(الثانية عشرة): قال أحدهم: إنّ هذا الذي نقوله من كون النطق بكلمة التوحيد كافياً لإثبات الإسلام الحكمي وعدم اشتراط الإخلاص والبراءة من الشرك أمرٌ مجمعٌ عليه وقد ذكر هذا الإجماع أبو بكر ابن المنذر والنووي وأحمد ابن تيمية وابن رجب الحنبلي. قال الأول: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ الكافر إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، وأنّ كل ما جاء به محمدٌ حقٌّ، وأتبرّأ من كل دين خالف الإسـلام وهو بالغ صحيح يعقل أنّه مسلم، فإن رجع بعد ذلك فأظهر الكفر كان مرتدّاً". قلتُ: هذا الذي أجمع عليه أهل العلم يردُّ عليكم ويُبطل دينكم المبتدع، وأصبحتم كما يُقال في المثل: "ولا تك كالشاة التي كان حتفها بحفر ذراعيها فلم ترضَ محفراً". ألا ترى أنّهم يشترطون "البراءة من كل دين خالف الإسلام". والشرك بالله دينٌ خالف الإسـلام، لأنّ الله أمر أن يُقال لأهل الشرك: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾. فلا بُدّ للإسلام الحكمي المطلوب من كلّ كافرٍ أن يكون في ظاهره بريئاً من دين الشرك مُظهراً للتوحيد. وقد صرحتم بأنّكم لا تشترطون الإخلاص والبراءة من الشرك في الإسـلام الحكمي، وتقولون لمن نطق بالكلمة أنّه مسلمٌ وهو يعبد غير الله، فثبت أنّكم على دينٍ غير الإسـلام الذي أجمعت عليه الأمّة .. فاتّقوا الله وتوبوا إلى بارئكم. قال: قال النووي: "واتّفق أهلُ السنّة من المحدّثين والفقهاء والمتكلّمين على أنّ المؤمن الذي يحكم أنّه من أهل القبلة ولا يخلد في النار لا يكون إلاّ من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقاداً جازماً خالياً من الشكوك، ونطق بالشهادتين". قلت:"ظاهرٌ من هذا الكلام أنه لا يكون مؤمنا من يظهرُ الشرك الأكبر وإن نطق بالشهادتين، لأنَّهُ عُرف: أنَّهُ على غير دين الإسلام الّذي هو:"أن تعبد الله ولا تُشرك به شيئا"، فالمؤمن الذي يحكم –في الدنيا- أنّه من أهل القبلة ولا يخلد في النار –في الآخرة- لا يكون إلاّ من اعتقد بقلبه دين الإسلام-أي عبادة الله وحده بلا شريك- اعتقاداً جازماً خالياً من الشكوك، ونطق بالشهادتين".فقوله مطابقٌ تماما للقول المجمع عليه الذي ذكره إبن المنذر. قال: قال "الإمام ابن تيمية "(في درء تعارض العقل والنقل): "وهذا مما اتّفق عليه أئمة الدِّين وعلماء المسلمين فإنّهم مُجمِعون على ما عُلم بالاضطرار من دين الرسول صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: أنّ كلّ كافرٍ فإنّه يُدعَى إلى الشهادتين سواءً كان معطّلاً أو مشركاً أو كتابياً، وبذلك يصير الكافر مسلماً، ولا يصير مسلماً بدون ذلك. كما قال أبو بكر ابن المنذر". قلتُ: كلامُه حقٌّ، فإنّ كلّ كافرٍ يُدعى إلى الشهادتين، ومرادُه قبول المعنى واللفظ. ولم يقل: إنّ المعطّل ينفعه التلفظ وهو على التعطيل، وأنّ المشرك ينفعه اللفظ وهو على الشرك، والكتابي ينفعه اللفظ وهو على اليهودية أو النصرانية. لا يجوز أن يُحمل كلام الشيخ إلى هذا المحمل لأسباب ثلاثة: (الأول): أنّه استشهد بكلام ابن المنذر الصريح باشتراط البراءة مما خالف الإسـلام، فظهر أنّه يوافقه، مع العلم بأن مخالف الإجماع اختُلف في كفره. فلا يُظَنُّ بشيخ الإسلام أنّه خالف ما أجمع عليه المسلمون قبله. (الثاني): أنّه بيّن في غير موضع أن الإسلام هو: أن تعبد الله وحده، وأن تعبده بشريعة محمّد صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ، وقال: هذا معنى الشهادتين. قال في الفتاوى (1/310): "ودين الإسلام مبنى على أصلين، وهما‏:‏ تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله‏.‏ وأول ذلك ألا تجعل مع الله إلها آخر، فلا تحب مخلوقًا كما تحب الله، ولا ترجوه كما ترجو الله، ولا تخشاه كما تخشى الله". والأصل الثاني‏:‏ أن نعبده بما شرع على ألسن رسله، لا نعبده إلا بواجب أو مستحب، والمباح إذا قصد به الطاعة دخل في ذلك‏.‏ وقال في صفحة (333): "فمعنا أصلان عظيمان، أحدهما‏:‏ ألا نعبد إلا الله‏.‏ والثانى‏:‏ ألا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبتدعة‏.‏ وهذان الأصلان هما تحقيق ‏(‏شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله‏)‏". (الثالث): أنّه صرح بأنّ من لم يترك الشرك لم ينفعه التكلّم بالشهادتين. جاء في فتاوى الإمام (ابن تيمية ) رحمه الله ما يأتي: ما تقول السادة العلماء أئمة الدّين رضي الله عنهم أجمعين في رجل قال: أشهد أنّ لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، ولم يصلّ ولم يقم بشيء من الفرائض، وأنه لم يضرّه ويدخل الجنّة، وأنّه قد حرم جسمه علي النّار؟ فأجاب: "إن لم يعتقد وجوب الصلوات الخمس، والزكاة المفروضة، وصيام شهر رمضان، وحجّ البيت العتيق، ولا يحرم ما حرم الله ورسوله من الفواحش والظلم والشرك والإفك فهو كافرٌ مرتدّ يُستتاب فإن تاب وإلاّ قُتل باتفاق أئمة المسلمين ولا يغني عنه التكلم بالشهادتين " . "وإن قال: أنا أقرُّ بوجوب ذلك علي، وأعلم أنه فرض وأنّ من تركه كان مستحقاً لذم الله وعقابه لكني لا أفعل ذلك. فهذا أيضاً مستحق للعقوبة في الدنيا والآخرة باتفاق المسلمين . ومن قال: أن كلّ من تكلّم بالشهادتين، ولم يؤدِ الفرائض ولم يجتنب المحارم يدخل الجنّة ولا يعذب أحدٌ منهم بالنّار: فهو كافرٌ مرتدٌّ يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلاّ قتل. بل الذين يتكلمون بالشهادتين [أصناف] منهم منافقون في الدرك الأسفل من النار" [مجموع الفتاوى .م/35/ص: 105،106]. وسئل رحمه الله تعالى عن رجل قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم «من قال لا إله إلاّ الله دخل الجنّة» وقال آخر: إذا سلك الطريق الحميدة واتبع الشرع دخل ضمن هذا الحديث. وإذا فعل غير ذلك ولم يبال ما نقص من دينه وزاد في دنياه لم يدخل ضمن هذا الحديث. قال له ناقل الحديث: أنا لو فعلت كلّ ما لا يليق، وقلت لا إله إلاّ الله :دخلت الجنّة ولم أدخل النّار ؟ فأجاب رحمه الله: الحمد لله ربّ العالمين. من اعتقد أنّه بمجرّد تلفظ الإنسان بهذه الكلمة يدخل الجنّة ولا يدخل النّار بحال فهو ضالّ مخالف للكتاب والسنّة وإجماع المؤمنين فإنّه قد تلفظ بها المنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النّار وهم كثيرون، بل المنافقون قد يصومون ويصلّون ويتصدقون ولكن لا يتقبل منهم [ثم أخذ في سرد الأدلة من الكتاب والسنّة] [مجموع الفتاوى.م35/ص:201-202]. قال: وقال ابن رجب في (جامع العلوم والحِكم) عند حديث: أُمرتُ أن أُقاتل الناس.. : "ومعلومٌ بالضرورة أنّ النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم كان يقبَلُ من كل من جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط، ويعصم دمه بذلك ويجعله مسلماً". قلتُ: هذا صحيحٌ، ولكن ما معنى قوله: "يريد الدخول في الإسـلام"؟؟. معناه: يريد أن يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، ويعبده بشريعة محمّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم. وكل من أراد ذلك فقد برئ من دينه القديم، سواءً كان وثنيةً أو يهوديةً أو نصرانيةً أو مجوسيةً أو ردّةً عن الإسـلام. فكل من جاء يريد أن يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، ويعبده بشريعة محمّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فلا يُطلب منه أكثر من الشهادتين لاعتقاد إسلامه. ولكن معنى قوله: "يريد الدخول في الإسلام" عندكم هو: "يريد النطق بكلمة الشهادة وإن لم يترك الشرك". ولأجل هذا الانحراف الفكري تُخطئون فهم كلام العلماء كما أخطأتم قبل ذلك في فهم الكتاب والسنّة. ويدلُّ على أنّ ابن رجب يُوافقنا ويُخالفكم أنّه قال في نفس الكتاب: "وقد يترك دينه ويفارق الجماعة وهو مقرٌّ بالشهادتين ويدّعي الإسلام كما إذا جحد شيئاً من أركان الإسلام أو سبّ الله ورسوله أو كفر ببعض الملائكة أو النبيين أو الكتب المذكورة في القرآن مع العلم بذلك". (ص: 205) فتبيّن أنّ الإسلام –عند ابن رجب- ليس مجرّد الإقرار بالشهادتين، وأنّ المقرّ قد يثبت له إسلام وقد لا يثبت. والله أعلم. والحمد لله ربّ العالمين أقول: يتبيّن من أقوال أئمة الإسلام الموافقة للنصوص القرآنية والسنّة النبوية ما يأتي: أولاً: إذا قال الوثني "لا إله إلاّ الله" فقد أجمعوا على وجوب الكفّ عن قتله، ثمَّ منهم من يصرح بأنّه قد صار مسلما بذلك كالشافعي ومحمَّد بن الحسن والبغوي وغيرهم، ومنهم من يقول لا بُدّ من اختباره فإن شهد بالرسالة والتزم أحكام الإسلام حُكم بإسلامه كما قاله الطحاوي و ابن حجر وأيَّده الشوكاني.ويمكن حمل هذا الإختلاف على إعتبار إختلاف أحوال النَّاس والقرائن المصاحبة وملابسات الواقع. ثانيا: إذا قال الكتابي "لا إله إلاّ الله محمد رسول الله" فقد أجمعوا على وجوب الكفّ عن قتله، أما اعتباره مسلماً فقد فرّقوا بين من يكون بهذا القدر من الإقرار مسلماً ومن لا يكون لكونه لا يدخل بهذا الإقرار الإسلام ولا يلتزم به شريعة الإسلام. ثالثا: إذا قال مُدّعي الإسلام الذي لم يكن كفره بإنكار الشهادتين ولكن بوقوعه في كفرٍ وشركٍ وامتناعٍ عن فعل الواجبات أو ترك المحرّمات أو غير ذلك من أنواع الكفر: "لا إله إلاّ الله محمد رسول الله" فقد أجمعوا على أنّه لا يكون مسلما بالإقرار بالشهادتين حتى يرجع ويتبرّأ من الكفر، وهذا ما نقول به ولله الحمد. رابعاً: لا أصل للمقالة المنحرفة التي يعتقدها الضُّلاّل في الكتاب والسنّة وأقوال الأئمة، وأعني قولهم: اعتبار المقرّ بالشهادتين مسلماً دائماً وإن كان يشرك بالله الشرك الأكبر وإن كان يوالي الكفرة ويُقدِّم شرائعهم الوضعية على الكتاب والسنّة. وكلّ ما اُستُدلّ لهذه الفكرة المنحرفة من أقوال لأهل العلم فاعلم أنّها أقوالٌ يضعونها في غير مواضعها عن جهل وغفلةٍ أو عن قصدٍ وكتمانٍ للعلم. خامساً: وقول العالم في ذاته ليس حجةً مستقلّة يُحتجُّ بِها، بل هو يحتاج إلى حجّة تصدّقه. وأنا قد سردتُ من الأقوال ما يوافق الأدلّة أو يفسّرها، وذلك كي لا ينخدع طالب الحقّ بالأقوال المتشابهة التي تُنسب إلى الأئمة والتي يُستدلّ بها لإثبات مبادئ معارضة لما دلّت عليه الآيات والأحاديث. فمن فهم هذه الأقوال التي أثبتُّها عرف أنّ من قال من العلماء مثلاً: "إن قول "لا إله إلاّ الله" تجعل الكافر مسلماً والعدوّ ولياً". أو قال: "إنّ الأمة أجمعت على أنّ قول لا إله إلاّ الله يُدخل بها في الإسلام". أو قال: "أنّ أهل "لا إله إلاّ الله" لا يجوز تكفيرهم". وما أشبه ذلك عرف أنّ هذه الاطلاقات الَّتى تردُ في كلام العلماء تحتاج إلى التقييدات الثابتة في أقوالهم الأخرى،ومن الأمانة جمع الأقوال والتوفيق بينها لا بترها وأخذ ما يوافق الهوى. (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).