يكون مؤمناً إلاّ بمجموع الأمرين، فمن ترك الانقياد كان مستكبراً فصار من الكافرين وإنّ كان مصدّقاً فالكفر أعمّ من التكذيب، يكون تكذيباً وجهلاً ويكون استكباراً وظلماً" وقال في آية سورة النور: "فضرب الله سبحانه المثلين ليبيّن حال الاعتقاد الفاسد ويبيّن حال عدم معرفة الحقّ وهو يشبه حال المغضوب عليهم والضالين، حال المصمّم على الباطل حتى يحلّ به العذاب وحال الضالّ الذي لا يرى طريق الهدى" (مفصل الاعتقاد/ص: 75)،، وقال في (درء تعارض العقل والنقل): ﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ ذكر لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد: (أحدهما): ﴿إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ فبيّن أنّ هذا علم فطري ضروري لا بد لكل بشر من معرفته وذلك يتضمن حجة الله في إبطال التعطيل وأنّ القول بإثبات الصانع علم فطريّ ضروري وهو حجة على نفي التعطيل. (الثاني): ﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ فهذا حجّة لدفع الشرك كما أنّ الأول حجة لدفع التعطيل، فالتعطيل مثل كفر فرعون ونحوه، والشرك: مثل شرك المشركين من جميع الأمم. قال: ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذى الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم، إذ كان هو الذي رباه ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه،، فإذا كان هذا مقتضى العادة الطبيعية، ولم يكن في فطرتهم وعقولهم ما يناقض ذلك، قالوا: نحن معذورون، وآباؤنا هم الذين أشركوا ونحن كنّا ذرية لهم بعدهم اتّبعناهم بموجب الطبيعة المعتادة ولم يكن عندنا ما يبيّن خطأهم، فإذا كان في فطرتهم ما شهدوا به من أنّ الله وحده هو ربّهم كان معهم ما يبيّن بطلان هذا الشرك وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم فإذا احتجّوا بالعادة الطبيعية من اتّباع الآباء، كان الحجة عليهم الفطرة الطبيعية العقلية السابقة لهذه العادة الأبوية، كما قال صلّى الله عليه وسلم: "كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" فكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها، وهذا يقتضى أنّ نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدّم حجة عليهم بدون هذا. وهذا لا يناقض قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ فإنّ الرسول يدعو إلى التوحيد، لكن إن لم يكن في الفطرة دليل عقليّ يعلم به إثبات الصانع لم يكن في مجرّد الرسالة حجة عليهم، فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن إقرارهم بأنّ الله ربّهم، ومعرفتهم بذلك وأنّ هذه المعرفة والشهادة أمر لازم لكلّ بني آدم، به تقوم حجة الله تعالى في تصديق رسله، فلا يمكن أحداً أن يقول يوم القيامة: إني كنت عن هذا غافلاً ولا أنّ الذنب كان لأبي المشرك دوني، لأنّه عارف بأنّ الله ربه لا شريك له، فلم يكن معذوراً في التعطيل والإشراك بل قام به ما يستحقّ به العذاب، ثم أنّ الله سبحانه –بكمال رحمته وإحسانه– لا يعذّب أحداً إلاّ بعد إرسال رسول إليهم وإن كانوا فاعلين لما يستحقون به الذم والعقاب، كما كان مشركو العرب وغيرهم ممن بعث إليهم رسول، فاعلين للسيئات والقبائح التي هي سبب الذم والعقاب والربّ تعالى مع هذا لم يكن معذّباً لهم حتى يبعث إليهم رسولاً" (إ ﻫ)، وبيّن الإمام ابن تيمية: أنّ مذهب أهل السنّة والجماعة في حكم الشرك والفواحش قبل نزول العلم هو أنّ ذلك شرّ وقبح بخلاف مذهب الجهمية والأشعرية القائلين بأنّ ذلك صار شرّاً وقبحاً بعد نزول العلم وكان قبل ذلك كفعل الصبيان والمجانين قال في صفحة 676من [مجموع الفتاوى: م، 11]. "والجمهور من السلف والخلف على أنّ ما كانوا فيه قبل مجيء الرسول من الشرك والجاهلية شيئا قبيحاً، وكان شرّاً لكن لا يستحقون العذاب إلاّ بعد مجيء الرسول: ولهذا كان للناس في الشرك والظلم والكذب والفواحش ونحو ذلك "ثلاثة أقوال" قيل: إنّ قبحها معلوم بالعقل وأنّهم يستحقّون العذاب على ذلك في الآخرة وإن لم يأتهم الرسول، كما يقوله المعتزلة، وكثير من أصحاب أبي حنيفة وحكوه عن ابى حنيفة نفسه وهو قول أبى الخطاب وغيره، وقيل: لا قبح ولا حسن ولا شرّ فيها قبل الخطاب، وإنّما القبيح ما قيل فيه لا تفعل، والحسن ما قيل فيه افعل، أو ما أذن في فعله، كما تقول الأشعرية، ومن وافقهم، من الطوائف الثلاثة. وقيل: إنّ ذلك سيئ وشرّ، وقبيح قبل مجيء الرسول لكنّ العقوبة إنّما تستحق بمجيء الرسول وعلى هذا عامة السلف وأكثر المسلمين، وعليه يدلّ الكتاب والسنّة فإنّ فيهما بيان أنّ ما عليه الكفّار هو شرّ وقبيح وسيئ قبل الرسل وإن كانوا لا يستحقون العقوبة إلاّ بالرسول، وفي الصحيح أنّ حذيفة قال: يا رسول الله: إنّا كنّا في جاهلية وشرّ فجاءنا الله بِهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شرّ، قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنّم من أجابَهم إليها قذفوه فيها». وقال: وقد أخبر الله تعالى عن قبح أعمال الكفّار قبل أن يأتيهم الرسول كقوله لموسى: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾. [النازعات: 17-19]. وقال: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ﴾. [القصص: 4-6]. فهذا خبر عن حاله قبل أن يولد موسى وحين كان صغيراً قبل أن يأتيه برسالة إنّه كان طاغياً مفسداً، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى، إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ﴾ هو فرعون، فهو إذ ذاك عدو الله ولم يكن جاءته الرسالة بعد. وقال: أمر الله الناس أن يتوبوا ويستغفروا مما فعلوه فلو كان كالمباح المستوى الطرفين المعفو عنه وكفعل الصبيان والمجانين ما أمر بالاستغفار والتوبة، فعلم أنّه كان من السيئات القبيحة لكن الله لا يعاقب إلاّ بعد إقامة الحجّة، وهذا كقوله تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. أَلا تَعْبُدُوا إِلاّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ. وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴾ [هود: 1-3] وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ [فصلت: 6-7] وقال تعالى: ﴿إنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ﴾ [نوح: 1-3]، وقال عن هود: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ مُفْتَرُونَ. يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ. وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾ [هود: 50-52]. فأخبر في أول خطابه أنّهم مفترون بأكثر الذي كانوا عليه كما قال لهم في الآية الأخرى: ﴿قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ [الأعراف: 71]. وكذلك قال صالح عليه السلام: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ [هود: 61]. وكذلك قال لوط لقومه: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 80]. فدلّ على أنّها كانت فاحشة عندهم قبل أن ينهاهم بخلاف قول من يقول ما كانت فاحشة ولا قبيحة ولا سيئة حتى نهاهم عنها، ولهذا قال لهم: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [العنكبوت: 29]. وهذا خطاب لمن يعرفون قبح ما يفعلونه،ولكن أنذرهم بالعذاب. وكذلك قول شعيب: ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [هود: 85]. بيّن أنّ ما فعلوه كان بخسا لهم أشياءهم وأنّهم كانوا عاثين في الأرض مفسدين قبل أن ينهاهم بخلاف قول "المجبرة" إنّ ظلمهم ما كان سيئة إلاّ لما نَهاهم وأنّه قبل النهي كان بمنزله سائر الأفعال من الأكل والشرب وغير ذلك، كما يقولون في سائر ما نَهت عنه الرسل من الشرك والظلم والفواحش. وهكذا إبراهيم الخليل قال: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا، إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاّ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا، يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا، يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا، يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ [مريم: 41-42]، فهذا توبيخ على فعله قبل النهي. وقال أيضاً: ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ. إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ. أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ. فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات: 83-87]، فأخبر أنّهم يخلقون إفكاً، قبل النهي. وكذلك قول الخليل لقومه أيضاً: ﴿فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ، قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ، وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [94-96]. أي وخلق ما تنحتون فكيف يجوز أن تعبدو ما تصنعون بأيديكم؟ وتدعون ربّ العالمين، فلولا إن حسن التوحيد وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وقبح الشرك ثابت في نفس الأمر معلوم بالعقل، لم يخاطبهم بِهذا إذ كانوا لم يفعلوا شيئاً يذمّون عليه، بل كان فعلهم كأكلهم وشربهم وإنّما كان قبيحاً بالنهي، ومعنى قبحه كونه منهياً عنه لا لمعنى فيه كما تقوله المجبرة، (إ ﻫ) وقال: وكذلك أخبر عن هود أنه قال لقومه‏: ﴿اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ﴾‏ ‏[‏هود‏: 50‏]‏ فجعلهم مفترين قبل أن يحكم بحكم يخالفونه؛ لكونهم جعلوا مع الله إلها آخر فاسم المشرك ثبت قبل الرسالة؛ فإنه يشرك بربه ويعدل به ويجعل معه آلهة أخرى ويجعل له أندادا قبل الرسول ويثبت أن هذه الأسماء مقدم عليها وكذلك اسم الجهل والجاهلية يقال‏: جاهلية وجاهلا قبل مجيء الرسول وأما التعذيب فلا‏، والتولي عن الطاعة كقوله‏: ﴿فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ ‏[‏القيامة‏: ‏ 31، 32‏]‏ فهذا لا يكون إلا بعد الرسول مثل قوله عن فرعون‏: ﴿فَكَذَّبَ وَعَصَى﴾ ‏[‏النازعات‏:21‏]‏ كان هذا بعد مجيء الرسول إليه كما قال تعالى‏: ﴿فَأَرَاهُ الآَيَةَ الْكُبْرَى ،فَكَذَّبَ وَعَصَى﴾ ‏‏[‏النازعات‏: ‏ 21، 22‏]‏ وقال‏: ﴿فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ﴾ ‏[‏المزمل‏: ‏16‏]‏‏، ‏ [الفتاوى: 20/37]