(الخامسة) أما استدلالهم بحديث أنس الذي فيه أن غلاماً من اليهود كان مرض فأتاه النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم. فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فأسلم. فخرج النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار} [البخاري وأحمد وأبو داود وأبو يعلى]. فلا حجّة لهم فيه، بل هو حجّة عليهم من وجهين: (الأول): في هذه الرواية أنّه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عرض عليه الإسلام، أي طلب منه أن يسلم، والإسلام الذي يطلبه النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم هو الذي بيّنه بقوله: "الإسـلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً". وفي رواية أخرى: "فدعاه إلى الإسلام". وفي أخرى: "قال له: أسلم". وفي رواية أخرى أنّه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قال له: "يا فلان قل: لا إله إلاّ الله". فدلّ ذلك على أنّ المراد من كلمة "أسلم"و المراد من كلمة"قل:لا إله إلاّ الله" واحد عند سلفنا، لأنّ المعنى الذي تحمله كلمة لا إله إلاّ الله هو عبادة الله بلا شريك. والإسلام هو: عبادة الله بلا شريك، فتطابقت العبارتان. وهذا هو المعروف في مصطلح أهل الحديث بالرواية بالمعنى وليس اختلافاً بين الروايات. ومثله ما جاء في بعض الروايات أن الغلام أسلم. وجاء في بعضها أنه قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله. فعكس أهل الإرجاء القضية فقالوا: الإسلام هو النطق. ومعنى "أسلِمْ" هو قل كلمة التوحيد من غير تركٍ للشرك، وهذا من سوء فهمهم للأدلة. فإن قيل: الغلام لم يعمل عملاً ولم يتبرّأ من الشرك، بل نطق بالكلمة فمات فدخل الجنة. فالجواب: الأولى أن يقال: أنّ الغلام بلغته الدعوة من قبلُ لأنّه كان خادم النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ويضع له وضُوءه ويُناوله نعليه، وأنّ النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم دعاه إلى الإسلام لما زاره دعوةً أخرى فأجاب وأسلم، ويدلُّ قوله:" أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله" على أنّه كان قد بلغته الدعوةُ وكان على علم بأنّ من أراد الدخول في الإسلام لابدّ له من قبول الشهادتين قولاً ومعنىً. ويدلّ على أنّه قد تاب من الشرك دخولُه الجنة، وقد حرّم الله الجنّة على من مات في الشرك. قال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ﴾ [المائدة: 72]. فالغلام كان مؤمنا عند موته ولم يكن مشركاً دخل الجنة بالنطق المجرّد. وقد ثبت في السنّة رجال آمنوا فماتوا لساعتهم فدخلوا الجنّة، كالذي قال عنه النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "عمِل قليلاً وأُجر كثيراً". (الثاني): إنّ الغلام كان يهودياً وكان اليهود يقولون: "لا إله إلاّ الله" ولو مات قبل أن يسلم لدخل النار. فدلّ ذلك على أنّ من قال كلمة التوحيد في الشرك والكفر أنّه كافرٌ ولا ينقذه النطق من النار. ودلّ كذلك على أنّ المشركين الذين يقولون: "لا إله إلاّ الله" يُدعون إلى "شهادة أن لا إله إلاّ الله". مرّةً أخرى لكونهم قد أبطلوا قولهم بفعلهم الشرك كما جاء في حديث معاذ: "إنّك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة إنّ لا إله إلاّ الله ..". وفي رواية: "أن يوحّدوا الله".