(الفصلُ الثاني): خطة التدمير من الداخل (أولا) خطرُ اليهُود: لقد اشتهرت اليهُود بالكيد اللئيم، وبذل الجُهُود الجبَّارة، لصرف الحقِّ عن العباد، لتظلّ الجماهير البشرية في شُرُود وضلال عن الله، ولتكُون العقيدة كنزًا لهم يحتكرُونه، ويستأثرُونه لأنفسهم من دُون النَّاس، حتى لا يجدَ غيرُ اليهُود البصيرة والقُوّة والحيوية، التي تمنحُها العقيدةُ لأهلها. وصار تدميرُ العقائد والأديان عن غير اليهُود غايتهُم، وصار لهم منهجٌ ذو مراحلٍ للوصُولِ إلى تلك الغاية، وهو ما يُسمُّونهُ بخطّة "حصان طروادة". وهي قصة إغريقية، خلاصتُها أنّ الإغريق صنعُوا حصانا ضخما أجوفَ، مصنُوعا من أخشابٍ قوية، وشحنُوهُ برجال مُسلّحين، وقدّمُوهُ هدية إلى أهل "طروادة"، التي طال حصارها عليهم، ثمّ تظاهرُوا بالانسحاب. فلما انخدع أهلُ "طروادة"، الذين كانُوا يُقدّسُون تمثال الحصان، وظنُّوهُ آية السلام، وأدخلُوهُ البلد في احتفال كبير، نزل المسلّحون من جوف الحصان، في ظلام الليل، وفتحُوا أبواب البلد للغُزاة، فأعملُوا فيهم السيف، وقتلُوا الرجال، وسبوا النساء والذراري. فالقصّة عندهم رمزٌ لخطّة "التدمير من الداخل". فاليهُودُ يُدمِّرون الأديان بهذه الخطّة الماكرة، يتظاهرُون باعتناق الدِّين، ويتعلّمُونهُ حتى يُعترف لهم بالعلم والفضل، ثُمَّ يدخلُون في مرحلة تالية، هي تغيير العقيدة، وإيقاع مُعتنقيها في تيهٍ لا يستطيعُون الخُرُوج منه. فيُنسبُ إلى اليهُود ما أصاب "النصرانية" من الانحراف والارتداد إلى الوثنية في وقت مُبكِّر، وتأليه عيسى عليه السلام من دون الله. كما يُنسبُ إليهم حركة "ابن سبأ"، الذي كان من أصل يهُودي، والذي أحدث بدعة "تأليه علي بن أبي طالب"، بعد نيف وثلاثين سنة من وفاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. وإليك بعضُ المقتطفات المُحذِّرة من خطر اليهُود، من كتاب "في ظلال القرآن": 1) ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً، حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾. وذلك ما يفعله الحقد اللئيم بالنفوس .. الرغبة في سلب الخير الذي يهتدي إليه الآخرون .. لماذا؟. لا لأن هذه النفوس الشريرة لا تعلم. ولكنها لأنها تعلم! (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ). والحسدُ هو ذلك الانفعال الأسود الخسيس الذي فاضت به نفوس اليهود تجاه الإسلام والمسلمين، ومازالت تفيض، وهو الذي انبعثت منه دسائسهم وتدبيراتهم كلها وما تزال. وهو الذي يكشفه القرآن للمسلمين ليعرفوه، ويعرفوا أنه السبب الكامن وراء كل جهود اليهود لزعزعة العقيدة في نفوسهم وردِّهم بعد ذلك إلى الكفر الذي كانوا فيه، والذي أنقذهم اللّه منه بالإيمان، وخصَّهم بهذا بأعظم الفضل وأجل النعمة التي تحسدهم عليها يهود!. ـ اهـ 2) ﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ قال: "كذلك يناديهم مرة أخرى ليفضح ما يقومون به من لبس الحق بالباطل لإخفائه وكتمانه وتضييعه في غمار الباطل، على علم وعن عمد وفي قصد .. وهو أمر مستنكر قبيح! وهذا الذي ندد الله به -سبحانه- من أعمال أهل الكتاب حينذاك، هو الأمر الذي درجوا عليه من وقتها حتى اللحظة الحاضرة .. فهذا طريقهم على مدار التاريخ .. اليهود بدأوا منذ اللحظة الأولى. ثم تابعهم الصليبيون!. وفي خلال القرون المتطاولة دسوا - مع الأسف - في التراث الإسلامي ما لا سبيل إلى كشفه إلا بجهد القرون! ولبسوا الحق بالباطل في هذا التراث كله -اللهم إلا هذا الكتاب المحفوظ الذي تكفل الله بحفظه أبد الآبدين- والحمد للّه على فضله العظيم. دسوا ولبسوا في التاريخ الإسلامي وأحداثه ورجاله. ودسوا ولبسوا في الحديث النبوي حتى قيض الله له رجاله الذين حققوه وحرروه إلا ما ند عن الجهد الإنساني المحدود. ودسوا ولبسوا في التفسير القرآني حتى تركوه تيها لا يكاد الباحث يفيء فيه إلى معالم الطريق. ودسوا ولبسوا في الرجال أيضا. فالمئات والألوف كانوا دسيسة على التراث الإسلامي - وما يزالون في صورة المستشرقين وتلاميذ المستشرقين الذين يشغلون مناصب القيادة الفكرية اليوم في البلاد التي يقول أهلها : إنهم مسلمون. والعشرات من الشخصيات المدسوسة على الأمة المسلمة في صورة أبطال مصنوعين على عين الصهيونية والصليبية، ليؤدوا لأعداء الإسلام من الخدمات ما لا يملك هؤلاء الأعداء أن يؤدوه ظاهرين! وما يزال هذا الكيد قائما ومطردا. وما تزال مثابة الأمان والنجاة منه هي اللياذ بهذا الكتاب المحفوظ والعودة إليه لاستشارته في المعركة الناشبة طوال هذه القرون. ـ اهـ 3) ﴿وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾. وهي طريقة ما كرة لئيمة كما قلنا. فإن إظهارهم الإسلام ثم الرجوع عنه، يوقع بعض ضعاف النفوس والعقول وغير المتثبتين من حقيقة دينهم وطبيعته .. يوقعهم في بلبلة واضطراب. وبخاصة العرب الأميين، الذين كانوا يظنون أن أهل الكتاب أعرف منهم بطبيعة الديانات والكتب. فإذا رأوهم يؤمنون ثم يرتدون، حسبوا أنهم إنما ارتدوا بسبب اطلاعهم على خبيئة ونقص في هذا الدين. وتأرجحوا بين اتجاهين فلم يكن لهم ثبات على حال. وما تزال هذه الخدعة تتخذ حتى اليوم. في شتى الصور التي تناسب تطور الملابسات والناس في كل جيل. ولقد يئس أعداء المسلمين أن تنطلي اليوم هذه الخدعة، فلجأت القوى المناهضة للإسلام في العالم إلى طرق شتى، كلها تقوم على تلك الخدعة القديمة. إن لهذه القوى اليوم في أنحاء العالم الإسلامي جيشا جرارا من العملاء في صورة أساتذة وفلاسفة ودكاترة وباحثين -وأحيانا كتاب وشعراء وفنانين وصحفيين- يحملون أسماء المسلمين، لأنهم انحدروا من سلالة مسلمة! وبعضهم من "علماء" المسلمين!. هذا الجيش من العملاء موجه لخلخلة العقيدة في النفوس بشتى الأساليب، في صورة بحث وعلم وأدب وفن وصحافة. وتوهين قواعدها من الأساس. والتهوين من شأن العقيدة والشريعة سواء. وتأويلها وتحميلها ما لا تطيق. والدق المتصل على "رجعيتها"! والدعوة للتفلت منها. وإبعادها عن مجال الحياة إشفاقا عليها من الحياة أو إشفاقا على الحياة منها! وابتداع تصورات ومثل وقواعد للشعور والسلوك تناقض وتحطم تصورات العقيدة ومثلها. وتزيين تلك التصورات المبتدعة بقدر تشويه التصورات والمثل الإيمانية. وإطلاق الشهوات من عقالها وسحق القاعدة الخلقية التي تستوي عليها العقيدة النظيفة لتخر في الوحل الذي ينثرونه في الأرض نثرا! ويشوهون التاريخ كله ويحرفونه كما يحرفون النصوص! وهم بعد مسلمون! أليسوا يحملون أسماء المسلمين؟. وهم بهذه الأسماء المسلمة يعلنون الإسلام وجه النهار. وبهذه المحاولات المجرمة يكفرون آخره .. ويؤدون بهذه وتلك دور أهل الكتاب القديم. لا يتغير إلا الشكل والإطار في ذلك الدور القديم! وكان أهل الكتاب يقول بعضهم لبعض : تظاهروا بالإسلام أول النهار واكفروا آخره لعل المسلمين يرجعون عن دينهم. ـ اهـ 4) وأحسب -والله أعلم- أنه كان من ثمرة اليأس من هذا الدين أن عدل اليهود والصهيونيون والنصارى الصليبيون عن مواجهة الإسلام جهرة عن طريق الشيوعية أو عن طريق التبشير فعدلوا إلى طرائق أخبث، وإلى حبائل أمكر .. لجأوا إلى إقامة أنظمة وأوضاع في المنطقة كلها تتزيا بزي الإسلام وتتمسح في العقيدة ولا تنكر الدين جملة .. ثم هي تحت هذا الستار الخادع، تنفذ جميع المشروعات التي أشارت بها مؤتمرات التبشير وبروتوكولات صهيون، ثم عجزت عن تنفيذها كلها في المدى الطويل! إن هذه الأنظمة والأوضاع ترفع راية الإسلام - أو على الأقل تعلن احترامها للدين - بينما هي تحكم بغير ما أنزل اللّه وتقصي شريعة اللّه عن الحياة وتحل ما حرم اللّه وتنشر تصورات وقيما مادية عن الحياة والأخلاق تدمر التصورات والقيم الإسلامية وتسلط جميع أجهزة التوجيه والإعلام لتدمير القيم الأخلاقية الإسلامية، وسحق التصورات والاتجاهات الدينية وتنفذ ما نصت عليه مؤتمرات المبشرين وبروتوكولات الصهيونيين، من ضرورة إخراج المرأة المسلمة إلى الشارع، وجعلها فتنة للمجتمع، باسم التطور والتحضر ومصلحة العمل والإنتاج بينما ملايين الأيدي العاملة في هذه البلاد متعطلة لا تجد الكفاف! وتيسر وسائل الانحلال وتدفع الجنسين إليها دفعا بالعمل والتوجيه .. كل ذلك وهي تزعم أنها مسلمة وأنها تحترم العقيدة! والناس يتوهمون أنهم يعيشون في مجتمع مسلم، وأنهم هم كذلك مسلمون! أليس الطيبون منهم يصلون ويصومون؟ أما أن تكون الحاكمية لله وحده أو تكون للأرباب المتفرقة، فهذا ما قد خدعتهم عنه الصليبية والصهيونية والتبشير والاستعمار والاستشراق وأجهزة الإعلام الموجهة وأفهمتهم أنه لا علاقة له بالدين. وأن المسلمين يمكن أن يكونوا مسلمين وفي دين اللّه بينما حياتهم كلها تقوم على تصورات وقيم وشرائع وقوانين ليست من هذا الدين! وإمعانا في الخداع والتضليل وإمعانا من الصهيونية العالمية والصليبية العالمية في التخفي، فإنها تثير حروبا مصطنعة -باردة أو ساخنة- وعداوات مصطنعة في شتى الصور، بينها وبين هذه الأنظمة والأوضاع التي أقامتها والتي تكفلها بالمساعدات المادية والأدبية، وتحرسها بالقوى الظاهرة والخفية، وتجعل أقلام مخابراتها في خدمتها وحراستها المباشرة! تثير هذه الحروب المصطنعة والعداوات المصطنعة، لتزيد من عمق الخدعة ولتبعد الشبهة عن العملاء، الذين يقومون لها بما عجزت هي عن إتمامه في خلال ثلاثة قرون أو تزيد من تدمير القيم والأخلاق وسحق العقائد والتصورات وتجريد المسلمين في هذه الرقعة العريضة من مصدر قوتهم الأول .. وهو قيام حياتهم على أساس دينهم وشريعتهم .. وتنفيذ المخططات الرهيبة التي تضمنتها بروتوكولات الصهيونيين ومؤتمرات المبشرين في غفلة من الرقباء والعيون! فإذا بقيت بقية في هذه الرقعة لم تجز عليها الخدعة ولم تستسلم للتخدير باسم الدين المزيف وباسم الأجهزة الدينية المسخرة لتحريف الكلم عن مواضعه ولوصف الكفر بأنه الإسلام والفسق والفجور والانحلال، بأنه تطور وتقدم وتجدد .. إذا بقيت بقية كهذه سلطت عليها الحرب الساحقة الماحقة وصبت عليها التهم الكاذبة الفاجرة وسحقت سحقا، بينما وكالات الأنباء العالمية وأجهزة الإعلام العالمية خرساء صماء عمياء!!! ذلك بينما الطيبون السذج من المسلمين يحسبون أنها معركة شخصية، أو طائفية، لا علاقة لها بالمعركة المشبوبة مع هذا الدين ويروحون يشتغلون في سذاجة بلهاء - من تأخذه الحمية للدين منهم وللأخلاق - بالتنبيه إلى مخالفات صغيرة، وإلى منكرات صغيرة، ويحسبون أنهم أدوا واجبهم كاملا بهذه الصيحات الخافتة .. بينما الدين كله يسحق سحقا، ويدمر من أساسه وبينما سلطان الله يغتصبه المغتصبون، وبينما الطاغوت -الذي أمروا أن يكفروا به- هو الذي يحكم حياة الناس جملة وتفصيلا! إن اليهود الصهيونيين والنصارى الصليبيين يفركون أيديهم فرحا بنجاح الخطة وجواز الخدعة بعد ما يئسوا من هذا الدين أن يقضوا عليه مواجهة باسم الإلحاد، أو يحولوا الناس عنه باسم التبشير، فترة طويلة من الزمان .. إلا أن الأمل في الله أكبر والثقة في هذا الدين أعمق، وهم يمكرون واللّه خير الماكرين. وهو الذي يقول : ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ، وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ. فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ﴾ ..ـ ا هـ 5) ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾. لقد واجه اليهود الإسلام بالعداء منذ اللحظة الأولى التي قامت فيها دولة الإسلام بالمدينة. وكادوا للأمة المسلمة منذ اليوم الأول الذي أصبحت فيه أمة. وتضمن القرآن الكريم من التقريرات والإشارات عن هذا العداء وهذا الكيد ما يكفي وحده لتصوير تلك الحرب المريرة التي شنها اليهود على الإسلام وعلى رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - وعلى الأمة المسلمة في تاريخها الطويل والتي لم تخب لحظة واحدة قرابة أربعة عشر قرنا، وما تزال حتى اللحظة يتسعر أوارها في أرجاء الأرض جميعا لقد عقد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أول مقدمه إلى المدينة، معاهدة تعايش مع اليهود ودعاهم إلى الإسلام الذي يصدق ما بين أيديهم من التوراة .. ولكنهم لم يفوا بهذا العهد - شأنهم في هذا كشأنهم مع كل عهد قطعوه مع ربهم أو مع أنبيائهم من قبل، حتى قال اللّه فيهم : ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ. أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ؟ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ ولقد أضمروا العداء للإسلام والمسلمين منذ اليوم الأول الذي جمع اللّه فيه الأوس والخزرج على الإسلام، فلم يعد لليهود في صفوفهم مدخل ولا مخرج، ومنذ اليوم الذي تحددت فيه قيادة الأمة المسلمة وأمسك بزمامها محمد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فلم تعد لليهود فرصة للتسلط! ولقد استخدموا كل الأسلحة والوسائل التي تفتقت عنها عبقرية المكر اليهودية، وأفادتها من قرون السبي في بابل، والعبودية في مصر، والذل في الدولة الرومانية. ومع أن الإسلام قد وسعهم بعد ما ضاقت بهم الملل والنحل على مدار التاريخ، فإنهم ردوا للإسلام جميله عليهم أقبح الكيد وألأم المكر منذ اليوم الأول. ولقد ألبوا على الإسلام والمسلمين كل قوى الجزيرة العربية المشركة وراحوا يجمعون القبائل المتفرقة لحرب الجماعة المسلمة : ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا : هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً﴾ ولما غلبهم الإسلام بقوة الحق -يوم أن كان الناس مسلمين- استداروا يكيدون له بدس المفتريات في كتبه -لم يسلم من هذا الدس إلا كتاب اللّه الذي تكفل بحفظه سبحانه- ويكيدون له بالدس بين صفوف المسلمين، وإثارة الفتن عن طريق استخدام حديثي العهد بالإسلام ومن ليس لهم فيه فقه من مسلمة الأقطار. ويكيدون له بتأليب خصومه عليه في أنحاء الأرض .. حتى انتهى بهم المطاف أن يكونوا في العصر الأخير هم الذين يقودون المعركة مع الإسلام في كل شبر على وجه الأرض وهم الذين يستخدمون الصليبية والوثنية في هذه الحرب الشاملة، وهم الذين يقيمون الأوضاع ويصنعون الأبطال الذين يتسمون بأسماء المسلمين، ويشنونها حربا صليبية صهيونية على كل جذر من جذور هذا الدين! وصدق اللّه العظيم". قال: "إن الذي ألب الأحزاب على الدولة المسلمة الناشئة في المدينة وجمع بين اليهود من بني قريظة وغيرهم وبين قريش في مكة، وبين القبائل الأخرى في الجزيرة .. يهودي .. والذي ألب العوام، وجمع الشراذم، وأطلق الشائعات، في فتنة مقتل عثمان -رضي اللّه عنه- وما تلاها من النكبات .. يهودي .. والذي قاد حملة الوضع والكذب في أحاديث رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وفي الروايات والسير .. يهودي .. ثم إن الذي كان وراء إثارة النعرات القومية في دولة الخلافة الأخيرة ووراء الانقلابات التي ابتدأت بعزل الشريعة عن الحكم واستبدال «الدستور» بها في عهد السلطان عبد الحميد، ثم انتهت بإلغاء الخلافة جملة على يدي «البطل» أتاتورك .. يهودي. وسائر ما تلا ذلك من الحرب المعلنة على طلائع البعث الإسلامي في كل مكان على وجه الأرض وراءه يهود! ثم لقد كان وراء النزعة المادية الإلحادية .. يهودي .. ووراء النّزعة الحيوانية الجنسية يهودي .. ووراء معظم النظريات الهدامة لكل المقدسات والضوابط يهود! 6) ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ﴾ "إن أهل الكتاب يعرفون أن هذا الكتاب حق من عند اللّه ويعرفون -من ثم- ما فيه من سلطان وقوة ومن خير وصلاح ومن طاقة دافعة للأمة التي تدين بالعقيدة التي جاء بها وبالأخلاق التي تنبثق منها وبالنظام الذي يقوم عليها. ويحسبون كل حساب لهذا الكتاب وأهله ويعلمون جيدا أن الأرض لا تسعهم وتسع أهل الدين! .. إنهم يعرفون ما فيه من حق، ويعرفون ما هم فيه من باطل .. ويعرفون أن الجاهلية التي صاروا إليها، وصارت إليها أوضاع قومهم وأخلاقهم وأنظمتهم، لا يمكن أن يهادنها هذا الدين، أو يبقي عليها .. وأنها -من ثم- معركة لا تهدأ حتى تجلو الجاهلية عن هذه الأرض، ويستعلي هذا الدين، ويكون الدين كله للّه .. أي أن يكون السلطان في الأرض كله للّه وأن يطارد المعتدون على سلطان اللّه في الأرض كلها. وبذلك وحده يكون الدين كله للّه. إن أهل الكتاب يعلمون جيدا هذه الحقيقة في هذا الدين .. ويعرفونه بها كما يعرفون أبناءهم .. وهم جيلا بعد جيل يدرسون هذا الدين دراسة دقيقة عميقة وينقبون عن أسرار قوته وعن مداخله إلى النفوس ومساربه فيها ويبحثون بجد: كيف يستطيعون أن يفسدوا القوة الموجهة في هذا الدين؟ كيف يلقون بالريب والشكوك في قلوب أهله؟ كيف يحرفون الكلم فيه عن مواضعه؟ كيف يصدون أهله عن العلم الحقيقي به؟ كيف يحولونه من حركة دافعة تحطم الباطل والجاهلية وتسترد سلطان اللّه في الأرض وتطارد المعتدين على هذا السلطان، وتجعل الدين كله للّه .. إلى حركة ثقافية باردة، وإلى بحوث نظرية ميتة، وإلى جدل لاهوتي أو فقهي أو طائفي فارغ؟ كيف يفرغون مفهوماته في أوضاع وأنظمة وتصورات غريبة عنه مدمرة له، مع إيهام أهله أن عقيدتهم محترمة مصونة؟! كيف في النهاية يملأون فراغ العقيدة بتصورات أخرى ومفهومات أخرى واهتمامات أخرى، ليجهزوا على الجذور العاطفية الباقية من العقيدة الباهتة؟! إن أهل الكتاب يدرسون هذا الدين دراسة جادة عميقة فاحصة لا لأنهم يبحثون عن الحقيقة -كما يتوهم السذج من أهل هذا الدين!- ولا لينصفوا هذا الدين وأصله -كما يتصور بعض المخدوعين حينما يرون اعترافا من باحث أو مستشرق بجانب طيب في هذا الدين!- كلا! إنما هم يقومون بهذه الدراسة الجادة العميقة الفاحصة، لأنهم يبحثون عن مقتل لهذا الدين! لأنهم يبحثون عن منافذه ومساربه إلى الفطرة ليسدوها أو يميعوها! لأنهم يبحثون عن أسرار قوته ليقاوموه منها! لأنهم يريدون أن يعرفوا كيف يبني نفسه في النفوس ليبنوا على غراره التصورات المضادة التي يريدون ملء فراغ الناس بها! وهم من أجل هذه الأهداف والملابسات كلها يعرفونه كما يعرفون أبناءهم! ومن واجبنا نحن أن نعرف ذلك .. وأن نعرف معه أننا نحن الأولى بأن نعرف ديننا كما نعرف أبناءنا! إن الواقع التاريخي من خلال أربعة عشر قرنا ينطق بحقيقة واحدة .. هي هذه الحقيقة التي يقررها القرآن الكريم في هذه الآية : ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ﴾ .. ولكن هذه الحقيقة تتضح في هذه الفترة وتتجلى بصورة خاصة .. إن البحوث التي تكتب عن الإسلام في هذه الفترة تصدر بمعدل كتاب كل أسبوع بلغة من اللغات الأجنبية .. وتنطق هذه البحوث بمدى معرفة أهل الكتاب بكل صغيرة وكبيرة عن طبيعة هذا الدين وتاريخه، ومصادر قوته، ووسائل مقاومته، وطرق إفساد توجيهه! ومعظمهم -بطبيعة الحال- لا يفصح عن نيته هذه فهم يعلمون أن الهجوم الصريح على هذا الدين كان يثير حماسة الدفاع والمقاومة وأن الحركات التي قامت لطرد الهجوم المسلح على هذا الدين -الممثل في الاستعمار- إنما كانت ترتكز على قاعدة من الوعي الديني أو على الأقل العاطفة الدينية وأن استمرار الهجوم على الإسلام -ولو في الصورة الفكرية- سيظل يثير حماسة الدفاع والمقاومة! لذلك يلجأ معظمهم إلى طريقة أخبث .. يلجأ إلى إزجاء الثناء لهذا الدين، حتى ينوم المشاعر المتوفزة، ويخدر الحماسة المتحفزة، وينال ثقة القارئ واطمئنانه .. ثم يضع السم في الكأس ويقدمها مترعة .. هذا الدين نعم عظيم .. ولكنه ينبغي أن يتطور بمفهوماته ويتطور كذلك بتنظيماته ليجاري الحضارة «الإنسانية» الحديثة! وينبغي ألا يقف موقف المعارضة للتطورات التي وقعت في أوضاع المجتمع، وفي أشكال الحكم، وفي قيم الأخلاق! وينبغي -في النهاية- أن يتمثل في صورة عقيدة في القلوب، ويدع الحياة الواقعية تنظمها نظريات وتجارب وأساليب الحضارة «الإنسانية» الحديثة! ويقف فقط ليبارك ما تقرره الأرباب الأرضية من هذه التجارب والأساليب .. وبذلك يظل دينا عظيما ..!!! وفي أثناء عرض مواضع القوة والعمق في هذا الدين -وهي ظاهريا تبدو في صورة الإنصاف الخادع والثناء المخدر- يقصد المؤلف قومه من أهل الكتاب لينبههم إلى خطورة هذا الدين، وإلى أسرار قوته ويسير أمام الأجهزة المدمرة بهذا الضوء الكشاف، ليسددوا ضرباتهم على الهدف. وليعرفوا هذا الدين كما يعرفون أبناءهم! إن أسرار هذا القرآن ستظل تتكشف لأصحابه جديدة دائما كلما عاشوا في ظلاله وهم يخوضون معركة العقيدة ويتدبرون بوعي أحداث التاريخ ويطالعون بوعي أحداث الحاضر. ويرون بنور اللّه. الذي يكشف الحق، وينير الطريق .. 7) فهذا هو مسجد الضرار الذي أمر اللّه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ألا يقوم فيه، وأن يقوم في المسجد الأول -مسجد قباء- الذي أقيم على التقوى من أول يوم، والذي يضم رجالا يحبون أن يتطهروا. ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾. هذا المسجد -مسجد الضرار- الذي اتخذ على عهد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - مكيدة للإسلام والمسلمين، لا يراد به إلا الإضرار بالمسلمين، وإلا الكفر باللّه، وإلا ستر المتآمرين على الجماعة المسلمة، الكائدين لها في الظلام، وإلا التعاون مع أعداء هذا الدين على الكيد له تحت ستار الدين .. هذا المسجد ما يزال يتخذ في صور شتى تلائم ارتقاء الوسائل الخبيثة التي يتخذها أعداء هذا الدين تتخذ في صورة نشاط ظاهره للإسلام وباطنه لسحق الإسلام، أو تشويهه وتمويهه وتمييعه! وتتخذ في صورة أوضاع ترفع لافتة الدين عليها لتتترس وراءها وهي ترمي هذا الدين! وتتخذ في صورة تشكيلات وتنظيمات وكتب وبحوث تتحدث عن الإسلام لتخدر القلقين الذين يرون الإسلام يذبح ويمحق، فتخدرهم هذه التشكيلات وتلك الكتب إلى أن الإسلام بخير لا خوف عليه ولا قلق!. وتتخذ في صور شتى كثيرة. اهـ 8) ﴿وكذلك نفصِّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين﴾ "وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماءُ المسلمين، وهم من سلالات المسلمين. وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام. ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلاّ الله -بذلك المدلول- ولا الأوطان اليوم تَدين لله بمقتضى هذا المدلول. وهذا أشقّ ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام ! أشقّ ما تُعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلاّ الله، ومدلول الإسلام في جانب، وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر .. أشقّ ما تُعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين، وطريق المشركين المجرمين، واختلاط الشارات والعناوين، والتباس الأسماء والصفات، والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق ! ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة، فيعكفون عليها توسيعاً وتمييعاً وتلبيساً وتخليطاً. حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام ! تهمة تكفير "المسلمين"!!! ويُصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألةً المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله!. هذه هي المشقّة الكبرى وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بدّ أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل ! يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين .. ويجب ألاّ تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحقّ والفصل هوادة ولا مداهنة. وألاّ تأخذهم فيها خشية ولا خوف، وألاّ تُقْعِدُهم عنها لومة لائم، ولا صيحة صائح: انظروا ! إنهم يُكفِّرون المسلمين ! إن الإسلام ليس بهذا التميُّع الذي يظنّه المخدوعون! إن الإسلام بيِّن والكفر بيِّن .. الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله -بذلك المدلول- فمن لم يشهدها على هذا النحو، ومن لم يُقمها في الحياة على هذا النحو، فحكم الله ورسولِهِ فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين .. المجرمين .. ]وكذلك نفصِّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين[ أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة، وأن تتمّ في نفوسهم هذه الاستبانة، كي تنطلق طاقاتهم كلُّها في سبيل الله لا تصدُّها شبهة، ولا يعوِّقها غَبَشٌ، ولا يميّعها لَبْسٌ. فإن طاقاتِهم لا تنطلق إلاّ إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم "المسلمون" وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدُّونهم ويصدُّون الناس عن سبيل الله هم "المجرمون" . كذلك فإنهم لن يحتملوا متاعب الطريق إلاّ إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان. وأنهم وقومهم على مفرق الطريق، وأنهم على ملّة وقومهم على ملّة. وأنهم في دين وقومهم في دين: ﴿كذلك نفصِّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين﴾. [في ظلال القرآن: م 2- ص 1105].