(جـ) القرن الرابع: (1) قال أبو بكر أحمد بن على الرازى الجصاص (ت:370ﻫ) في كتابه"الفصول فى الأصول": "وهوأنَّ الأحكام على ضربين: (أحدهما) لايجوز فيه النَّسخ والتبديل، وهومايُعلم وجوبه أوحظره من جهة العقل قبل ورود السمع، وذلك نحو: وجوب إعتقاد التوحيد وتصديق الرُّسل، عليهم السلام، وشكرالمنعم والإنصاف ونحوذلك، وما دلَّ العقل على حظره قبل مجئ السمع، كالكفر والظلم ونحوهما، والأول حسنٌ لنفسه يقتضى وجوبه على سائر العقلاء، والثانى قبيح لنفسه يقتضى العقل حظره، فهذان البابان لايجوز فيهما النَّسخ والتبديل، ولا يختلف فيهما أحكام المكلَّفين، لا يجوز أن يتعبَّدبعضهم فيها بشئ وبعضهم بخلافه، ولا يختلفُ حكمهما باختلاف الأحوال والأزمان، قال: وأمَّا القسمان الأولان فليسا من باب الإجتهاد، ولا يجوز أن يكون الأمر فيهما موكولا إلى آراء المجتهدين، وذلك لأنَّ الله تعالى قد نصب عليهما دلائل عقليَّة تُفضى بالنَّاظرفيها إلى وقوع العلم. قال أبوبكر: بَابُ: " الْكَلامِ عَلَى عُبَيْدِ الله بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: زَعَمَ عُبَيْدُ الله الْعَنْبَرِيُّ: أَنَّ اخْتِلافَ أَهْلِ الْمِلَّةِ فِي الْعَدْلِ وَالْجَبْرِ، وَفِي التَّوْحِيدِ وَالتَّشْبِيهِ، وَالإِرْجَاءِ وَالْوَعِيدِ، وَفِي الأَسْمَاءِ، وَالأَحْكَامِ، وَسَائِرِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، كُلُّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ، إذْ كُلُّ قَائِلٍ مِنْهُمْ فَإِنَّمَا اعْتَقَدَ مَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ تَأْوِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَجَمِيعُهُمْ مُصِيبُونَ، لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كُلِّفَ أَنْ يَقُولَ فِيهِ بِمَا غَلَبَ فِي ظَنِّهِ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ رَأْيُهُ، وَلَمْ يُكَلَّفْ فِيهِ عِلْمَ الْمُغَيَّبِ عِنْدَ الله تَعَالَى، عَلَى حَسَبِ مَا قُلْنَا فِي حُكْمِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أَحْكَامِ حَوَادِثِ الْفُتْيَا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا مَذْهَبٌ فَاسِدٌ ظَاهِرُ الانْحِلالِ، وَالأَصْلُ فِيهِ: أَنَّ التَّكْلِيفَ مِنْ طَرِيقِ الاجْتِهَادِ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَصِحُّ وُرُودُ النَّصِّ بِهِ، وَكُلُّ مَا أَجَزْنَا فِيهِ الاجْتِهَادَ، وَصَوَّبْنَا فِيهِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى اخْتِلافِهِمْ فِيهِ، فَإِنَّمَا أَجَزْنَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِمِثْلِهِ مِنْ الأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ، قال: وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: إنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَذَاهِبِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ عَلَى اخْتِلافِهِمْ فِيهَا، مُتَّفِقُونَ قَبْلَ عُبَيْدِ الله بْنِ حَسَنٍ عَلَى إيجَابِ التَّأْثِيمِ وَالتَّضْلِيلِ بِالْخِلَافِ فِيهَا، فَمَنْ صَوَّبَ الْجَمِيعَ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ فَهُوَ خَارِجٌ عَمَّا انْعَقَدَ بِهِ إجْمَاعُ الْجَمِيعِ، " قال: "فَلا يُمْكِنُ الْقَائِلَ بِهَذَا الْقَوْلِ الانْفِصَالُ مِمَّنْ أَجَازَ مِثْلَهُ فِي جَمِيعِ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ أَصْنَافِ أَهْلِ الإِلْحَادِ وَالشِّرْكِ، حَتَّى يَكُونَ كُلُّ مُعْتَقِدٍ مِنْهُمْ بِشَيْءٍ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ مَأْمُورًا بِاعْتِقَادِ مَا اعْتَقَدَهُ، وَأَنْ لا يَكُونَ لِمَا اخْتَلَفَتْ الأُمَّةُ فِيهِ اخْتِصَاصٌ بِتَجْوِيزِ ذَلِكَ فِيهِ، دُونَ مَا خَالَفَ فِيهِ الْخَارِجُونَ عَنْ الْمِلَّةِ، مِنْ سَائِرِ أَصْنَافِ أَهْلِ الإِلْحَادِ وَالشِّرْكِ، فَلَمَّا كَانَ تَجْوِيزُ ذَلِكَ تَصْوِيبَ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهِ مُؤَدِّيًا إلَى انْسِلاخٍ مِنْ الإِسْلامِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الْمِلَّةِ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْ الأُمَّةِ فِي صِفَاتِ الله تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِمَّا لا يَجُوزُ، وَمِنْ حَيْثُ كَانَ ظُهُورُ دَلائِلِ التَّوْحِيدِ، وَتَثْبِيتُ الرُّسُلِ مَانِعًا مِنْ تَصْوِيبِ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ-عَلَى اخْتِلافِهِمْ- وَجَبَ مِثْلُهُ فِي اخْتِلافِ أَهْلِ الْمِلَّةِ وَصِفَاتِ الله تَعَالَى ذِكْرُهُ وَأَفْعَالُهُ. وقال: "لأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي كُلِّفُوهُ فِي ذَلِكَ هُوَ الاعْتِقَادُ لِلشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ، لا حُكْمَ عَلَيْهِ فِيهَا غَيْرُهُ، فَلَمْ يَكُنْ جَائِزًا أَنْ يُبِيحَ الله تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ لَهُمْ اعْتِقَادَ مَا كَلَّفَهُمْ اعْتِقَادَهُ عَلَى مَا هُوَ بِهِ أَنْ يَعْتَقِدُوهُ عَلَى خِلافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الأَقَاوِيلِ، وَهُوَ الَّذِي صَادَفَ حَقِيقَةَ الْمَطْلُوبِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَمَا عَدَاهُ فَضَلالٌ وَبَاطِلٌ، وَالله أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.