(الحادية عشرة): يقول بعض حُذاق المرجئة المعاصرة: "نحنُ لا نُنكر أنّ الإسلام هو عبادة الله بالإخلاص وترك الشرك، ولكن نقول: إنّ الإخلاص وترك الشرك هو من شروط التوحيد الذي به نجاة العبد في الآخرة، وليس شرطاً في الإسلام الحكمي الذي تُجرى به أحكام الدنيا، ويدلُّ على ذلك أنّ المنافقين كانوا في الدنيا مسلمين مع عدم الصّدق والإخلاص، وهم في الآخرة كفّارٌ في الدرك الأسفل من النار". والجواب: قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ [آل عمران: 19]. فليس لله دينٌ للدنيا ودينٌ للآخرة. وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85]. وقال تعالى: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]. أي: ورضيتُ لكم أن تعبدوا الله بالإخلاص وأن تتركوا الشرك به ديناً. وقد دعا النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم إلى الإسلام، وأن يعمل أهل الدنيا كلّهم بهذا الدِّين الوحيد، فأبى البعض وأظهروا الكفر والشرك والبراءة من الإسلام، وهم "المشركون". وقبِل البعض وأظهروا الإخلاص وتركوا الشرك بالله وهم "المسلمون". والمنافقون أظهروا الإسلام والإخلاص وتركوا الشرك، فلم يتميّزوا عن المسلمين إلاّ بما يعلم الله من قلوبهم من كفرٍ يُخفونه، فصار لهم في أحكام الدنيا ما للمسلمين، ولكن يدخلون النار بما في قلوبهم من كفرٍ وبُغضٍ للحقّ وأهله. أما الحكم على قومٍ يعبدون غير الله ويتّبعون كتاباً غير كتابه بالإسلام لأجل ألفاظٍ يطلقونها، وقد أنكروا معناها، والوصف بأنّهم في دين الله للدنيا فإفتراءٌ وتقوُّلٌ على الله، بل هو دينٌ جديدٌ اُبْتُدِعَ في آخر الزمان. إنّ دين الله في الدنيا والآخرة هو "الإسلام" وهو ﴿أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾. ومن تولّى عن ذلك وأعرض فليس بمسلم: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64] ومن أظهره وأخفى كفره أجريت عليه أحكام المسلمين، لأنّه وافق الدِّين في ظاهر أمره. وعندما يقول العلماء: "الإسـلام الحكمي" ويُفرِّقون بينه وبين الإسلام الحقيقي فإنّهم لا يُدخلون مُظهر الشرك العابد لغير الله في إطار "الإسـلام الحكمي" بل يجعلونه كافراً أصلياً أو مرتدّاً، ولا يقولون: "ثبت إسلامه الحكمي بالنطق بكلمة التوحيد، وشركه لا يؤثر في إسلامه" كما يقوله أهل الإرجاء، بل إنّ مرادهم من "الإسـلام الحكمي" هو ما يصير به المرء مسلماً في الظاهر، وهو قبول كلمة التوحيد لفظاً ومعنىً، وترك الشرك بالله والبراءة من كلّ دين خالف ذلك. فالمؤمن الصادق صحّ إسلامه الحكمي لأنّه أظهر دين الله، أي: أظهر إخلاص العبادة لله وتركَ الشرك. والمنافق صحّ إسلامه الحكمي لأنّه أظهر دين الله، أي: أظهر إخلاص العبادة لله وتركَ الشرك. والعابد لغير الله لم يصحّ إسلامه الحكمي لأنّه لم يُظهر دين الله، أي أنّ المؤمن والمنافق يُظهران ديناً واحداً وإن اختلفا في الإيمان الباطن. فمدار النجاة في الدنيا هي إظهار الإخلاص وتركُ الشرك، ومدار النجاة في الآخرة هي تحقيق الإخلاص والبراءة من الشرك. أما المشرك بالله الناطق بكلمة التوحيد فلم يصحّ إسلامه الحكمي لأنّه لم يُظهر "دين الله" الذي هو عبادة الله بالإخلاص، وإنّما أظهر "دين المشركين" الذين يعبدون مع الله غيره. وهذا ظاهرٌ بيِّنٌ إن شاء الله. ولو كان الإسلام الحكمي يصحُّ من مشركٍ بالله لبيّن ذلك رسل الله الذين طلبوا من أقوامهم أن يقولوا: "لا إله إلاّ الله" فأجابهم الأقوام بأنّهم لا يتركون أبداً عبادة ما كانوا يعبدونه كقوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ. وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾ [الصافات: 35-36]. ﴿أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾ [ص: 5]. ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ﴾ [هود: 53]. لم يقل لهم الرسل: قولوا "لا إله إلاّ الله" يصحّ إسلامكم وإن لم تتركوا الشرك، بل كانوا يقولون كما قال هود عليه السلام: ﴿قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ﴾ [هود: 54-55]. وقال إبراهيم عليه السلام: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 81-82]. وقال محمد عليه الصلاة والسلام: ﴿قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 19]. ومن ذلك يتبيّن لك أنّ دين أهل الإرجاء المعاصر "دينٌ جديد" مخالفٌ لدين الرسل، وذلك الدِّين الجديد ليس الإخلاص وترك الشرك شرطاً في صحته كما صرحوا بذلك مراراً. أما دين الرسل فهو الإخلاص وترك الشرك، وهم بريئون من كلّ عابد لغير الله. قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [سورة الكافرون]. وفرقٌ بعيدٌ بين من دينه عبادة الله مع ترك الشرك، ومن ليست عبادة الله وترك الشرك شرطاً لصحة دينه. فعبادة الله وحده لا شريك له والبراءة من أهل الشرك هي دينُ الرسل عليهم السلام. وعبادة الله مع الشرك وعدم البراءة من أهل الشرك هي دين المرجئة المعاصرة .. فليختر العاقل اللبيب لنفسه ما يراه سبباً لنجاته في الدنيا والآخرة. ﴿وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النور: 46].