(ثالثا) بيان مذهب الصَّحابة في المسألة: إنّ صحابةَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لم يكونوا يتحرَّجُون من تكفير وقتل من ظهر كفرُه بالله وبرسوله وإن كان ذلك الكافر ممن يُظهرُ شعائرَ الإسلامِ ويدَّعِي الإيمانَ بالله. فقد كان مذهبُهم: "تكفيرُ من كفرَ بالله، وعدمُ اعتبارِ زعمِهِ وادّعائِه مادام مصرّاً على كفرٍ صريحٍ. وكذلك كان مذهبُهم جهادَ الكفَّارِ من أيِّ صنفٍ كانوا". وكلُّ من له نظرٌ في الأدلّةِ لا يشكُّ في كونِ الصحابةِ على هذا المذهبِ. وإليك من الأدّلةِ الصحيحةِ ما يكفي لبيان ذلك: [الدليل الأول] إنّ الله قد وصف الصحابة بطاعة الله ورسوله وبيّن أنّه قد رضي عنهم بإيمانهم وصدقهم في العمل ابتغاء وجه الله. {*3} قال الله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [التوبة: 71]. وقال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾[التوبة:100] وقال تعالى:﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ [التوبة: 117]. وقال تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: 18]. ولم يكن الصحابة رضوان الله عليهم ليستحقُّوا هذا الوصف الكريم وهم غير منقادين لأدلّة الكتاب والسنّة التي دلّت على أنَّ الإنسان قد يكون كافراً عند الله وهو يزعم الإيمان، وأنّ من كفر بالله يُعامَلُ معاملةَ الكفرةَ وإن كان مُظهراً للإيمان ولشعائر الإسلام.بل نجزم بأنّهم قد نالوا رِضى الله بسبب انقيادهم وطاعتهم المطلقة لله ولرسوله وقيامهم بأمر الله على أكمل الوجوه. [الدليل الثاني] لما تُوفي رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ارتدّ كثير من قبائل العرب عن الإسلام وكانوا متنوّعين في الردّة، كان منهم من رجع إلى عبادة الأصنام وكفر برسالة الرسول صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، وكان منهم من صدَّق الكذّابين المتنبِّئين ولم يُنكر التوحيدَ ورسالةَ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، ولم يقع بين الصحابة اختلاف في تكفير هذين الصنفين من المرتدين وقتالهم. ولكن كان من المرتدين قومٌ ثَبتُوا على التوحيد وتصديق رسالة النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم إجمالاً ولكنّهم منعوا الزكاة، وتأوّل بعضهم أنّ دفعها كان إلى النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم خاصةً، فإذا مات صاحبها فقد رجع الحقُّ إلى أهل الأموال. واشتبه على بعض الصحابة أمرُ أولئك، ورأوا تركَ قتالهم وتأليفَهم، مستدلّين بالحديث الآمر بالكفّ عن الناس "... حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فإذا قالوها عصموا منِّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها وحسابهم على الله". فردَّ الصِّدِّيقُ عليهم قائلاً: "فإنّ الزكاةَ من حقِّها"، "والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة"، "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لقاتلتُهم على منعه". فثاب الصحابةُ إلى قول الصّدِّيق ورأوا أنّ الحقَّ معه، وأجمعوا على قتالِ جميعِ أصنافِ المرتدين،ونصرهم الله عليهم.والقصّةُ في الصحيحين. فإذا كان الصَّحابةُ قد ذهبُوا من الدنيا وهم مُجمَعُون على تكفير وقتل مانع الزكاة وإن كان بريئاً من الشرك والكفر إلاّ منعَ الزكاة، وإن كان يقول "لا إله إلاّ الله" ويصلِّي، فكيف يُظَنُّ بهم عدمَ تكفيرِ المشركِ بالله شركاً أكبرَ إذا كان يُظهر التوحيد وشعائر الإسلام، أليس من البيّن الواضح أنّ إظهارَ التوحيدِ وشعائرِ الإسلامِ إذا كانَ يعصمُ المشركَ من التكفيرِ والقتلِ لَعَصَمَ مانعَ الزكاة من ذلك في زمن أفضل قرونِ الأمّةِ على الإطلاق. فثبت أنّ مذهبَ الصحابةِ هو تكفيرُ من كفرَ بالله، وعدمُ اعتبارِ ما يدَّعِيهِ وما يُظهرهُ من الشعائر حتى يرجعَ عن ذلك. [الدليل الثالث] روى البخاريّ في الصحيح عن عكرمة مولى ابن عبّاس قال: أُتِي عليٌّ رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابنَ عبّاس فقال: لو كنت أنا لم أُحرِّقهم لنهي رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم "لا تُعذِّبوا بعذاب الله"، ولقتلتهم لقولِ رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "من بدّل دينهُ فاقتلوه" ومما قيلَ في تعريفِ أُلئك الزنادقةِ، أنّهم أصحابُ ابنِ سبأ، وأنّهم ألّهوا عليّاً فاستتابهم، فلمّا أصرُّوا أحرقهم بالنَّار. فتأمّل هذه القصّة: وقعَ قومٌ في الشركِ الأكبر، وهم ينتسبون إلى الإسلام وينطقون بالشهادتين، فلم يلتفت أحدٌ من الصحابة إلى الانتساب والنُّطق، بل كفَّروهم وقتلوهم وإن اختلفوا في صفةِ القتلِ. [الدليلُ الرّابع] عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: من فارق الدنيا على الإخلاصِ لله وحده، وعبادتهِ لا يُشركُ به شيئاً، فارقها والله عنه راضٍ"، قال: قال أنس: هو دينُ الله الّذي جاءت به الرُّسلُ، قبلَ هرجِ الأحاديثِ، واختلافِ الأهواءِ، وتصديقُ ذلك في كتاب الله في آخرِ ما أنزل الله، قال الله"فإن تابوا وأقاموا الصّلاة وآتَوُا الزّكاة فخلُّوا سبيلهم" قال: توبتهم خلعُ الأوثان، وعبادةُ ربِّهم وإقام الصلاةِ وإيتاءِ الزّكَّاة. (أخرجه الطبري) قلتُ: "الآيةُ والحديثُ وتفسيرُ الصّحابيّ يدلُّ على أنَّ الانخلاع من الشرك والتّوبةَ منه شرطٌ في صحةِ إسلامِ المرءِ وقَبولِ أعمالهِ الصالحة"