(العاشرة): استدلالهم بحديث أنس: "كان يغير عند صلاة الصبح، وكان يستمع ،فإذا سمع آذانا أمسك وإلا أغار". وسبب نزول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ [النساء: 94]. الذي قال: السلام عليكم. والجواب: إنّ أهل الكفر متنوّعون في عقائدهم وليسوا نسخة واحدةً. منهم "الدهريون" الذين ينكرون وجود إلهٍ متصرّف في الكون ومنهم "مشركون" يعلمون أنّ الله فاطر السماوات والأرض ولكن يشركون به مخلوقات يعبدونها معه، وكان هؤلاء ينكرون قول "لا إله إلاّ الله" لاعتقادهم بآلهتهم الكثيرة، أما أعمالهم فكثير منها كانت من بقايا دين إبراهيم عليه السلام مثل الحجّ والعمرة والطواف والسعي والتلبية وسوق الهدي ومعرفة أشهر الحجّ وأشهر الحرم. وعندما جاءتهم دعوة الإسلام أبوا الانتقال من دينهم إلى الدِّين الجديد، ولذلك رفضوا قول "لا إله إلاّ الله" إذا كانوا يعلمون أنّ المراد منها إنّما هو: ترك الآلهة وعبادة إلهٍ واحد، فأصبحت الشعائر الإسـلامية في حقّهم قسمين: (الأول): ما لا يدلّ على إسلامهم لكونهم كانوا يفعلونها في كفرهم مثل الحجّ والعمرة وأعمال الحجّ وغيرها .. ولذلك مُنعوا من الحجّ وهم يريدون أداءه في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: 28]. فدلّت الآية على أنّ طاعات المشركين مردودةٌ عليهم حتى يسلموا أي: "يعبدوا الله وحده لا شريك له". وهذه حجّةٌ على أهل الإرجاء الذين يظنّون أنّ صلاة وصيام وحجّ أهل الشرك صحيحة. (الثاني): الشعائر التي كانت دالّة على إسلامهم لكونهم لم يكونوا يفعلونها في الشرك وإنّما كان يفعلها من اتّبع النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم مثل: قول: لا إله إلاّ الله والصلوات الخمس وتحية الإسلام "السلام عليكم ورحمة الله" والآذان للصلوات وغير ذلك. وهذه الشعائر إذا أظهرها الوثنيون كانت تدلّ على أنّهم خرجوا من دينهم إلى دين الإسلام، فكان واجباً على المسلمين أن يكفّوا عنهم حتى يعلموا حقيقة أمرهم . وقوله تعالى: ﴿فتبيّنوا﴾ فيه أمرٌ بالتمهّل وطلب الحقيقة. وأهل الإرجاء يُطلقون القول ويقولون: "الآذان يدلّ على إسلام البلد". فإن قيل فما قولكم في حكم مدينة "نيروبي" و "أدِس أبابا" قالوا: ديار كفر مع ظهور الآذان فتناقضوا. والقول الحقّ هو: إذا كان أهل البلد لم يكونوا يؤذّنون في كفرهم فأظهروا الآذان فهي علامةٌ توجب الكفّ عن القتال وتوجب التبيّن وطلب الحقيقة. وإذا كانوا يؤذنون وهم في الشرك الأكبر فليس آذانهم دليلاً على إسلامهم، بل يقاتَلون حتى يرجعوا عن كفرهم الذي جعلهم كفاراً. ويكون إظهار الآذان في الكفر كإظهار الحجّ في الكفر، إذ ثبت بالأدلّة القطعية كون أعمال أهل الشرك مردودة عند الله. ومن الكفّار من ثبت كفره وهم ينطقون بالشهادتين، كبعض فرق أهل الكتاب والذين ظهروا في حياة الصحابة كبني حنيفة ومانعي الزكاة والسبئية الذين حرّقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد أجمع المسلمون على كفر أولئك، وأنّ الشهادتين ليستا موجبتين لإسلامهم أو وجوب الكفّ عنهم، فتدبّر ذلك فليس دين الإسلام دين ألفاظ، وإنّما هو دين اعتبار المعنى الذي يحمله اللفظ. والألفاظ إنّما تُعتبر إذا أُريد بِها معانيها، فإن تجرّدت عن المعنى فهي عديمة الوزن. ويدلّ على صحة ما قلنا أنّ أهل العلم والفقه كانوا يفرّقون بين الوثنيّ الذي قال: "لا إله إلاّ الله" فأجمعوا على وجوب الكفّ عنه. والكتابيّ الذي قال: "لا إله إلاّ الله" فقالوا: لا يُرفع عنه السيف حتى يُقرّ بالرسالة. والمرتدّ الذي قال: "لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله". قالوا: لا يُرفع عنه السيف حتى يرجع عما اعتقده، كما قال أبو بكر: "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لقاتلتهم على منعه !!". فانظر إلى ذلك ثلاثة رجال كلّ منهم قال: "لا إله إلاّ الله" ومع ذلك لا يُعامَلون بمعاملة واحدة، لأنّ الأول: إذا قال الكلمة جرت العادة على أنّه يترك الشرك ويتّبع النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم. والثاني: كان يقول الكلمة وهو منكر لرسالة النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فلم تعُد كلمته دالةً على إسلامه. والثالث: كان يقول الكلمة ويدّعي الإيمان بالرسالة وهو منكرٌ لبعض ما جاء به النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم. فاعتبار المعنى وعدم الجمود على اللفظ هو الصواب. وقال أبوسليمان الخطابيّ عند حديث أنس: "كان يغير عند صلاة الصبح ،وكان يستمع ،فإذا سمع آذانا أمسك وإلا أغار": قلت:"فيه من الفقه أنَّ إظهار شعائر الإسلام فى القتال وعند شنِّ الغارة،يحقنُ به الدم، وليس كذلك حال السلامة والطمأنينة الَّتى يتَّسع فيها معرفة الأمور على حقائقها، واستيفاء الشروط اللازمة فيها" (معالم السنن)