(ز) القرن الثامن: (1) وقال الإمام صفيُّ الدين الحنبلي (ت: 739ﻫ) في "قواعد الأصول": "والحق في قول واحد، والمخطئ في الفروع -ولا قاطع- معذور مأجور على اجتهاده، وقال بعض المتكلمين: كل مجتهد مصيب، وليس على الحق دليل مطلوب، قال: وزعم الجاحظ أن مخالف الملة متى عجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم. وقال العنبري: كل مجتهد مصيب في الأصول والفروع فإن أراد أنه أتى بما أُمر فكقول الجاحظ، وإن أراد في نفس الأمر لزم التناقض". (2) وقال الإمام "ابن القيم" (ت: 751ﻫ) فى طريق الهجرتين: "والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله واتّباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافرٌ جاهلٌ فغاية هذه الطبقة أنّهم كفّار جهّال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفّاراً، فإنّ الكافر من جحد توحيد الله وكذّب رسوله إما عناداً وإما جهلاً وتقليداً لأهل العناد" [طريق الهجرتين: 411] وقال أيضاً: في قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: 28]: "فهذا استدلال قاطع على أنّ الإيمان بالله أمر مستقرّ في الفطر والعقول وأنّه لا عذر لأحد في الكفر به البتة" (بدائع التفسير)، (3) وقال الإمام "ابن كثير"(ت: 774ﻫ): في قوله تعالى:﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ. أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ (النور: 39/40)، قال: "فأما الأول من هذين المثلين فهو للكافرين الدعاة إلى كفرهم الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات وليسوا في نفس الأمر على شيء، فمثلهم في ذلك كالسراب الذي يرى في القيعان من الأرض عن بعد كأنه بحر طام،، فكذلك الكافر يحسب أنّه قد عمل عملاً وأنّه قد حصل شيئاً فإذا وفى الله يوم القيامة وحاسبه عليها ونوقش على أفعاله لم يجد له شيئاً بالكلية قد قبل إما لعدم الإخلاص وإما لعدم سلوك الشرع، وهذا المثال مثالٌ لذوى الجهل المركب، فأما أصحاب الجهل البسيط وهم الطماطم والأغشام المقلدون لأئمة الكفر الصمّ البكم الذين لا يعقلون فمثلهم كما قال تعالى: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ﴾ الآية، فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط المقلّد الذي لا يعرف حال من يقوده ولا يدرى أين يذهب بل كما يقال –في المثل– للجاهل أين تذهب؟ قال: معهم، قيل: فإلى أين يذهبون ؟ قال: لا أدري،، (إﻫ). (4) وقال تاج الدِّين عبد الوهاب ابن السبكى (771ﻫ) فى "جمع الجوامع" بشرح جلال الدِّين ا لمحلّي: (مَسْأَلَةُ: الْمُصِيبِ) مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ (فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَاحِدٌ) وَهُوَ مَنْ صَادَفَ الْحَقَّ فِيهَا لِتَعَيُّنِهِ فِي الْوَاقِعِ كَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَثُبُوتِ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ وَبَعْثَةِ الرُّسُلِ، (وَنَافِي الإِسْلامِ) كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ كَنَافِي بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وسلم (مُخْطِئٌ آثِمٌ كَافِرٌ); لأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ الْحَقَّ (وَقَالَ الْجَاحِظُ وَالْعَنْبَرِيُّ لا يَأْثَمُ الْمُجْتَهِدُ) فِي الْعَقْلِيَّاتِ الْمُخْطِئُ فِيهَا لِلِاجْتِهَادِ (قِيلَ مُطْلَقًا، وَقِيلَ إنْ كَانَ مُسْلِمًا) فَهُوَ عِنْدَهُمَا مُخْطِئٌ غَيْرُ آثِمٍ (وَقِيلَ زَادَ الْعَنْبَرِيُّ) عَلَى نَفْيِ الْإِثْمِ (كُلٌّ) مِنْ الْمُجْتَهِدَيْنِ فِيهَا (مُصِيبٌ) وَقَدْ حُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِمَا قَبْلَ ظُهُورِهِمَا. (5) وقال عبد الرحيم بن الحسن الاسنوي الشافعي (704ﻫ - 772ﻫ) "فى التمهيد": ليس كل مجتهد في العقليات مصيبا بل الحق فيها واحد فمن أصابه أصاب ومن اخطأه اخطأ وأثم بالإجماع كما قاله الآمدي، وأما المجتهد في المسائل الفرعية ففيه خلاف ينبني على أن كل صورة هل لها حكم معين أم لا. (6) وقال بدر الدِّين محمَّد بن عبد الله الزركشى (ت: 795ﻫ): "في حكم الاجتهاد: لا يخلو حال المجتهد فيه إما أن تتفق عليه أقوال المجتهدين أو تختلف: فإن اتفقت فهو إجماع يجب العمل به، وإن اختلفت أقوالهم فإما أن يكون في حكم عقلي أو شرعي: الأول: العقلي: فإن كان الغلط مما يمنع معرفة الله سبحانه ورسوله، كما في إثبات العلم بالصانع والوحدانية وما يتعلق بالعدل والتوحيد، فالحق فيها واحد، هو المكلف، وما عداه باطل، فمن أصابه أصاب الحق، ومن أخطأه فهو كافر، وإن كان في غير ذلك، كما في مسألة الرؤية وخلق القرآن، وكما في وجوب متابعة الإجماع والعمل بخبر الواحد، فقد أطلق الشافعي عليه اسم "الكفر"، فمن أصحابه من أجراه على ظاهره، ومنهم من أوله على كفران النعم، وصححه النووي وغيره، ولا شك في أنه مبتدع فاسق، لعدوله عن الحق، هذا كله إذا كانت المسألة دينية. وقال عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة: كل مجتهد في الأصول مصيب، ونقل مثله عن الجاحظ، ويلزم من مذهب العنبري أن لا يكون أحد من المخالفين في الدين مخطئا، وأما الجاحظ فجعل الحق في هذه المسائل واحدا، ولكنه يجعل المخطئ في جميعها غير آثم، أما رأي العنبري فبين الاستحالة، فإنه يستحيل أن يكون الحق أن العالم قديم وأنه محدث، وأما رأي الجاحظ فباطل، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قاتل اليهود والنصارى، وكذلك الصحابة، ولولا أنهم مخطئون لما كان كذلك، قال ابن السمعاني: وكان ابن العنبري يقول في مثبتي القدر: هؤلاء عظموا الله، وفي نافي القدر: هؤلاء نزهوا الله، وقد استبشع هذا القول منه، فإنه يقتضي تصويب اليهود والنصارى وسائر الكفار في اجتهادهم، قال: ولعله أراد أصول الديانات التي اختلف فيها أهل القبلة، كالرؤية وخلق الأفعال ونحوه، وأما ما اختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل الملل، كاليهود والنصارى والمجوس، فهذا مما يقطع فيه بقول أهل الإسلام، (7) قال الإمام إبراهيم بن موسى الشاطبي (ت: 790ﻫ): "ونظيره مسألة أهل الفترات العاملين تبعا لآبائهم، واستنامة لما عليه أهل عصرهم من عبادة غير الله وما أشبه ذلك، لأنَّ العلماء يقولون فى حكمهم إنَّهم على قسمين: *قسم غابت عليه الشريعة، ولم يدر ما يتقرَّبُ به إلى الله تعالى، فوقف عن العمل بكلِّ ما يتوهمه العقل أنَّ يقرِّبَ إلى الله، ورأى ما أهل عصره عاملون به مما ليس لهم فيه مستند إلا إستحسانهم، فلم يستفزه ذلك على الوقوف عنه، و هؤلاء هم الداخلون تحت عموم الآية ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾. *وقسم لابس ما عليه أهل عصره من عبادة غير الله، والتحريم والتحليل بالرأي، فوافقوهم فى اعتقاد ما اعتقدوه من الباطل، فهؤلاء نصَّ العلماء على أنَّهم غير معذورين، مشاركون لأهل عصرهم فى المؤاخذة، لأنَّهم رافقوهم فى العمل والموالاة والمعاداة على تلك الشرعة، فصاروا من أهلها".