بسم الله الرحمن الرحيم ردُّ التحريف عن مبادئ الدِّين الحنيف مقدّمة: الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلّى اللهُ على مُحمّد وعلى آله وصحبه وسلّم أجمعين. أمّا بعد: فإنّ الله -عزّ وجلّ- قد تكفّل بحفظ الذكر فلا يُصيبُهُ تبديلٌ ولا تغييرٌ، وقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر:9). فدلَّ ذلك على أنَّ العقيدة الإسلامية وغيرها مما قرَّرهُ الله في كتابه من مبادِئ وتوجيهات وأحكام محفوظة، لا يُصيبُهُ تبديلٌ ولا تغييرٌ. غير أنّ البشر همُ الذين يبتعدُون عن الكتاب المحفوظ فيَضلُّون تارة، ويفيئُون إليه فيهتدُون تارة أخرى. ومن الحقائق التّاريخيّة أنّهُ قد ظهر في المجتمع الإسلامي في قُرُونه الأولى أفكارٌ مُنحرفة بين الإفراط والتفريط في مسائل الإيمان والصفات، والقدر والصحابة. وأنّهُ كان قد قامت على هذه الأفكار فرقٌ كثيرة، تزعُمُ كلُّ منها أنّها على الحقِّ، وكانت كُلُّ فرقة منها تتشعَّبُ إلى فرقٍ مُختلفة مُتنافرة. وكان أهلُ الحقِّ في أحيان كثيرة قلّة من الرجال، يُعاديهم أصحابُ السُلطان، و"علماء السُّوء"، والعامّة المسخّرة لهم، المنخدعُون بأقاويلهم المُضلّة. ولكنّ الحقَّ كان دائما يظهرُ، ويغلبُ الباطل في آخر الجولات، ولو بعد قرن أو قرُون. إنّ الحقَّ أقوى من كُلِّ باطل، مهما انتفش وأظهر القوّة والزينة والعدد والعُدّة وظنّ ضُعفاءُ البصيرة أنّهُ لا يزُولُ ولا يبيد. إنّ الحقَّ يستمدُّ سُلطانه من الله ﴿وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (التوبة:32). وقد كان من الأفكار الجديدة والبدع المحدثة بدعةُ الإرجاء واعتقادُ أنّهُ "لا يضرُّ مع الإيمان ذنبٌ، والمُذنب كامل الإيمان ومصيرهُ الجنّة". فنشأ من ذلك الاستهانة بالذنُوب وتشجيع الفساق وتسويغ النِّفاق. وكان هذا الفكرُ كردِّ فعل لمذهب الخوارج الذي سبقه في الظهُور والذي كان تعظيم خُطُورة الذنب، والحُكم على صاحب الكبيرة بالردّة بمجرّد الفعل. وقد كان فكرُ الخوارج يعملُ في القرن الأول والثاني ثُمّ ضعُف وصار شُبه مُنقرض. أمّا فكرُ الإرجاء فقد كان ينتشرُ ويتطوّر حتى ظنّ غالبُ النّاس أنّه المذهب الحقّ، مذهب أهل السنّة والجماعة. ولقد حذّر عُلماء السلف من الإرجاء في زمنهم، وشدّدُوا النكير عليه، ومما يُروى عنهم في ذمّ أهل البدع عامّة، والمرجئة خاصّة ما يأتي: قال وكيع بن الجراح: "القدرية يقولون الأمر مستقبل وأن الله لم يقدّر الكتابة والأعمال، والمرجئة يقولون: "القول يجزئ من العمل". والجهمية يقولون: "المعرفة تُجزئ من القول والعمل، وهو كلُّه كفرٌ". وقال سعيد بن جبير: "المرجئة يهودُ القبلة". وقيل لسفيان الثوري: "أصلِّي خلف من يقول: الإيمان قول بلا عمل؟ فقال: "لا ولا كرامة". وقال إبراهيم النخعيّ عن المرجئة: "لفتنتهم أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة. (والأزارقة فرقة من الخوارج). (نقلا من كتاب الإيمان، من فتاوى ابن تيمية). والإرجاء الحديث ليس كالقديم، الذي قيل فيه ما تقدّم إنّهُ أعظمُ وأخطرُ من ذلك بكثير إنّهُ تخفيف الشرك الأكبر باعتقاد أنّهُ "لا يضرُّ مع الإيمان شركٌ أكبر، ولا يضرُّ مع النُّطق بالشهادتين شركٌ ظاهر". ثُمّ جاء أهلُ الإرجاء الحديث بمذهب "التعطيل"، تعطيلُ أدلة أحكام النّاس وتحريف النُّصُوص عن مواضعها، لتُداهنَ المذهبَ الباطل حتى صار المُشركُ العابد لغير الله كالمسلم عندهم. لقد عُرف في القديم مذهبُ "التعطيل" الذي جاءت به "الجهميّة" وغيرهم، وكان مقصُورا في الصفات حيثُ قالُوا عن الله عزَّ وجلَّ: "هو عليمٌ بلا علمٍ" و"قدير بلا قُدرة".. إلخ. وفسرُوا غضب الله بإرادة الانتقام، ومحبّتهُ بإرادة الثواب، فاستحقُّوا بذلك اسم "المُعطِّلة" أيْ: "مُعطّلة الصفات" أو "مُؤوّلة الصفات". والتعطيلُ الحادث -اليوم- هو في باب أحكام النّاس ويقُومُ على اعوجاج في الفكر وقُصُور في الفهم يُوجبُ تجريد الصفّة من الموصُوف حتى يقال: "هذا شركٌ أكبر، وليس الفاعلُ بمُشرك" و"عبادة القبُور شركٌ أكبر وليس العبّادُ بمشركين" و"الديمقراطيّة كُفرٌ أكبر ومُعتنقوها مسلمُون" و"التشريعُ من دون الله كُفرٌ أكبر والمُشرِّعُون مُسلمُون" ..وهكذا. ولا ندرِي ما الّذي يحُولُ بينهم وبين القول بأنَّ: "اليهُوديةُ كُفرٌ وليس اليهُود بكُفار"، و"النصرانيةٌ كُفرٌ وليس النّصارى بكُفار" و"الزنا ذنبٌ وليس الزاني بمذنب"... إلخ. والمقصُود من هذه الرسالة هو بيانُ هذا النّوع من الضلال وتصحيحُ المفاهيم المنحرفة، وردُّ الجهالات والتحريفات التي أدخلُوها في فهم مبادئ العقيدة الأساسيّة، والتي يُعتمدُ عليها في معرفة أحكام الناس إلى الكتاب والسنَّة (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (الأنفال:42). وسمَّيتُ الرسالة بـ"ردّ التحريف عن مبادئ الدِّين الحنيف" وهي تتكوّنُ من ثلاثة فُصُول: وفصلها (الأول) بيانٌ للمبادئ التي حُرِّفت عن مواضعها أو حاولُوا تحريفها وعرضتُ البيانَ في صُورة سُؤال وجواب. والفصلُ (الثاني) بيانٌ لخطّة أعداء الدين في تدمير الدين. والفصلُ (الثالثُ) هو نقد لـ"منهج جماعة الاعتصام" وبيان ما دخلهُ من تعطيل وتناقض لتذكيرهم، وتحذير غيرهم منه. (والحمدُ لله ربِّ العالمين، ولا حول ولا قُوّة إلا به) (17من المحرّم 1435هـ)