(ثانيا) بيانُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم للمسألة: لما كانت سنَّةُ النبيّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وهديُهُ العملي تفسيراً للقُرآن وتفصيلاً لما أجملَهُ لم يكُن من الجائز الظنُّ بأنَّ السُّنةَ جاءت بما يُعارضُ ما دلَّت عليه الآياتُ دلالةً واضحةً، لأنَّهُ من مقتضى اعتقادِنا بأنَّهُ رسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أن نجزمَ بأنَّهُ أولُ من آمن بالقُرآن واتَّبعَهُ. ومن تدبَّر السنَّة وجدها تُبيِّنُ هذا الموضُوع كتبيين القُرآن له وتؤكِدهُ توكيداً لا يدعُ لأحدٍ مجالاً للشكِّ أو التوهم. ويكفي طالبَ الحقِّ أن يتدبَّر وجهاً واحداً مما يأتي من أوجه الأدلَّة التي سأَسرِدها كأمثلة للبيان النبويّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لهذه المسألة: (الوجه الأول): ثبت في الصحيح عن النبيّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنَّهُ قال: "أُمرتُ أن أُقاتل النّاس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول" وفي بعض الروايات: "حتى يقولوا". وثبت كذلك أنَّهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قال: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبدُ من دون الله حَرُمَ ماله ودمُه وحسابُه على الله عزَّ وجلَّ". وثبت كذلك أنَّهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قال: "بُني الإسلام على خمسٍ على أن يُعبدَ الله ويكفر بما دونه وإقام الصَّلاة وإيتَاء الزّكاة وحجّ البيت وصوم رمضان". فيتبيَّنُ من هذه الأحاديث: (1) أنَّهُ لا يصحُّ من المشركِ إسلامٌ حتى يشهدَ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله. أي حتى يُعلنَ براءتَهُ من الشرك، وذلك أنَّ قوله: "لا إله إلا الله" نفيٌ لوجودِ آلهةٍ تستحقُّ العبادة فهو نفيٌ للشرك بالله وكذا شهادتُهُ بأن محمداً رسول الله إعلانٌ بإيمانه بما جاء به محمدٌ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم من عند الله، وأول ذلك التوحيد ونفيُ الشركِ. فاشتراطُ الحديث لشهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله كاشتراط الآية للتوبة من الشرك. وقد أخطأ خطأً بيّناً من ظنَّ بأنَّ التوبة المطلوبة ليست تركَ الشرك بالله وإنما هو مجرّد التلفظ بكلمة التوحيد، واستدلَّ بإيراد العلماء في دواوين السنّة والتفاسير هذا الحديث عند تفسير قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا﴾. وهذا من بلادة الفِكرِ لأنَّ الحديث يدل على نفي الشرك ودلَّت الآية كذلك على اشتراط التوبة من الشرك ولا توبةَ بدون الانخلاع منه وهذا أمرٌ مجمع عليه بين أهل العلم بالتفسير. (2) ويتبيَّنُ كذلك أنَّ النبيَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم اشترط النطق بالشهادتين -أو ما يقوم مقامهما- لمن أراد الدخول في الإسلام كما دلَّ على ذلك الحديث الأول. واشترط كذلك "الكُفر بما يُعبَدُ من دون الله" كما دلَّ على ذلك الحديثان الأخيران. ومن تمَّسك بالشرطِ الأول وادَّعى عدم صحَّةِ إسلام المشرك حتى ينطق بالشهادتين، وحاول إلغاء الشرط الثاني وهو "الكُفر بما يُعبَدُ من دون الله" فقد ظهرَ تلاعبُهُ بالأدلَّةِ وتمسكُه بما يوافِقُ هواه وردُّه ما عدا ذلك. فلابُدَّ للمسلم من اعتبار الشرطين الثابتين في الأحاديث، ولا بُدَّ له بمقتضى ذلك ألاّ يُصحِّحَ إسلامُ الذي لا يتوبُ من الشِركِ ولا يَكفُر بما يُعبدُ من دون الله. (الوجه الثاني) قال النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في غزوة بنى قريظة لما جئ بسعد بن معاذ: "هؤلاء نزلوا على حكمك". فقال: "تَقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم". قال: "قضيتَ بحكمِ اللهِ". وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صلى النَّبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم الصبح قريباً من "خيبر" بغلس ثم قال: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحةِ قومٍ فساءَ صباحُ المنذرين، فخرجوا يسعون في السِكك، فَقَتل النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم المقاتلة وسبى الذرّية، وكان في السبي صفية. في هذين الحديثين دِلالة بيّنة على أنَّ النبيَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم كان يُقاتل اليهود ويقتلهم ويسبيهم وكانوا يزعمون الإيمان بالله ويقولون "لا إله إلا الله"، وأنَّه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لم يجعل ادّعاءَهم ونطقَهم بقول "لا إله إلا الله" عاصماً لدمهم ومالهم، إذ كان ذلك الزعمُ والنطقُ منهم وهم متلبِّسُون بالكفرِ الأكبر كتقديم طاعة الأحبار على طاعة الله والاستكبار عن أوامرِ الله وتكذيب النبي الأخير صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم. ولذلك فرَّق الفقهاء –إقتداءً بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم - بين من يقول لا إله إلا الله في كفره كأهل الكتاب. وبين من يأبى قولها إلاّ إذا أرادَ الإسلام وتركَ الشِركِ بالله كما كان حال الوثنيين؛ الذين مضت السنَّةُ فيهم بأن يُكفَّ عنهم إذا قالوا كلمةَ التوحيدِ ولو في حال الحرب، كما جاء ذلك واضحاً في أحاديثٍ ثابتةٍ صحيحه كحديث أسامة بن زيد والمقداد بن عمرو رضي الله عنهم. (الوجه الثالث) في حديث عليّ رضي الله عنه يرفعه إلى النبيّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "سيخرج قومٌ آخر الزمان، أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البريَّة لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السَّهمُ من الرَّمِيةِ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنَّ في قتلهم أجراً لمن قتلهم يومَ القيامة". وفي حديث أبى سعيد الخدريّ رضي الله عنه يرفعه إلى النبيّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "يقرؤون القرآن لا يُجاوز حلوقهم –أو حناجرهم-". أجمع العلماء على أنَّ أولئك الخوارج الذين أمر النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بقتلهم قوم يزعمون الإيمانَ والإسلامَ. ومع اجتِهادِهم العظيم في العبادات؛ وقراءتهم للقرآنِ المشحونِ بقول لا "إله إلا الله"؛ وإظهارِهم أركانَ الإسلامِ؛ لم يجعلهم معصومي الدماء وإن توقف البعض عن تكفيرهم وكفَّرهم البعضُ. وسببُ هذا الاتّفاقِ على قتلهم؛وهم يشهدون الشهادتين ويصلّون ما هو إلا ذلك البيانُ النبويُّ الصريح.