(ثانياً) بيان ُالنَّبيِّ صلّى الله عليه وسلم للمسألة: بيَّنت سنَّة النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلم هذه المسألة بيانا واضحا صريحا كبيان القرآن لها، بحيث لا تختلف فيه الأفهام إذا تجرَّدت لله و لم تخضع للهوى، وذلك من وجوه كثيرة، نختار منها بعضها: (الوجه الأول): 1) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)، وفى رواية: "بُني الإسلام على خمسٍ على أن يُعبدَ الله ويكفر بما دونه وإقام الصَّلاة وإيتَاء الزّكاة وحجّ البيت وصوم رمضان". 2) عن أبى هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله"، [مسلم] 3) عن أبي هريرة رضي الله عنه ‏: ‏‏‏أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال‏: "‏ الإسلام أن تعبد الله لا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان‏)، ‏ [متفق عليه] 4) عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ‏:‏ ‏‏أنه جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجل فسأله عن الإسلام فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ‏: خمس صلوات في اليوم والليلة وصيام رمضان‏)‏ وذكر له الزكاة‏، [متفق عليه] 5) عن بهز بن حكيم‏: ‏أن النبي صلّى الله عليه وسلم سُئل عن آيات الإسلام فقال أن تقول أسلمت وجهي وتخليت وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة‏)‏، [النسائي] 6) وأخرج النسائي عن أنس بن مالك قال‏: ‏‏قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم‏)،‏ [النسائي] 7) عن عبد الله بن عمر قال‏: ‏ ‏(‏قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ‏:‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى‏)‏. 8) عن أنس‏: ‏ ‏(‏أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال‏: ‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا وصلوا صلاتنا حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها‏)‏ ولفظ البخاري‏: ‏(‏من شهد أن لا إله إلا الله واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ما للمسلم وعليه ما على المسلم‏)‏‏. 9) وثبت كذلك أنَّهُ صلّى الله عليه وسلم قال: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبدُ من دون الله حَرُمَ ماله ودمُه وحسابُه على الله عزّ وجلّ". بيَّن النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلم فى هذه الأحاديث وغيرها شروط الدخول فى دين الإسلام، والَّتى لا يكون أحدٌ مسلماً مؤمناً بدون تحقيقها، وهي: (أولا) أن يعلم علم يقين بأنَّ الله إلهٌ وربٌّ واحدٌ لاشريك له فى الألوهية والربوبيَّة. (ثانيا) أن يعبد الله مخلصا له الدين وأن يكفر بكلِّ ما يعبدُ من دون الله ويتوب من كلِّ أصناف الشرك والكفر. (ثالثا) أن يؤمن بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخروالقدر خيره وشرِّه. (رابعا) أن يؤمن بالنَّبيِّ الأخيرمحمَّد صلّى الله عليه وسلم ، وأن يعبدالله بالشريعة المنَزلة عليه، ويُقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويفعل ما يجبُ عليه ويجتنب ما يحرم عليه. فدلَّ هذا البيان النبويِّ -كما دلَّ القرآن- على أنَّ من لم يأتِ بهذه الشروط لايكون مسلما ولامؤمنا، بل يكون كافرا جاهلا أو كافرا معاندا، ومن أدخل فى الأمَّة المسلمة من ليس منها، ممن لم يُحقِّق شروط العضوية الَّتى شرطها الله فى كتابه، كالذين يقولون: "إنَّ المشرك إذا كان جاهلا غير معاند فهو مسلم ولا يجوز تكفيره"، من قال ذلك فقد ردَّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلم قوله، وكفر بما أنزل عليه. إنَّ كلَّ شئ له تعريف، والغرضُ منه الجمعُ والمنعُ، أي أن لا يكون بعضُ هذا الشئ المعرَّفِ خارجاً منه، وأن لا يكون ما ليس منه داخلا فيه بعد التعريف، فإذا قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلم مثلا: "الإسلام أن تعبد الله لا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان‏)، ‏ [متفق عليه] فتعريفه للإسلام جامع مانع، فيكون كلُّ من يُشرك بالله جهلا أو عنادا خارجاً من "أهل الإسلام"، وإلا لم يكن للتعريف فائدة، ولجازأن يوضع للإسلام تعريف آخرويُقال: "الإسلامُ أن تُشرك بالله جهلا!"، وهذا ظاهر الفساد، ولا يقول به مسلمٌ إن شاء الله. (الوجه الثانى) 1) عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "من بدل دينه فاقتلوه" (رواه البخاري). 2) وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "لما بعثه النبي صلّى الله عليه وسلم إلى اليمن ثم أتبعه معاذ بن جبل فلما قدم عليه ألقى إليه وسادة وقال: انزل، وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: "كان يهوديا فأسلم ثم تهوَّد"، قال: اجلس، قال: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله عزّ وجلّ، وقضاء رسوله صلّى الله عليه وسلم ثلاث مرات فأمر به فقتل، [متفق عليه]. زاد أبو داود بعد قوله: " فقتل": " وكان قد استتيب قبل ذلك" وفي رواية له: " عشرين ليلة" هذان الحديثان يدلَّان على أنَّ حدَّ الردَّةِ عن الإسلام القتلُ، سواء كان المرتدُّ معاندا مختارا للكفر، على علم بضلاله، أو كان جاهلا مفتونا بشبهات الكفار، لأنَّ قوله صلّى الله عليه وسلم: "من بدَّل" يدلُّ على ذلك، لكون "مَن" مِن ألفاظ العموم، كما أنّ قوله صلّى الله عليه وسلم: "أمرتُ أن أقاتل الناس" يدلُّ على عموم النَّاس، فلا يدخل فى الإسلام أحدٌ إلا من استكمل الإقرار، فاستوى فى ذلك المعاندون والجاهلون الَّذين يحسبون أنَّهم مهتدون، (الوجه الثالث) 1) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ يَصِلُ الرّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: "لاَ يَنْفَعُهُ، إِنّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْماً: رَبّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّينِ"، [مسلم]. 2) عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ الله أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: "فِي النّارِ" فَلَمّا قَفّى دَعَاهُ فَقَالَ: "إِنّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النّارِ"، [مسلم]. 3) عن حذيفة بن اليمان أنَّه قال: يا رسول الله إنَّا كنَّا فى جاهلية وشرٍّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شرٍّ؟" (البخاري) وفيه أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلم أقرَّه على قوله ولم يزجره عنه. ففى هذه الأحاديث وأمثالها دلالة بيِّنةٌ على أنَّ الَّذين لم يُدركوا دعوة النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلم وماتوا قبله كانوا على الكفر والجاهليَّة، وأنَّهم من أهل النَّار، ولم يكونوا معذورين بالجهل عند الله. وقد قال بعضُ العلماء بمقتضى دلالة هذه الأحاديث، ونفوا وجود أهل الفترة وأثبته بعضهم كما سيأتى بيانه إن شاء الله فى آخر الرِّسالة. ومحلُّ الإستدلال هو: إذا لم ينجُ أهلُ الجاهلية الأولى، الَّذين قال الله عنهم: ﴿وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ﴾ [سبأ: 44]. فكيف يصحُّ القول بنجاة المشركين المعرضين عن القرآن المحفوظ، وإعذارهم بالجهل !!؟.