(ثانيا) خطَّةُ العصرِ: إنّ من درس كتاب الله وسُنّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم دراسة مُتأنّية واعية، ودرس التّاريخ الإسلامي، ودرس ما بذلهُ أعداءُ الإسلام على مدار التّاريخ من جُهُود، لعرقلة مسيرة الإسلام، تتجلّى لهُ حقيقتان كبيرتان. (الحقيقة الأولى) إنَّ أعداءَ الإسلام قد علمُوا أنَّهم عاجزُون عن أمرين، هُما: (الأول) تغيير الأصلين، الكتاب والسنّة، والتصرُّف فيهما بزيادة أو نقصٍ. إنَّهم لا يجرؤُون على ذلك، لعلمهم بأنّها مُحاولةٌ فاشلة، لا تُحقِّقُ لهم أملهم، الذي هو تدمير الإسلام، والقضاءُ عليه. قال اللهُ تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) (الثاني) إنكار مبادئ الإسلام الأساسيّة، التي تُميِّزُ أهلَ الإيمان من أهلِ الكُفرِ، وذلك لوضُوح أدلّتها، وكثرة وُرُودها في القُرآن والسُنّة. فهُم لا يقدرُون على إنكار أنّ المطلُوب من العبد هو: "أن يُؤمن بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر"، أو إنكار أنّ "الإيمان والكُفر ضدّان"، أوأنَّ "الجاهل لا يُعذرُ في أصْلِ الإيمان"، أو "أنَّ التّوحيدُ لفظٌ ومعنى"، أو أنَّ "التّوبة من الشرك شرطٌ للدُخُول في الإسلام"، أو أنَّ "منْ عرفَ الإيمانَ عرفَ الكُفرَ"، أو أنَّ "لكُلِّ طائفة مُمتنعة حُكمٌ شرعيٌّ"، أو أنْ "لا طاعة للحاكم والسيِّد الكافر"، أو غير ذلك من مبادئ الإسلام الأساسيّة. (الحقيقة الثانية) إنَّ خطّة التدمير من الداخل، التي يسيرُون عليها في هذا العصر، تقُومُ على قاعدتين: (الأولى) الاعترافُ بالحقِّ، وتقرير صحّة المبدإ، لكسب ثقة طلَّاب الحقِّ. (الثانية) سلبُ معناهُ بالتحريف والتعطيل، وإماتتُه عند تفسيره، ومعارضتُه بمبدإ يُناقضُهُ، ليُحيط به الغُمُوض من كُلِّ جانب، ويكُون عديم التأثير، فلا يصلُحُ لأن يكُون أساسا لمنهج حياة، ولا بيانا فاصلا بين أهلِ الإيمان وأهلِ الكُفر. وقد نجحُوا في ذلك، نجحُوا في تفسير مبادِئ الدِّين تفسيرًا مُتناقضا، يهدمُ آخرهُ أولهُ، ويأخُذُ بشماله ما يُعطِيْ بيمينه، حتى صار العالم كالعامي لا يقدرُ على الفصلِ في مسألة عقدية، لملازمة النَّفي والإثبات لكُلِّ مسألة منها، كمن يقُولُ في كُلِّ مسألة (لا) و(نعم) في آنٍ واحدٍ. فصار البابُ الوحيد المفتُوح لهم، أن يُقالَ في كُلِّ مسألة عقدية: "هذا واردٌ، وهذا واردٌ كذلك"، أو "هذا جائز عند الشيخ فلان، وليس بجائز عند فلان". وقد مرّ بك قول سيّد قطب رحمهُ الله: "ودسُّوا ولبسوا في التفسير القرآني حتى تركوه تيها لا يكاد الباحث يفيء فيه إلى معالم الطريق". لقد صار مُنتهى علم العُلماء والدكاترة، الذين نجحت فيهم خطّة أعداء الدِّين تناقُضا وتلبيسا، وقد صار علمُهم في مسائل الدِّين الأساسيّة المُفرِّقة بين أهلِ الإيمان وأهلِ الكُفر، كما يأتي: 1) "الكُفرُ ضدُّ الإيمان ويُخرجُ من الملّة، وليس الكُفرُ بضدّ الإيمان ولا يُخرجُ من الملّة". 2) "النُّطقُ بالشهادتين يُبطلُهُ الشركُ الأكبرُ، والنُّطقُ بالشهادتين لا يُبطلُه شيءٌ". 3) "الشركُ الأكبرُ مُخرجٌ من الملّة، وليس الشركُ الأكبرُ بمُخرجٍ من الملّة". 4) "الإنسانُ يخرُجُ من الملّة بفعلِ الكُفر بدُون استحلال، والإنسانُ لا يُخرجُ من الملّة بفعلِ الكُفر بدُون استحلال". 5) "الحاكمُ بغير ما أنزل اللهُ كافرٌ بالله، وليس كافرًا بالله". 6) "التحاكمُ إلى غير شرعِ الله كُفرٌ أكبر ينقُضُ الإيمان، والتحاكمُ إلى غير شرعِ الله كبيرةٌ لا تنقُضُ الإيمان". 7) "الإنسانُ يخرُجُ من الملّة بموالاة الكُفار، والإنسانُ لا يَخرجُ من الملّة بموالاة الكُفار". 8) "الكافرُ المُنتسب إلى ملّة الإسلام كغير المُنتسب في الدنيا والآخرة، وهو كالمسلم في الدنيا والآخرة ". 9) "تكفيرُ من كفرهُ اللهُ حقٌّ، وتكفيرُ من كفرهُ اللهُ باطلٌ". 10) "العملُ بالديمقراطية والعلمانية كُفرٌ أكبر ينقُضُ الإيمان، وهو أمرٌ مشرُوعٌ ولا ينقُضُ الإيمان". هكذا انتهت مواقف العُلماء والدكاترة من المبادئ الدينيّة الأساسيّة المُفرِّقة بين أهلِ الإيمان وأهلِ الكُفر. ومن أخطأ في فهمِ هذه المبادئ الأساسيّة، لا يُرجى منهُ أن يأتيَ بمنهج حيوي صحيح، أو أن يقف موقفا صحيحا في القضايا التي تحتاجُ إلى حسمٍ. لأنّ المبادئ التي تُحدِّدُ وتُصحِّحُ المناهج والمواقف، صارت غامضة مُتناقضة عنده. خُذ لذلك مثلا، مسألة إظهار النُّطق بالشهادتين مع الشرك الأكبر، لقد كانت واضحة في السلف والأئمّة، لم يُروَ من اختلف فيه، وأجوبتهم واضحة غير مُعقَّدة، يقولون: = إذا كان كافرا أصليا كاليهُود، فليس بمُسلم بالنُّطق بالشهادتين، حتى يتبرّأ مما خالف الإسلام. = وإذا كان في الأصل مُسلما فقد ارتدَّ ويُستتاب. هذا هو الجوابُ الصحيح لأهلِ الإيمان الصحيح، جوابٌ واضحٌ حاسم لا لُبس فيه. أمّا أهلُ التلبيس والتناقُض، من العُلماء والدكاترة، فإنّهم إذا أرادُوا بيان حُكم إظهار النُّطق بالشهادتين مع الشرك الأكبر، يكُونُ جوابهم الأخير، بعد إطالة الكلام في "قيل وقال": "قد يكُونُ مُسلما، وقد يكُونُ كافرا مرتدا"، أو "بابُ التكفير عظيم، ولا نعدلُ بالسلامة شيئا". سُئل شيخٌ منهم في مجلس مُناظرة، عمن يُصرُّ على الشركِ الأكبر، وهو يزعُمُ أنَّهُ مُسلمٌ؟. فأجاب: "ندعُوهُ إلى التَّوحيد!!". فقيل: "دعوناهُ ودعوناه فأصرّ على الشرك"، فقال: "نُكرِّرُ الدعوة!!". فقيل: "أرأيْتَ إن مات على ذلك؟."، فأجابَ: "يدخُلُ الجنّة بما معهُ من الإيمان!!". وانظُرْ كذلك إلى مسألة "طاعة الحاكم الكافر"، فقد أجمع عُلماءُ الإسلام، أنّهُ لا طاعة لهُ، إذا كفر. وفي الصحيحين مرفُوعا: "إلا أن تروا كُفرًا بواحًا عندكم فيه من الله بُرهان". جوابٌ واضحٌ حاسمٌ. ثُمّ انظُرْ إلى أقوال دكاترة العصر، يقُولُون: "إنَّ الحاكم ربّما لا يعلمُ أنّ هذا كُفرٌ". أو "تكفير المُعيَّن لا يجُوزُ". أو "نُكفِّرُهُ بعد إقامة الحُجَّة". ثُمّ يُظهرُون مسألة أخرى فيقُولُون: "إقامة الحجّة للقضاة ولأصحاب السُلطان، ونحنُ دُعاة لا قُضاة". فانظُرْ إلى هذا التيه!!، وإلى هذا الاضطراب الفكري!!، يُرادُ بيانُ حُكم الحاكم المُظهرِ للكُفرِ، فأُحيلت المسألةُ إلى الحاكم المُظهِر للكُفر ليفصل فيها!!. فهل يحلُّ أن يُنسب ذلك إلى دين الله!!، وهل هُناك تلبيسٌ فوق هذا التلبيس!!. إنّ معنى ذلك هو: "اترُكُوا الحُكام يكفُرُون، ولا تخرُجُوا من طاعتهم!!"، وهذا هو التلبيس المطلُوب، حتى لا يكُون للمُسلم طريقٌ للتحرُّر من أهلِ الكُفر. وحتى يكُونَ الكُفرُ والإسلامُ كشيء واحد في عُرْفِ النّاس، وحتى يأمن اليهُودُ وأذنابهم من عودة الإسلام، وبناء منهج الحياة على مبادِئه.