(م) القرن الرابع عشر: قال سيد قطب (ت: 1386ﻫ تقريباً) في ظلال القرآن في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾: "إن سفور الكفر والشرّ والإجرام ضروريّ لوضوح الإيمان والخير والصلاح. واستبانةُ سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات. ذلك أن أيَّ غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتدّ غبشاً وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم، فهما صفحتان متقابلتان وطريقان مفترقان ولا بدّ من وضوح الألوان والخطوط. ومن هنا يجب أن تبدأ كلّ حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، يجب أن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين، ووضع العنوان المميّز للمؤمنين والعنوان المميِّز للمجرمين في عالم الواقع لا في عالم النظريات. فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون، بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم، بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان، ولا تلتبس الملامح والسِّمات بين المؤمنين والمجرمين. وهذا التحديدُ كان قائماً وهذا الوضوح كان كاملاً، يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية. فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ومن معه، وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدِّين. ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنَزّل وكان الله سبحانه يُفصِّل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة -ومنها ذلك النموذج الأخير- لتستبين سبيل المجرمين !. وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة المتخلفة من الديانات ذات الأصل السماوي بعد ما بدّلتها وأفسدتها التحريفات البشرية، حيثما واجه الإسلام هذه الطوائفَ والمللَ كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة، وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك، لا يجدي معها التلبيس! ولكن المشقّة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا. إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سَلالات المسلمين، في أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام، يسيطر عليها دين الله وتُحكم بشريعته. ثم إذا هذه الأرض، وإذا هذه الأقوام تهجر الإسلام حقيقة، وتعلنه اسماً. وإذا هي تتنكَّر لمقومات الإسلام اعتقاداً وواقعاً. وإن ظنّت أنها تدين بالإسلام اعتقاداً! فالإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله، وشهادة أن لا إله إلاّ الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله -وحده- هو خالق هذا الكون المتصرّفُ فيه. وأن الله -وحده- هو الذي يتقدّم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله. وأن الله -وحده- هو الذي يتلقَّى منه العباد الشرائعَ ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله. وأيَّما فرد لم يشهد أن لا إله إلاّ الله -بهذا المدلول- فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعدُ. كائناً ما كان اسمه ولَقَبُهُ ونسبه. وأيَّما أرض لم تتحقّق فيها شهادة أن لا إله إلاّ الله -بهذا المدلول- فهي أرض لم تَدِن بدين الله، ولم تدخل في الإسلام بعدُ. وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماءُ المسلمين، وهم من سلالات المسلمين. وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام. ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلاّ الله -بذلك المدلول- ولا الأوطان اليوم تَدين لله بمقتضى هذا المدلول. وهذا أشقّ ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام! أشقّ ما تُعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلاّ الله، ومدلول الإسلام في جانب، وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر.. أشقّ ما تُعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين، وطريق المشركين المجرمين، واختلاط الشارات والعناوين، والتباس الأسماء والصفات، والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق! ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة، فيعكفون عليها توسيعاً وتمييعاً وتلبيساً وتخليطاً. حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام ! تهمة تكفير "المسلمين"!!! ويُصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألةً المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله!. هذه هي المشقّة الكبرى وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بدّ أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل! يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين.. ويجب ألاّ تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحقّ والفصل هوادة ولا مداهنة. وألاّ تأخذهم فيها خشية ولا خوف، وألاّ تُقْعِدُهم عنها لومة لائم، ولا صيحة صائح: انظروا! إنهم يكفِّرون المسلمين! إن الإسلام ليس بهذا التميُّع الذي يظنّه المخدوعون! إن الإسلام بيِّن والكفر بيِّن. الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله –بذلك المدلول- فمن لم يشهدها على هذا النحو، ومن لم يُقمها في الحياة على هذا النحو، فحكم الله ورسولِهِ فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين .. المجرمين. ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ﴾.. أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة، وأن تتمّ في نفوسهم هذه الاستبانة، كي تنطلق طاقاتهم كلُّها في سبيل الله لا تصدُّها شبهة، ولا يعوِّقها غَبَشٌ، ولا يميّعها لَبْسٌ. فإن طاقاتِهم لا تنطلق إلاّ إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم "المسلمون" وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدُّونهم ويصدُّون الناس عن سبيل الله هم "المجرمون".. كذلك فإنهم لن يحتملوا متاعب الطريق إلاّ إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان. وأنهم وقومهم على مفرق الطريق، وأنهم على ملّة وقومهم على ملّة. وأنهم في دين وقومهم في دين: ]وكذلك نفصِّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين[. وصدق الله العظيم.[في ظلال القرآن: م 2- ص 1105].