(د) القرن الخامس: (1) قال القاضى أبو يعلى محمَّد بن الحسين الحنبلي (380ﻫ - 458ﻫ): "المصيب واحد فى أصول الديانات، وقد نصَّ أحمد رحمه الله فى مواضع على تكفير جماعة من المتأوِّلين، كالقائلين بخلق القرآن، ونفي الرُّؤية، وخلق الأفعال، وهذا يمنع إصابتهم فى اجتهادهم، وهو قول الجماعة، وحكي عن عبيدالله العنبري: أنَّ المجتهدين من أهل القبلة مصيبون مع اختلافهم، وهذا غلط لأنَّ إباحة الاجتهاد تجوز فيما جوَّزنا ورود الشرع، وغير جائز أن يرد الشرع بالأمرين المتضادين فى صفات البارئ سبحانه، وما يجوزعليه ومالايجوز، فإنَّه لايجوزأن يكون يُراد لا يراد، خالق لأفعال العباد غير خالق، والنَّبيُّ صادق وليس بصادق، ولا يشبه هذا أحكام الفروع،" [العدَّة: 5/1540] (2) وقال أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذانيِّ الحنبليِّ(432ﻫ - 510ﻫ) فى كتاب "التمهيد": "الحقُّ فى قول المجتهدين فى أصول الدِّين فى واحد، وما عداه باطل نصَّ عليه إمامنا أحمد رضي الله عنه فى مواضع، وبه قال عامَّة العلماء، وحكي عن عبيد الله بن الحسن العنبريِّ: أنَّ المجتهدين فى الأصول من أهل القبلة جميعهم مصيبون مع اختلافهم، (3) قال أبو حامد الغزالي (ت: 505 ﻫ) فى المنخول: (الفصل الأول): فى أنَّ كلَّ مجتهد فى الأصول لا يُصيب: وأجمع العقلاء عليه سوى أبي الحسن العنبري حيث صوَّب كل مجتهد في العقليات ولا يظن به طرد ذلك في قدم العالم ونفي النبوات ولعله أراده في خلق الأفعال وخلق القرآن. وقال فى "المستصفى": "فإن أخطأ فيما يرجع إلى الإيمان بالله ورسوله فهو كافر وإن أخطأ فيما لا يمنعه من معرفة الله عزّ وجلّ ومعرفة رسوله كما في مسألة الرؤية وخلق الأعمال وإرادة الكائنات وأمثالها فهو آثم من حيث عدل عن الحق وضل ومخطىء من حيث أخطأ الحق المتيقن ومبتدع من حيث قال قولا مخالفا للمشهورين السلف ولا يلزم الكفر، وأما الأصولية فنعني بها كون الإجماع حجة وكون القياس حجة وكون خبر الواحد حجة ومن جملته خلاف من جوز خلاف الإجماع المنبرم قبل انقضاء العصر وخلاف الإجماع الحاصل عن اجتهاد ومنع المصير إلى أحد قولي الصحابة والتابعين عند اتفاق الأمة بعدهم على القول الآخر ومن جملته اعتقاد كون المصيب واحدا في الظنيات فإن هذه مسائل أدلتها قطعية والمخالف فيها آثم مخطىء وقد نبهنا على القطعيات والظنيات في أدراج الكلام في جملة الأصول وأما الفقهية فالقطعية منها وجوب الصلوات الخمس والزكاة والحج والصوم وتحريم الزنا والقتل والسرقة والشرب وكل ما علم قطعا من دين الله فالحق فيها واحد وهو المعلوم والمخالف فيها آثم ثم ينظر فإن أنكر ما علم ضرورة من مقصود الشارع كإنكار تحريم الخمر والسرقة ووجوب الصلاة والصوم فهو كافر لأن هذا الإنكار لا يصدر إلا عن مكذب بالشرع وإن علم قطعا بطريق النظر لا بالضرورة ككون الإجماع حجة وكون القياس وخبر الواحد حجة وكذلك الفقهيات المعلومة بالإجماع فهي قطعية فمنكرها ليس بكافر لكنه آثم مخطىء، فخرج من هذا أن النظريات قسمان قطعية وظنية فالمخطىء في القطعيات آثم ولا إثم في الظنيات أصلا لا عند من قال المصيب فيها واحد ولا عند من قال كل مجتهد مصيب هذا هو مذهب الجماهير وقد ذهب بشر المريسي إلى إلحاق الفروع بالأصول وقال فيها حق واحد متعين والمخطىء آثم وقد ذهب الجاحظ والعنبري إلى إلحاق الأصول بالفروع وقال العنبري كل مجتهد في الأصول أيضا مصيب وليس فيها حق متعين وقال الجاحظ فيها حق واحد متعين لكن المخطىء فيها معذور غير آثم كما في الفروع. فلنرسم في الرد على هؤلاء الثلاثة ثلاث مسائل: (1) مسألة مخالفة أهل الكتاب للإسلام: ذهب الجاحظ إلى أن مخالف ملة الإسلام من اليهود والنصارى والدهرية إن كان معاندا على خلاف اعتقاده فهو آثم وإن نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم وإن لم ينظر من حيث لم يعرف وجوب النظر فهو أيضا معذور وإنما الآثم المعذب هو المعاند فقط لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها وهؤلاء قد عجزوا عن درك الحق ولزموا عقائدهم خوفا من الله تعالى إذ استد عليهم طريق المعرفة وهذا الذي ذكره ليس بمحال عقلا لو ورد الشرع به وهو جائز ولو ورد التعبد كذلك لوقع ولكن الواقع خلاف هذا فهو باطل بأدلة سمعية ضرورية فإنا كما نعرف أن النبي أمر بالصلاة والزكاة ضرورة فيعلم أيضا ضرورة أنه أمر اليهود والنصارى بالإيمان به واتباعه وذمهم على إصرارهم على عقائدهم ولذلك قاتل جميعهم وكان يكشف عن مؤتزر من بلغ منهم ويقتله ويعلم قطعا أن المعاند العارف مما يقل وإنما الأكثر المقلدة الذين اعتقدوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا معجزة الرسول عليه السلام وصدقه والآيات الدالة في القرآن على هذا لا تحصى. كقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ [ص: 27]. وقوله تعالى: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ﴾ [فصلت: 23] وقوله تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية: 24] وقوله تعالى: ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ﴾ [المجادلة: 18] وقوله تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [البقرة: 10] أي شك، وعلى الجملة ذم الله تعالى والرسول عليه السلام المكذبين من الكفار مما لا ينحصر في الكتاب والسنة وأما قوله كيف يكلفهم ما لا يطيقون قلنا نعلم ضرورة أنه كلفهم أما أنهم يطيقون أو لا يطيقون فلننظر فيه بل نبه الله تعالى على أنه أقدرهم عليه بما رزقهم من العقل ونصب من الأدلة وبعث من الرسل المؤيدين بالمعجزات الذين نبهوا العقول وحركوا دواعي النظر حتى لم يبق على الله لأحد حجة بعد الرسل. (2) مسألة الاجتهاد في العقليات: ذهب عبيد الله بن الحسن العنبري إلى أن كل مجتهد مصيب في العقليات كما في الفروع فنقول له إن أردت أنهم لم يؤمروا إلا بما هم عليه وهو منتهى مقدورهم في الطلب فهذا غير محال عقلا ولكنه باطل إجماعا وشرعا كما سبق رده على الجاحظ وإن عنيت به أن ما أعتقده فهو على ما اعتقده فنقول كيف يكون قدم العالم وحدوثه حقا وإثبات الصانع ونفيه حقا وتصديق الرسول وتكذيبه حقا وليست هذه الأوصاف وضعية كالأحكام الشرعية إذ يجوز أن يكون الشيء حراما على زيد وحلالا لعمرو إذا وضع كذلك أما الأمور الذاتية فلا تتبع الاعتقاد بل الاعتقاد يتبعها فهذا المذهب شر من مذهب الجاحظ فإنه أقر بأن المصيب واحد ولكن جعل المخطىء معذورا بل هو شر من مذهب السوفسطائية لأنهم نفوا حقائق الأشياء وهذا قد أثبت الحقائق ثم جعلها تابعة للاعتقادات، بخلاف مذهب الجاحظ وقد استبشع إخوانه من المعتزلة هذا المذهب فأنكروه وأولوه وقالوا: "أراد به اختلاف المسلمين في المسائل الكلامية التي لا يلزم فيها تكفير كمسألة الرؤية وخلق الأعمال وخلق القرآن وإرادة الكائنات لأن الآيات والأخبار فيها متشابهة وأدلة الشرع فيها متعارضة وكل فريق ذهب إلى ما رآه أوفق لكلام الله وكلام رسوله u وأليق بعظمة الله سبحانه وثبات دينه فكانوا فيه مصيبين ومعذورين، " فنقول: " إن زعم أنهم فيه مصيبون فهذا محال عقلا لأن هذه أمور ذاتية لا تختلف بالإضافة بخلاف التكليف فلا يمكن أن يكون القرآن قديما ومخلوقا أيضا بل أحدهما والرؤية محالا وممكنا أيضا والمعاصي بإرادة الله تعالى وخارجة عن إرادته أو يكون القرآن مخلوقا في حق زيد قديما في حق عمرو بخلاف الحلال والحرام فإن ذلك لا يرجع إلى أوصاف الذوات وإن أراد أن المصيب واحد لكن المخطىء معذور غير آثم فهذا ليس بمحال عقلا لكنه باطل بدليل الشرع واتفاق سلف الأمة على ذم المبتدعة ومهاجرتهم وقطع الصحبة معهم وتشديد الإنكار عليهم مع ترك التشديد على المختلفين في مسائل الفرائض وفروع الفقه فهذا من حيث الشرع دليل قاطع وتحقيقه أن اعتقاد الشيء على خلاف ما هو به جهل والجهل بالله حرام مذموم" (3) مسألة إثم المجتهد في الفروع: ذهب بشر المريسي إلى أن الإثم غير محطوط عن المجتهدين في الفروع بل فيها حق معين وعليه دليل قاطع فمن أخطأه فهو آثم كما في العقليات لكن المخطىء قد يكفر كما في أصل الإلهية والنبوة وقد يفسق كما في مسألة الرؤية وخلق القرآن ونظائرها وقد يقتصر على مجرد التأثيم كما في الفقهيات وتابعه على هذا من القائلين بالقياس ابن علية وأبو بكر الأصم ووافقه جميع نفاة القياس ومنهم الإمامية وقالوا لا مجال للظن في الأحكام لكن العقل قاض بالنفي الأصلي في جميع الأحكام إلا ما استثناه دليل سمعي قاطع فما أثبته قاطع سمعي فهو ثابت بدليل قاطع وما لم يثبته فهو باق على النفي الأصلي قطعا ولا مجال للظن فيه (4) قال أبو إسحق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز أبادي (ت: 476 ﻫ) في كتاب "التبصرة": "الحق من قول المختلفين في أصول الديانات واحد وما عداه باطل، وحكي عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه قال كل مجتهد مصيب وحكي عن بعضهم أنه قال ذلك فيما يجري مجرى القول في القدر والإرجاء والآثار لنا هو أن مسائل الأصول عليها أدلة قاطعة على أن الأمر فيها على صفة واحدة فمن اعتقد فيها خلاف ما هي عليه كان اعتقاده جهلا والخبر عنه كذبا والجهل والكذب قبيحان فلا يجوز أن يكون صوابا، ويدل عليه هو أن كل قولين لا يجوز ورود الشرع بصحة واحدة منهما لم يجز أن يكون القول بهما صوابا كقول المسلمين إن الله تعالى واحد لا شريك له وفي قول النصارى إنه ثالث ثلاثة وقال فى كتاب "اللمع فى أصول الفقه": الاجتهاد في عرف الفقهاء: استفراغ الوسع وبذل المجهود في طلب الحكم الشرعي، والأحكام ضربان عقلي وشرعي، فأما العقلي فهو كحدوث العالم وإثبات الصانع وإثبات النبوة وغير ذلك من أصول الديانات والحق في هذه المسائل في واحد وما عداه باطل، وحكي عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه قال كل مجتهد في الأصول مصيب ومن الناس من حمل هذا القول منه على أنه إنما أراد في أصول الديانات التي يختلف فيها أهل القبلة ويرجع المخالفون فيها إلى آيات وآثار محتملة للتأويل كالرؤية وخلق الأفعال والتجسيم وما أشبه ذلك دون ما يرجع إلى الاختلاف بين المسلمين وغيرهم من أهل الأديان والدليل على فساد قوله هو أن هذه الأقوال المخالفة للحق من التجسيم ونفي الصفات لا يجوز ورود الشرع بها فلا يجوز أن يكون المخالف فيها مصيبا كالقول بالتثليث وتكذيب الرسل. وأما الشرعية فضربان: ضرب يسوغ فيه الاجتهاد وضرب لا يسوغ فيه الاجتهاد فأما ما لا يسوغ فيه الاجتهاد فعلى ضربين: أحدهما ما علم من دين الرسول صلّى الله عليه وسلم ضرورة كالصلوات المفروضة والزكوات الواجبة وتحريم الزنا واللواط وشرب الخمر وغير ذلك فمن خالف في شيء من ذلك بعد العلم فهو كافر لأن ذلك معلوم من دين الله تعالى ضرورة فمن خالف فيه فقد كذب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم في خبرهما فحكم بكفره، والثاني ما لم يعلم من دين الرسول صلّى الله عليه وسلم ضرورة كالأحكام التي تثبت بإجماع الصحابة وفقهاء الامصار ولكنها لم تعلم من دين الرسول صلّى الله عليه وسلم ضرورة فالحق من ذلك في واحد وهو ما أجمع الناس عليه فمن خالف في شيء من ذلك بعد العلم به فهو فاسق، وأما ما يسوغ فيه الاجتهاد وهو المسائل التي اختلف فيها فقهاء الأمصار على قولين وأكثر فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال الحق من ذلك كله في واحد وما عداه باطل إلا أن الإثم موضوع عن المخطئ فيه. وذكر هذا القائل أن هذا هو مذهب الشافعي رحمه الله لا قول له غيره، ومن أصحابنا من قال فيه قولان أحدهما ما قلناه والثاني أن كل مجتهد مصيب وهو ظاهر قول مالك رحمه الله وأبي حنيفة رحمه الله". (5) وقال الإمام منصور بن محمّد السمعانى(489ﻫ)فى "قواطع الأدلَّة": "واعلم أنَّ الأحكام ضربان: عقليٌّ وسمعيٌّ، والأولى أن يُقال أصول وفروع، فأمَّا أصول الدِّين فالحقُّ فى قول واحد منهما، والثانى باطل قطعا، وحكي عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنَّه قال: كلُّ مجتهد فى الأصول مصيب، وكان يقول فى مثبتى القدر: هؤلاء عظَّموا الله، ويقول فى نافى القدر: هؤلاء نزَّهوا الله، وقد قيل إنَّ هذا القول منه فى أصول الديانات الَّتى يختلف فيها أهل القبلة، ويرجع المخالفون فيها إلى آيات وآثار صحيحة للتأويل كالرُّؤية وخلق الأفعال وما أشبه ذلك، فأمَّا ما إختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل الملل، كاليهود والنَّصارى والمجوس، فإنَّ فى هذا الموضع نقطع بأنَّ الحقَّ فيما يقوله أهل الإسلام، وينبغى أن يكون التَّأويل على هذا الوجه، لأنَّا نظنُّ أنَّ أحداً من هذه الأمَّة لابدَّ أن يقطع بتضليل اليهود والنَّصارى والمجوس، وأنَّ قولهم باطل قطعاً، ولأنَّ الدلائل القطعية قد قامت لأهل الإسلام فى بطلان قول هؤلاء الفرق، والدلائل القطعية توجب الإعتقاد القطعي، فلم يكن بدٌّ من القول بأنَّهم ضُالُّون مخطئون قطعاً، وإذا ثبت هذا فيما يخالفنا أهل الملل، فكذلك فيما يخالفنا فيه القدرية والمجسَّمة والجهمية والروافض والخوارج وسائر من يخالف أهل السنّة، لأنَّا نقول: إنَّ الدلائل القطعيَّة قد قامت لأهل السنَّة على ما يوافق عقائدهم، فثبت ما إعتقدوه قطعاً، فحكم ببطلان ما يخالفه قطعا، وإذا حكمنا ببطلان ذلك قطعا، ثبت أنَّهم ضُلال ومبتدعة. ونذكرمشروع هذا الكلام ومدخله على وجه آخر فنقول: "إنَّ الإختلاف بين الأمَّة على ضربين، إختلاف يوجب البراءة ويوقع الفرقة ويرفع الألفة، وإختلاف لايوجب البراءة ولايرفع الألفة، فالأول كالإختلاف فى التَّوحيد. قال: من خالف أصله كان كافراً وعلى المسلمين مفارقته والتبرُّؤ منه وذلك لأنَّ أدلََّة التوحيد كثيرة ظاهرة متواترة قد طبقت العالم، وعمَّ وجودها فى كلِّ مصنوع فلم يعذر أحدٌ بالذهاب عنها، وكذلك الأمر فى النُّبوة لقوَّة براهينها، وكثرة الأدلَّة الباهرة الدالَّة عليها، وكذلك كلُّ ما كان من أصول الدِّين، فالأدلَّة عليها ظاهرة باهرة، والمخالف فيه معاند مكابر، والقول بتضليله واجب، والبراءة منه شرع، ولهذا قال إبن عمر حين قيل له: إنَّ قوماً يقولون: لاقدر، فقال: بلِّغوهم أنَّ ابن عمر برئٌ منهم و أنَّهم منِّى براء. قال: والضرب الآخرمن الإختلاف لايُزيل الألفة، ولايُوجب الوحشة، ولا يُوجب البراءة، ولايقطع موافقة الإسلام، وهو الإختلاف الواقع فى النَّوازل الَّتى عدُمت فيها النُصوص فى الفروع، وغمضت فيها الأدلَّة فيُرجع فى معرفة أحكامها إلى الاجتهاد، " (6) قال الشيخ الإمام الحسين بن مسعود البغوي (ت: 516ﻫ): ﴿إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 30]. قال: "فيه دليل على أنَّ الكافرالَّذى يظنُّ أنَّه فى دينه على الحقِّ والجاحد والمعاند سواءُ"، وقال فى" شرح السنَّة": "العلوم الشرعية قسمان: علم الأصول، وعلم الفروع، أما علم الأصول، فهو معرفة الله سبحانه وتعالى بالوحدانية، والصفات، وتصديق الرسل، فعلى كل مكلف معرفته، ولا يسع فيه التقليد لظهور آياته، ووضوح دلائله، قال الله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ﴾ [محمد: 19 ]. وقال الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [ فصلت: 53 ]، وأما علم الفروع، فهو علم الفقه، ومعرفة أحكام الدين، فينقسم إلى فرض عين، وفرض كفاية، أما فرض العين، فمثل علم الطهارة والصلاة والصوم، فعلى كل مكلف معرفته، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضةعلى كل مسلم"، وكذلك كل عبادة أوجبها الشرع على كل واحد، فعليه معرفةعلمها، مثل علم الزكاة إن كان له مال، وعلم الحج إن وجب عليه، وأما فرض الكفاية، فهو أن يتعلم ما يبلغ به رتبة الاجتهاد، ودرجة الفتيا، فإذا قعد أهل بلد عن تعلمه، عصوا جميعا، وإذا قام واحد منهم بتعلمه فتعلمه، سقط الفرض عن الآخرين، وعليهم تقليده فيما يعن لهم من الحوادث، قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].