(ب) القرن الثالث: (1)الإمام أحمد بن حنبل (164ﻫ ـ 241ﻫ) قال الإمام ابن تيمية: "وقد نصَّ أحمد -في رواية أبى طالب- في حرورية كان لهم سهمٌ في قرية فخرجوا يقتلون المسلمين، فقتلهم المسلمون، فأرضهم فيءٌ للمسلمين، فيقسمُ خمُسُه على خمسةٍ، وأربعةُ أخماسهِ للذين قاتلوا يُقسمُ بينهم، أو يجعلُ الأميرُ الخراجَ على المسلمين، ولا يقسَمُ". (الفتاوى: 28/511) قلتُ: "فإذا جعلهم كالكفار وهم ينطقون بالشهادتين ويُصلُّون لأجل تكفير وقتلِ المسلمين، فما ظنُّك بمن يفعلُ أعظمَ من ذلك، ويُشركُ بالله الشركَ الَّذي لا يُغفرُ لِمن مات عليه". (2) قال الإمام محمّد بن إسماعيل البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه (194ﻫ - 256ﻫ): "باب: المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك. لقول النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: (إنك امرؤ فيك جاهلية) وقول الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} النساء: 48. قلت: "قول الإمام واضحٌ لا يحتاج إلى تعليق وهو القول الموافق للكتاب والسنة،وقد خاب وخسر من ظنَّ أنَّه فكرُ الخوارج." وقال في كتاب العلم من صحيحه: "باب العلم قبل القول والعمل": قال الله تعالى: "فاعلم أنّه لا إله إلا الله" فبدأ بالعلم قبل القول و العمل. قال الحافظ: قال بن المنير: أراد به أنّ العلم شرط فى صحة القول والعمل، فلا يُعتبران إلا به فهو متقدّم عليهما. (فتح الباري: 1|العلم) قلتُ: "وهذا ردّ على من زعم َأنّ اشتراط العلم لصحة كلمة الشّهادة بدعة" ومذهب الإمام البخاري يظهر واضحا من أبواب كتابه، فهو يجعلُ المسألة عنوان باب، ثمّ يورد الحجّة والدليل: قال: "كتابُ استتابة المرتدين و المعاندين وقتالهم": ثمّ ساق الآيات والآثار الّتي منها: قصة إحراق عليّ للغلاة الّذين ألَّهُوه وكانوا يقولون"لا إله إلا الله. و قال: باب: "قتل من أبى قبول الفرائض، وما نُسبوا إلى الرّدّة"، ثمّ أورد حديث أبى هريرة في مناظرة أبى بكر لعمر و الصحابة ثمّ إجماعهم على قتال المرتدين الّذين كانوا يقولون: لا إله إلا الله" ويصلّون. فظهر من الترجمة والدليل تأييده لمذهب الصحابة. وكذلك فعل في باب قتال الخوارج قال: "باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجّة عليهم". ثمّ أورد حديث عليّ وحديث أبى سعيد الخدريّ. قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذين الحديثين: "واستُدلّ به لمن قال بتكفير الخوارج، وهو مقتضى صنيع البخاريّ حيث قرنهم بالملحدين، وأفرد عنهم المتأوّلين بترجمة". ا ﻫ قلتُ: "فإذا ثبت أنّه كان يرى تكفير النّاطقين بالشهادتين من مانعي الزّكاة والخوارج، فهل من المعقول أنّهُ كان يوالى المشركين لأجل نطقهم بها" (3) الامام إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني -صاحب الشافعي- (175 -264 ﻫ): ولو شهد عليه شاهدان بالردة فأنكره قيل إن أقررت بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتبرأ من كل دين خالف دين الاسلام لم يكشف عن غيره وما جرح أو أفسد في ردته أخذ به وإن جرح مرتدا ثم جرح مسلما فمات فعلى من جرحه مسلما نصف الدية. (4) وقال الإمام محمد بن جرير الطبري (224-310ﻫ): القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ يقولُ جلَّ ثناؤه: فإن رجع هؤلاء المشركون الّذين أمرتكم أيُها المؤمنون بقتلهم عن كفرهم وشركهم بالله إلى الإيمان به وبرسوله، وأنابوا إلى طاعته، وأقاموا الصلاة المكتوبة، فأدُّوها بحدودها، وآتوُا الزكاة المفروضة أهلها ﴿فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ يقولُ: فهم إخوانكم في الدّين الَّذي أمرتكم به، وهو الإسلام ﴿وَنُفَصِّلُ الآَيَاتِ﴾ يقولُ: ونُبَيِّنُ حجج الله وأدلَّته على خلقه ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ ما بُيِّنَ لهم فنشرحها لهم مفصلة دون الجهال الَّذين لا يعقلون عن الله بيانه، ومحكم آياته. قلتُ: "لم يزد الإمام على أن أكّد ما دلَّ عليه ظاهر الآية، من اشتراط التوبة من الشرك لانعقادِ الأُخوةِ الدينيَّة". وقال في تفسير قوله تعالى: ﴿حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ﴾ من سورة الممتحنة: يقولُ: حتى تُصدِقوا بالله وحده، فتُوحدوه، وتُفردوه بالعبادة. فبيَّنَ هنا: أنَّ إيمانَ المرءِ لا يصحُّ حتى يُفردَ العبادةَ لله أي: حتى يَترُكَ الشركَ بالله. وبيَّن في سورة "البيِّنة" سببَ تكفير اللهِ لأهلِ الكتاب النَّاطقين بكلمة التَّوحيد فقال: وما أمر الله هؤلاء اليهود والنَّصارى الَّذين هم أهلُ الكتاب، إلا أن يعبدوا الله مخلصين له الدِّين: يقولُ: مُفردين له الطاعة، لا يُخلطون طاعتهم ربَّهم بشركٍ، فأشركت اليهودُ بربِّها بقولهم: إنَّ عزيرا ابنُ الله، والنَّصارى بقولهم في المسيح مثل ذلك، وجحودهم نُبوَّةَ محمَّد صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم. (5) قال الإمامُ أحمد بن محمّد الطحاويّ (239ﻫ - 321ﻫ): فقد ذهب قوم إلى أن من قال لا إله إلا الله فقد صار بها مسلما له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين واحتجوا في ذلك بهذه الآثار وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا لهم لا حجة لكم في هذا الحديث لأن رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم إنما كان يقاتل قوما لا يوحدون الله تعالى فكان أحدهم إذا وحد الله علم بذلك تركه لما قوتل عليه وخروجه منه ولم يعلم بذلك دخوله في الإسلام أو في بعض الملل التي توحد الله تعالى ويكفر بجحدها وغير ذلك من الوجوه التي يكفر بها أهلها مع توحيدهم لله. فكان حكم هؤلاء أن لا يقاتلوا إذا وقعت هذا الشبهة حتى تقوم الحجة على من يقاتلهم وجوب قتالهم فلهذا كف رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عن قتال من كان يقاتل بقولهم لا إله إلا الله فأما من سواهم من اليهود. فإنا قد رأيناهم يشهدون أن لا إله إلا الله ويجحدون بالنبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فليسوا بإقرارهم بتوحيد الله مسلمين إن كانوا جاحدين برسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فإذا أقروا برسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم علم بذلك خروجهم من اليهودية ولم يعلم به دخولهم في الإسلام لأنه قد يجوز أن يكونوا انتحلوا قول من يقول إن محمدا رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم إلى العرب خاصة. وقد أمر رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم علي بن أبي طالب حين بعثه إلى خيبر وأهلها يهود بما: حدثنا يونس قال ثنا بن وهب قال أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لما دفع الراية إلى علي حين وجهه إلى خيبر قال أمض ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك فسار علي شيئا ثم وقف ولم يلتفت فصرخ يا رسول الله على ماذا أقاتل قال قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله. قال أبو جعفر ففي هذا الحديث أن رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قد كان أباح له قتالهم وإن شهدوا أن لا إله إلا الله حتى يشهدوا مع ذلك أن محمدا رسول الله لأنهم قوم كانوا يوحدون الله ولا يقرون برسول الله فأمر رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عليا بقتالهم حتى يعلم خروجهم مما أمر بقتالهم عليه من اليهودية كما أمر بقتال عبدة الأوثان حتى يعلم خروجهم مما قوتلوا عليه وليس في إقرار اليهود أيضا بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ما يجب أن يكونوا مسلمين, ولكن النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أمر بترك قتالهم إذا قالوا ذلك لأنه قد يجوز أن يكونوا أرادوا به الإسلام أو غير الإسلام فأمر بالكف عن قتالهم حتى يعلم ما أرادوا بذلك. كما ذكرنا فيما قد تقدم من حكم مشركي العرب. وقد أتى اليهود إلى رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فأقروا بنبوته ولم يدخلوا في الإسلام فلم يقاتلهم على إبائهم الدخول في الإسلام إذ لم يكونوا عنده بذلك الإقرار مسلمين. (إلى أن ذكر الحديث الّذي فيه): "فقبلوا يده وقالوا نشهد أنك نبي قال: فما يمنعكم أن تتبعوني قالوا إن داود دعا أن لا يزال في ذريته نبي وإنا نخشى إن اتبعناك أن تقتلنا اليهود قال أبو جعفر ففي هذا الحديث أن اليهود قد كانوا أقروا بنبوة رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم مع توحيدهم لله فلم يقاتلهم رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم حتى يقروا بجميع ما يقر به المسلمون فدل ذلك أنهم لم يكونوا بذلك القول مسلمين وثبت أن الإسلام لا يكون إلا بالمعاني التي تدل على الدخول في الإسلام وترك سائر الملل. وقد روى عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ما يدل على ذلك: حدثنا يونس قال أخبرنا بن وهب قال أخبرني يحيى بن أيوب عن حميد الطويل عن أنس بن مالك أن رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم. قال أبو جعفر فدل ما ذكر في هذا الحديث على المعنى الذي يحرم به دماء الكفار ويصيرون به مسلمين لأن ذلك هو ترك ملل الكفر كلها وجحدها. والمعنى الأول من توحيد الله خاصة هو المعنى الذي نكف به عن القتال حتى نعلم ما أراد به قائله الإسلام أو غيره حتى تصح هذه الآثار ولا تتضاد. فلا يكون الكافر مسلما محكوما له وعليه بحكم الإسلام حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويجحد كل دين سوى الإسلام ويتخلى منه . كما قال رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فيما: حدثنا حسين بن نصر قال ثنا نعيم بن حماد قال ثنا مروان بن معاوية قال ثنا أبو مالك سعد بن طارق بن أشيم عن أبيه قال سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يقول أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويتركوا ما يعبدون من دون الله فإذا فعلوا ذلك حرمت علي دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى. حدثنا بن مرزوق قال ثنا عبد الله بن بكر قال ثنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال قلت صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يا رسول الله ما آية الإسلام قال أن تقول أسلمت وجهي لله وتخليت وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتفارق المشركين إلى المسلمين فلما كان جواب رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لمعاوية بن حيدة لما سئل عن آية الإسلام أن تقول أسلمت وجهي لله وتخليت وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتفارق المشركين إلى المسلمين وكان التخلي هو ترك كل الأديان إلى الله ثبت بذلك أن كل من لم يتخل مما سوى الإسلام لم يعلم بذلك دخوله في الإسلام وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهم أجمعين. (معاني الآثار: 3/314)