(م) القرن الرابع عشر: (1) قال محمَّد رشيد رضا (1282ﻫ - 1354ﻫ) فى "المنَّار": ﴿أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ إنَّا كنَّا غافلين عن هذا التوحيد للربوبية وما يستلزمه من توحيد الألوهية بعبادة الربِّ وحده، والمراد أنّه تعالى لا يقبل منهم الإعتذار بالجهل، ﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ جاهلين ببطلان شركهم، ﴿أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ بإختراع الشرك، فتجعل عذابناكعذابهم مع عذرنا بتحسين الظنِّ بهم، والمراد أنَّ الله تعالى لا يقبل منهم الإعتذار بتقليد آبائهم وأجدادهم، كما أنَّه لم يقبل منهم الإعتذار بالجهل بعد ما أقام عليهم من حجَّة الفطرة و العقل. (2) وقال سيد قطب (ت: 1387ﻫ) في ظلال القرآن: ﴿أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [يوسف:40]. "وكونهم لا يعلمون لا يجعلهم في دين الله القيّم فالذي لا يعلم شيئاً لا يمكن الاعتقاد فيه ولا تحقيقه، فإذا وجد ناسٌ لا يعلمون حقيقة الدين لم يعد من الممكن عقلاً وواقعاً وصفهم بأنّهم على هذا الدين، ولم يقم جهلهم عذراً لهم يسبغ عليهم صفة الإسلام ذلك أنّ الجهل مانعٌ للصفة ابتداء، فاعتقاد شيء فرع عن العلم به، وهذا منطق العقل والواقع، بل منطق البداهة الواضح"(إﻫ). وقال فى تفسير قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾: وبعض المترفقين بالنَّاس اليوم يتلمسون لهم عذراً فى أنّهم يجهلون مدلول كلمة "دين الله"، وهم من ثمَّ لايُصرُّون ولا يحاولون تحكيم شريعة الله وحدها، بوصفها هي "الدين"، وأنَّ جهلهم هذا بمدلول الدين يعفيهم من أن يكونوا جاهلين مشركين!!. وأنا لاأتصور كيف أنَّ جهل النَّاس إيتداء بحقيقة هذا الدين يجعلهم فى دائرة هذا الدين، إنَّ الإعتقاد بحقيقة فرعٌ عن معرفتها، فإذا جهل النَّاس حقيقة عقيدة فكيف يكونون معتنقين لها؟ وكيف يُحسبون من أهلها وهم لا يعرفون إبتداءً مدلولها؟، إنَّ هذا الجهل قد يعفيهم من حساب الآخرة، أو يُخففُ عنهم العذاب فيها، ويلقى بتبعاتهم وأوزارهم على كاهل من لا يُعلِّمونهم حقيقة هذا الدين وهم يعرفونها،، ولكن هذه مسألة غيبية متروك أمرها لله، والجدل فى الجزاء الأخرويِّ لأهل الجاهلية عامَّة ليس وراءه كبير طائل، وليس هو الَّذى يُعنينا نحن البشر الَّذين ندعوا إلى الإسلام فى الأرض!!، إنَّ الَّذى يُعنينا هو تقرير حقيقة الدِّين الَّذى فيه النَّاس اليوم: إنَّه ليس دين الله قطعاً، فدين الله هو نظامه وشرعه وفق النُّصوص القرآنية الصريحة، فمن كان فى نظام الله وشرعه فهو فى "دين الله"، ومن كان فى نظام الملك وشرعه فهو فى "دين الملك"، ولا جدال فى هذا، والَّذين يجهلون مدلول الدِّين لا يُمكن أن يكونوا معتقدين بهذا الدِّين، لأنَّ الجهل هنا واردٌ على أصل حقيقة الدِّين الأساسية، والجاهل بحقيقة هذا الدِّين الأساسية لا يُمكن عقلا وواقعاً أن يكون معتقدا به، إذ الاعتقاد فرعٌ عن الإدراك والمعرفة، وهذه بديهية، وخيرٌ لنا من أن ندافع عن النََّاس وهم فى غير دين الله، ونلتمس لهم المعاذير، ونحاول أن نكون أرحم بهم من الله الَّذى يقرِّرُ مدلول دينه وحدوده!!، خيرٌ لنا من هذا كلِّه أن نشرع فى تعريف النَّاس حقيقة مدلول "دين الله "ليدخلوا فيه، أو يرفضوه، هذا خيرٌ لنا وللناس أيضاً،، خيرٌ لنا لأنَّه يعفينا من تبعة ضلال هؤلاء الجاهلين بهذا الدين، الَّذين ينشأ عن جهلهم به عدم إعتناقه فى الحقيقة، وخيرٌ للنَّاس لأنَّ مواجهتهم بحقيقة ما هم عليه -وأنَّهم فى دين الملك لا فى دين الله- قد تهزُّهم هزَّة تخرجهم من الجاهلية إلى الإسلام، ومن دين الملك إلى دين الله!!، كذلك فعل الرُّسل عليهم صلوات الله وسلامه. وكذلك ينبغى أن يفعل الدعاة إلى الله فى مواجهة الجاهلية فى كلِّ زمان ومكان. (قلتُ): 1) إذا دلَّ القرآن على أنَّ الكافر الجاهل، الَّذى يظنُّ أنَّه على الحقِّ آثمٌ عند الله وموصوفٌ بالكفر فى الدنيا، ودلَّت سنَّةُ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلم على ما دلَّ عليه القرآن، وتتابع علماء الفقه والأصول على موافقة الكتاب والسنَّة، فما عسى أن يقوله أهلُ الزيغ والضلال آخر الزمان!؟ أيقولون: إنَّ مسألة التوحيد والبراءة من الشرك وأهله ليست من أصل الدِّين الَّذى يكون المخطئُ فيه كافراً على جهله!؟ أم يقولون: إنَّ الأمَّة أجمعت على الضلال وأنَّ القولَ الحقَّ ما يحكى عن الجاحظِ وأمثاله!؟ وليتهم قالوا بما قال الجاحظُ وأمثاله، لأنَّ أولئك لم يجعلوا مقلَّدةَ الكفار وجهلائهم مسلمين فى أحكام الدنيا، وإنَّماجعلوا لهم عذراً عند الله وفى أحكام الآخرة، فاستحلَّ علماء الإسلام التشنيع عليهم وعلى عقائدهم الضالَّة على مرِّ العصور وتوالى الدهور، بل صرح بعضهم بكفر من قال ذلك، بينما تقول"الجاحظيةُ الحديثةُ": إنَّ المشركَ العابد لغير الله مسلمٌ فى الدنيا ويدخل الجنَّة فى الآخرة إذا كان جاهلا!. وهذه لا شكَّ فى كونها ردَّة صريحة، إذا كان قائلها مسلما قبل ذلك، (ونعوذبالله من الخذلان، والحمد لله ربِّ العالمين) 2) يُطلقُ كثيرٌ من العلماء -كما مرَّ بنا-: "أنَّ مسائل العقيدة الَّتى وقع الإختلاف فيها بين الأمَّة يكون المخطئ آثماً واختلف فى تكفيره"، وينبغى أن يحمل ذلك على ما كان فيه نصٌّ قاطعٌ ظاهرٌ معناه، وأمَّا ما كان فيه خفاءٌ وغموضٌ فإنَّ المخطئ معذور، قال "الإمام ابن تيمية": "والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية كما قد بسط في غير موضع كمن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث وكان لذلك ما يعارضه ويبين المراد ولم يعرفه مثل من اعتقد أن الذبيح إسحاق لحديث اعتقد ثبوته أو اعتقد أن الله لا يرى؛ لقوله‏: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ ‏‏[‏الأنعام‏: ‏ 103‏]‏ ولقوله‏: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ ‏[‏الشورى‏: ‏ 51‏]‏ كما احتجت عائشة بهاتين الآيتين على انتفاء الرؤية في حق النبي صلّى الله عليه وسلم وإنما يدلان بطريق العموم‏، ‏ وكما نقل عن بعض التابعين أن الله لا يرى وفسروا قوله‏: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ ‏[‏القيامة‏: ‏ 22، 23‏]‏ بأنها تنتظر ثواب ربها كما نقل عن مجاهد وأبي صالح‏، أو من اعتقد أن الميت لا يعذب ببكاء الحي؛ لاعتقاده أن قوله‏: ‏﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ ‏‏[‏الإسراء‏: ‏ 15‏]‏ يدل على ذلك؛ وأن ذلك يقدم على رواية الراوي لأن السمع يغلط كما اعتقد ذلك طائفة من السلف والخلف‏، ‏ أو اعتقد أن الميت لا يسمع خطاب الحي؛ لاعتقاده أن قوله‏: ﴿إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾ ‏[‏النمل‏:80‏]‏ يدل على ذلك‏، أو اعتقد أن الله لا يعجب كما اعتقد ذلك شريح؛ لاعتقاده أن العجب إنما يكون من جهل السبب والله منزه عن الجهل‏، ‏ أو اعتقد أن عليا أفضل الصحابة؛ لاعتقاده صحة حديث الطير؛ وأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال‏: ‏‏(‏اللهم ائتني بأحب الخلق إليك؛ يأكل معي من هذا الطائر‏)‏‏، ‏ أو اعتقد أن من جس للعدو وأعلمهم بغزو النبي صلّى الله عليه وسلم فهو منافق، كما اعتقد ذلك عمر في حاطب وقال‏: ‏دعني أضرب عنق هذا المنافق‏، ‏أو اعتقد أن من غضب لبعض المنافقين غضبة فهو منافق؛ كما اعتقد ذلك أسيد بن حضير في سعد بن عبادة وقال‏: إنك منافق تجادل عن المنافقين‏، ‏ أو اعتقد أن بعض الكلمات أو الآيات أنها ليست من القرآن؛ لأن ذلك لم يثبت عنده بالنقل الثابت كما نقل عن غير واحد من السلف أنهم أنكروا ألفاظا من القرآن كإنكار بعضهم‏: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏ 23‏]‏ وقال‏: ‏ إنما هي ووصى ربك‏، ‏ وإنكار بعضهم قوله‏: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ ‏[‏آل عمران‏: ‏ 81‏]‏ وقال‏: ‏ إنما هو ميثاق بني إسرائيل وكذلك هي في قراءة عبد الله‏، ‏ وإنكار بعضهم ‏﴿أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ ‏[‏الرعد‏: 31‏].‏ إنما هي أولم يتبين الذين آمنوا‏، ‏ وكما أنكر عمر على هشام بن الحكم لما رآه يقرأ سورة الفرقان على غير ما قرأها‏، ‏ وكما أنكر طائفة من السلف على بعض القراء بحروف لم يعرفوها حتى جمعهم عثمان على المصحف الإمام‏، وكما أنكر طائفة من السلف والخلف أن الله يريد المعاصي؛ لاعتقادهم أن معناه أن الله يحب ذلك ويرضاه ويأمر به‏، ‏ وأنكر طائفة من السلف والخلف أن الله يريد المعاصي؛ لكونهم ظنوا أن الإرادة لا تكون إلا بمعنى المشيئة لخلقها وقد علموا أن الله خالق كل شيء؛ وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والقرآن قد جاء بلفظ الإرادة بهذا المعنى وبهذا المعنى لكن كل طائفة عرفت أحد المعنيين وأنكرت الآخر‏، ‏ وكالذي قال لأهله‏: ‏ إذا أنا مت فأحرقوني‏: ‏ ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين‏، ‏ وكما قد ذكره طائفة من السلف في قوله‏: ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾‏ ‏[‏البلد‏: 5‏]‏ وفي قول الحواريين‏: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ ‏[‏المائدة‏: 112‏]‏ وكالصحابة الذين سألوا النبي صلّى الله عليه وسلم هل نرى ربنا يوم القيامة ‏؟‏ فلم يكونوا يعلمون أنهم يرونه؛ وكثير من الناس لا يعلم ذلك؛ إما لأنه لم تبلغه الأحاديث وإما لأنه ظن أنه كذب وغلط.