(رابعاً) بيانُ مذهب علماء الأمَّة: قبل عرض أقوال العلماء، الفقهاء والأصوليين، أريد أن أنبِّه القارئ على بعض الأمور كمقدّمة، كي يقدرعلى التمكن من فهم العبارات والإصطلاحات الواردة فى كلامهم، فأقول: 1) قسموا الجهل إلى قسمين: (ا) جهلٌ بسيطٌ: وعرَّفوه بأنَّه: عدم الشعور بالشئ. (ب) جهلٌ مركبٌ: وعرَّفوه بأنَّه: إعتقاد الشئ على غير ما هو عليه، فعدم العلم بالشئ جهلٌ، وإعتقادُ خلافه جهلٌ آخر، فصار مركبا من جهلين. 2) لاتختلف عبارات العلماء من أهل السنَّة وغيرهم فى أنَّ الكافر الجاهل أوالمعاند لا يصحُّ إسلامه حتى يقرَّ بالتوحيد والرسالة عن علم. 3) عندما يقولون: "مسائل الأصول" أو "العقليات"، فمرادهم: المسائل المتعلِّقة بأصل الدين والعقائد، وقد قسموها إلى قسمين: (الأول) ما وقع الإختلاف فيه بين أهل الإسلام وأهل الملل الكافرة، كمسألة الإيمان ووحدانية الله والرسالة والإيمان بحدوث العالم، وكونه من صنع الله العليم الحكيم، وهم متَّفقون -كما سترى- على أنَّ جاهلها كافر فى الدنيا وإن لم تبلغه رسالة من الله. (الثانى) ما وقع الإختلاف فيه بين أهل الإسلام، فصار به بعضهم مبتدعة، كمسألة الرؤية وأفعال العباد وخلق القرآن، وغير ذلك، واتَّفقوا على أنَّ الحقَّ فى واحد من أقوال المجتهدين وما عداه فضلالٌ وباطل، وقد يُطلق بعضهم "مسائل الأصول" ومرادهم "مسائل أصول الفقه" كحجيَّة الإجماع والقياس وخبر الواحد. 4) ويذكر عن بعض رجال المعتزلة أنَّهم خرقوا الإجماع على هذه المسألة مثل: "عبيدالله بن الحسن العنبرى" -وروي أنَّه قد تاب منها- والجاحظ وأمثالهم ممن يذكر ببدعة، وهم محجوجون بالإجماع قبلهم وبعدهم، وهم مع خلافهم لم يقولوا: إنَّ جاهل هذه المسائل مسلمٌ فى الدنيا، بل صرح من صرح منهم أنَّه فى الدنيا يُعاملُ معاملة الكفار لأمر الشرع بذلك، وإنَّما رفعوا عنه الإثم أو العذاب فى الآخرة، وكثيرٌ من العلماء ينكرون أن ينسب ذلك إلى عبيد الله العنبرى، ويقولون: لم يقل بتصويب جهال الكفار،وإنَّما كان يعنى المختلفين من المسلمين فى القدر والصفات وغير ذلك. 5) "إنَّ كونَ الشرك والظلم والفواحش شرًّا وقبيحا يُعرف بالعقل، واسم المشرك ثبت قبل الرسالة، لكن لايُعذِّب الله بذلك أحدا قبل قيام الحجَّة بالرِّسالة"، قاله جمهور أهل السنَّة، وخالفهم فى ذلك فئتان: (الأولى) من قال: "إنَّها تُعرفُ بالعقل ويستحقُّ المخالف العذاب"، وهم المعتزلة وبعض علماء السنَّة كأبى حنيفة وغيره، (الثانية) من قال: لا يعرفُ ذلك بالعقل، والحسنُ ما قيل فيه "إفعل" و القبيحُ ما قيل فيه "لا تفعل"، وهم الجهمية والأشعرية، وهم مع ذلك لم يقولوا:"إنَّ من لم تبلغه الرسالة مسلمٌ فى الدنيا"، 6) المسائل الَّتى ورد فى شأنها نصوص قطعية قسموها إلى: (1) ضرورية: لا يُعذر بجهلها أحدٌ إلا من هو حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة عن الأمصار، (2) غير ضرورية: تُعرفُ بالنَّظر، ويكونُ مخالفها مُخطئا غيرآثم إذا إستفرغ الجهد فى معرفتها، وعجز عن دركها، سواء كانت المسألة علمية أوعملية، ويكون آثما أو كافرا إذا أصرَّ بعد إقامة الحجَّة عليه، قال ذلك جمهور السلف، لأنَّ الله غفر لهذه الأمَّة خطأها، وهو يعمُّ الخطأ فى العلم والعمل، وقالت المعتزلة ومن تأثَّر بأفكارهم من المنتسبين إلى السنَّة: إنَّ من أخطأ فى هذه المسائل لايكون إلا كافرا آثما. 7) المسائل الاجتهادية آلتي لم يرد فيها نصٌّ قاطعٌ اختلفوا فى: هل كلُّ مجتهد فيها مصيب، أم المصيب واحد وخطؤه مغفورله، وله أجر اجتهاده؟على قولين والأخيرُ هو الصواب الّذى تؤيده النُّصوص. 8) قال ابن حجرالعسقلانى فى "تهذيب التهذيب": وقال بن مهدي كنا في جنازة فسألته -أي عبيد الله العنبري- عن مسألة فغلط فيها فقلت له أصلحك الله أتقول فيه كذا وكذا فاطرق ساعة ثم رفع رأسه فقال إذا ارجع وأنا صاغر لأن أكون ذنبا في الحق أحب إلي من أن أكون رأسا في الباطل" وقال: "وقال بن أبي خيثمة أخبرني سليمان بن أبي شيخ قال كان عبيد الله بن الحسن اتهم بأمر عظيم وروى عنه كلام رديء يعني قوله كل مجتهد مصيب ونقل محمد بن إسماعيل الأزدي في ثقاته أنه رجع عن المسألة التي ذكرت عنه لما تبين له الصواب والله أعلم اﻫ ومن تاب من خطئه فقد أحسن، ولكن كثيرا ما يتوب صاحب المقالة ثمَّ لا تموت مقالته، بل تبقى فى غيره، ولذا استحقَّت المقالة المنسوبة إلى "العنبرى" النَّقد على توالى الأجيال لخطورتها. وكان "عبيد الله العنبري"رجلا فاضلا ولَّى قضاء "البصرة"، ويقول عنه من ذكره من علماء الرجال أنَّه ثقة وروى له "مسلم"، وتوفي (168ﻫ)