(ثالثاً) بيانُ مذهب الصحابة والتابعين (القرن الأول): يظهر مذهب الصحابة وتابعيهم، وكونُهم منقادين لما دلَّت عليه نصوص الكتاب والسنَّة من عدم إعذار أهل الجهل فى أصل الدين، من عدَّةِ أوجه: (الوجه الأول): 1) ثبت أنَّهم لم يكونوا يُفرِّقون بين أهل الشرك جاهلهم و معاندهم، وإنَّما كانوا يضعونهم جميعاً منْزلة واحدة. ومما هو من المعلوم من سيرتهم فى الجهاد أنَّهم كانوا يكاتبون الملوك والقادة ويدعونهم إلى الإسلام، فإن أبوا عرضوا عليهم الجزية، فإن أبوا قاتلوهم، فإذا غلبوهم استباحوا نساءهم وذراريهم، ولم يكن منهم من يقول: "إنَّ النساء والذرارى لاذنب لهم ول ارأي له فى الحرب والسلم"، فدلَّ ذلك على أنَّهم كانواعلى قول واحد مستند إلى الكتاب والسنَّة. (الوجه الثانى) 1) أجمع الصحابة على كفر أتباع مسيلمة الكذاب، مع علمهم بأنَّهم جهال مخدوعون، خدعهم قارؤهم "الرجَّال" وكانوا يحسبون أنَّهم مهتدون، وقد قال أحدهم، وهو جريح، لمَّا سمع بمقتل "مسيلمة": "نبيٌّ ضيعه قومه"، ومع هذا لم يُعذروهم بالجهل مع ظهوره، بل كان أبو بكر يأمر بقتل كلِّ من قدر على القتال. 2) وأجمعوا كذلك على قتال مانعى الزكاة، وكان أكثرهم أهل جهل وتقليد لأئمَّة الضلال،وكان منهم من يتأوَّلُ قوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ ويقولُ إنَّ الخطاب للنَّبيِّ صلّى الله عليه وسلم لا لأبى بكر. (الوجه الثالث) 1) قال أبيّ بن كعب رضي الله عنه ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ﴾ قال: "وكذلك الكافر يجئ يوم القيامة، وهو يحسب أنَّ له عند الله خيراً، فلا يجد، فيدخله النَّار" (تفسيرالطبرى) 2) وقال ابن عبَّاس رضي الله عنه فى قوله ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ﴾: "الكافر كذلك يحسب أنَّ عمله مغنٍ عنه، أو نافعه شيئا، ولا يكون آتيا على شيء حتى يأتيه الموت، فإذا أتاه الموت لم يجد عمله أغنى عنه شيئا، ولم ينفعه إلا كما نفع العطشان المشتدّ إلى السراب" (تفسيرالطبرى) وقال فى تفسير قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاّ أَمَانِيَّ﴾: "يعنى: غير عارفين بمعانى الكتاب" وقال فى تفسير قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾: اليهود. 3) عن أبى عمران الجوني قال: مرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدير راهب، قال: فناداه: يا راهب! يا راهب! فأشرف، قال: فجعل عمر ينظر إليه و يبكى، فقيل له: يا أميرالمؤمنين، ما يبكيك من هذا؟، قال: ذكرت قول الله عزَّوجلَّ فى كتابه"عاملة ناصبة، تصلى نارا حامية"، فذاك الّذى أبكانى، (رواه البرقانى).