خامساً : تمييز دين الرسل من دين اللفظيين قد يتوهّم بعض الناس أنّ الخلاف الذي بين الموحّدين وبين أهل الإرجاء هو اختلافٌ في شروط الدخول في الإسلام، ولكن من عرف حقيقة مذهبهم أدرك أنّ الاختلاف الذي بين الطائفتين أبعدُ غوراً من ذلك، وأنّه اختلافٌ في "حقيقة دين الإسلام". إنّ الطائفتين على طرفي نقيض أو مفرق طريق في فهم حقيقة الإسلام. فبينما يقول الموحّدون: إنّ الإسلام -الذي هو دين الرسل- هو قبول المعنى الذي تحمله كلمة "الشهادة" مع النطق بِها. وأنّ الذي ينفعه قول "لا إله إلاّ الله" هو الذي يريد بِها الدخول في دين الإسلام الذي هو: "أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً" ويريد البراءة من كل دين خالف ذلك. يدل على ذلك ما قاله الله تعالى في بيان حقيقة الإسلام المطلوب من العباد: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5]. قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64]. وقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "الإسلام هو أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً". [متّفق عليه]. وقد دعت كل الرسل إلى هذا الدِّين. قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25]. وقال: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]. بينما يقول الموحّدون ذلك. يقول أهل الإرجاء: إنّ الإسلام هو "قول لا إله إلاّ الله". وإن كان القائل في الشرك الأكبر، وكلّ قائل بِها يحكم بإسلامه، وإن لم يتبرّأ من دين الشرك وتنفعه الكلمة في الدنيا والآخرة. فمن قال كلمة التوحيد وأخلص العبادة لله فهو على دين الإسلام، ومن قالها وهو على الشرك بالله فهو على دين الإسلام. فدين الإسلام عندهم هو قول الكلمة وليس للإخلاص والشرك تأثيرٌ وجوداً وعدماً. فتبيّن من ذلك أنّ هناك طريقين متضادين ومذهبين متباينين. وتحتّم على من أراد أن يقوِّم الفكر المنحرف لأهل الإرجاء قبل كل شيء أن يقنعهم بضلالهم عن معرفة حقيقة الإسلام وأنّه أكبر من قول اللسان. أما الدخول معهم في جدال حول شروط الدخول في الإسلام مع الاختلاف البيّن في فهم حقيقة الإسلام المطلوب دخوله فلا يأتي بنتيجة طيّبة، لأنّ الطائفتين تنطقان بلفظ واحد هو "الإسلام" ولكن تقصدان من اللفظ الواحد معنيين مختلفين. فإسلام الأولين هو: قول الكلمة مع قبول المعنى و ترك الشرك بالله. وإسلام الأخرين هو: قول الكلمة سواء أشرك أو لم يشرك. فهما على دينين مختلفين وإن اتّفق اللفظ. ولذا إذا أرادت الطائفتان الكلام عن حكم قومٍ يعبدون غير الله ويقولون لا إله إلاّ الله: فإنّ الأولى: تقول: إنّهم مشركون، وقول الكلمة لا ينفعهم لنقضهم معناها، والألفاظ لم توضع إلاّ للمعاني، وليست مقصودة بذاتها كما تقرّر في الأصول. والثانية: تقول: إنّهم على الإسلام، لإنّ الإسـلام هو الكلمة. ومن هنا يتبيّن مفرق الطريق واختلاف الملّتين.