(الخامس) لكُلِّ طائفة مُمتنعة حُكمٌ شرعيٌّ س1) ما المُرادُ بالطائفة؟ جـ1) الطائفة -في اللغة- الجماعة، أو قسم من جماعة، ولا حد لأكثرها، واختُلف في أقلّها. جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾. قال عطاء: أقله رجلان. وعن الزهريّ، قال: الطائفة : الثلاثة فصاعدا. وقال مُجاهد: الطائفة واحد إلى الألف، ﴿وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما﴾. (من تفسير الطبري) وقال الطبري: "والطائفة: قد تقع عند العرب على الواحد فصاعدا." س2) ما الفرقُ بين الطائفة، والقبيلة، والأمّة؟ جـ2) الأسرةُ أو الجماعة الصغيرةُ طائفةٌ من العشيرة. والعشيرةُ طائفةٌ من القبيلة. والقبيلةُ طائفةٌ من الأمّة. والأمّةُ طائفةٌ من البشر. قال جابر بن عبد الله: فينا نزلت ﴿إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا﴾ الآية، قال: نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة. وعن مجاهد، قوله: ﴿وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ قال: الأوس والخزرج اقتتلوا بالعصيّ بينهم. (الطبري) س3) ما المرادُ بالطائفة المُمتنعة، وهل تُوصفُ بإيمان أو كُفرٍ أو فسق؟ جـ1) الطائفة المُمتنعة هي كُلُّ طائفة بين أفرادها تناصُرٌ وولاء، وقد جعل الإسلامُ لها حُكمًا كُلّيّا، فيُقالُ: "هذه طائفة مُسلمة"، أو"هذه طائفة كافرة"، أو "مُرتدّة"، أو "فاسقة"، أو "باغية". ووصفُ الطائفة بالإيمان وردَ في قوله تعالى: ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾. (النُّور:2) وقوله: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾. (الحجرات:9) ووصفُ الطائفة بالكُفر وردَ في قوله تعالى: ﴿فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ﴾. (الصفّ:14). ووصفُ الطائفة بالبغي وردَ في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ (الحجرات:9) وورد في مواضع كثيرة وصفُ القوم أو القرية بالكُفرِ، أو الظُلم، أو الفسق. كالآيات الآتية: = ﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ (النمل:43) = ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا﴾. (النساء:75) = ﴿قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (21) = ﴿سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾ (الأعراف:145) س4) ما الدليلُ على أنَّ الفرد يُعاملُ بأحكام طائفته، ويُصيبهُ ما أصابهم؟ جـ4) أدلّتها كثيرة جدًّا، وهي من القرآن، والسنَّة، والسيرة، وإليك بعضها: (الدليلُ الأول) هو الآيات الكثيرة الدالّة على أنّ حُكم التّابع هو حُكم المتبُوع في الدُنيا والآخرة، كالأمثلة الآتية: وقال: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ (الزخرف: 54) وقال تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ (الإسراء: 16). وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾ (الأحزاب: 67-68). فتبيَّن من الآيات أنَّ الملأ المُستكبرين وإن كانُوا سبب تدمير القرى، إلا أنَّ الله تعالى لم يُبرِّئ الأتباع، ولم يجعلهم ناجين، بل شاركُوا الملأ فى الحكم، والوصف، والإثم، وعقوبة الدنيا والآخرة. وإذْ لم يفرّق الله -عزَّ وجلَّ- بين "السادة" و"الأتباع" فى الأحكام، فاتّخاذ التفريق بين الصنفين سبيلا ضلالٌ عن صراط الله المستقيم، وردٌّ لدين الله القويم. (الدليلُ الثاني) ما جاء في السنّة فيما لا حصر له من الأحاديث، التي فيها وصفُ القبيلة بالإيمان والصلاح، أو بالكفر والفساد. وإليك بعض الأمثلة: 1) كان النّبيُّ صلى الله عليه وسلم ، يدعُو الله لبعض القبائل لأجل إيمانهم وصلاحهم، كقوله: "أسلم سالمها اللهُ" و"غفار غفر اللهُ لها". وكان يدعُو على بعض القبائل لكفرها وفسادها، كما دعا على رعل وذكوان وعصيّة، قال: "عصت الله ورسُوله". 2) قال حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ رضي الله عنهُ: "كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللّهِ عَنِ الْخَيْرِ. وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ. مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرَ. فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الْخَيْرِ. فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: "نَعَمْ" (متّفق عليه) فلم يُنكِرْ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على حُذيفة، فهو تقرير يدلُّ على صحّة إطلاق الشرّ والجاهلية على أهلِ الشرك والطوائف الكافرة. 3) وعن ابْنِ عَبَّاسٍ أنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ قالُوا للنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَا رَسُولَ اللّهِ! إِنَّا نَأْتِيكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ، وَإِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هذَا الْحَيَّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، وإنّا لا نَسْتَطيع أن نأتيك إلا في شهر الحرام...إلخ". (متّفق عليه) وفيه: إطلاق الكُفر على قبائل مُضر. 4) عَنِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: كَانَتْ ثَقِيفُ حُلَفَاءَ لِبَنِي عُقَيْلٍ، فَأَسَرَتْ ثَقِيفُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ، وَأَسَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ رَجُلاً مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ، وَأَصَابُوا مَعَهُ الْعَضْبَاءَ، فَأَتَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ وَهُوَ فِي الْوَثَاقِ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ فَأَتَاهُ، فَقَالَ: "مَا شَأْنُكَ؟" فَقَالَ: بِمَ أَخَذْتَنِي؟ وَبِمَ أَخَذْتَ سَابِقَةَ الْحَاجِّ؟ فَقَالَ (إعْظَاماً لِذلِكَ) "أَخَذْتُكَ بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِكَ ثَقِيفَ" ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ فَنَادَاهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ رَحِيماً رَقِيقاً، فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: "مَا شَأْنُكَ؟" قَالَ: إنِّي مُسْلِمٌ، قَالَ: "لَوْ قُلْتَهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ، أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلاَحِ" ثُمَّ انْصَرَفَ، فَنَادَاهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ فَأَتَاهُ فَقَالَ: "مَا شَأْنُكَ؟" قَالَ: إنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي، وَظَمْآنُ فَأَسْقِنِي، قَالَ: "هذِهِ حَاجَتُكَ"، فَفُدِيَ بِالرَّجُلَيْنِ. (رواه مسلم). وفيه: أنَّ الفرد المجهُول من القبائل الكافرة، كان يُعاملُ معاملة الكافرين إلا إذا كان قد أعلن إسلامه قبل الوقُوع في أسر المسلمين. 5) وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ نَبِيَّ اللّهِ قَالَ: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْساً. فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ. فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْساً. فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لاَ. فَقَتَلَهُ. فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً. ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ. فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ. فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا. فَإِنَّ بِهَا أُنَاساً يَعْبُدُونَ اللّهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ. وَلاَ تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ" (مُتّفق عليه) قولهُ: (فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ) المراد هو أهل الأرض، ولكثرة سيِّئاتهم صارت أرضهم أرض سُوء. (الدليلُ الثالث) قد عُلم من سيرته صلى الله عليه وسلم ، وخلفائه والأمراء من بعدهم، أنّهم كانوا يغزُون القبائل الكافرة، ويقتلون المجهُولين من أبنائها، فدلّ ذلك على أنَّ حُكمَ القوم يجري على الفرد، ما لم يُظهرْ خلاف ما عليه قومه قبل القتال. وكانوا إذا صالحوا ملكاً كافرًا، واتّفقوا معه على عهدٍ، تركوا له رعيته وحقنوا دماءهم بالعهد. وإذا حاربهم ملكٌ أو سيدُ قبيلة وظهروا عليه كانوا يستبيحون كل شيء في مملكته، ويكون ذلك غنيمة للمسلمين. ولم يكونوا يقولون: ما ذنب النساء والأطفال فإنّهم لم يقاتلوا ولم يكن لهم رأيٌ في الحرب والسلم. فدلّ ذلك على أنَّ حُكمَ القوم يجري على الفرد، ما لم يُظهرْ خلاف ما عليه قومه قبل القتال. وقصة خالد بن الوليد ومجاعة بن مرارة معرُوفة، وهي أنّهُ لما ارتدّت بنُو حنيفة، وغزاها المسلمُون بقيادة خالد، لقي بضع وعشرين رجلا، فلما انتسبُوا إلى بني حنيفة، أمر خالد بقتلهم، فقُتلُوا غير "مجاعة" وآخر. فادّعى مُجاعة أنَّهُ مُسلمٌ، فلم يقبلْ منه خالد. وقال لهُ خالدٌ ما معناهُ: لقد خرجت من الإسلام، لأنّك لم تكُن مستضعفا، وكُنت سيّد قومه، فلم تُنكرْ الردّة الظاهرة، ولم تُهاجرْ إلى المسلمين، ولم تكتُبْ إليهم، فدلّ سُكُوتُك وبقاؤك فيهم، على مُوافقتك لهم. س5) هل شهد تاريخُ الإسلام طوائف ممتنعة كافرة ناطقة بالشهادتين؟ جـ5) لم يخلُ قرنٌ من قُرُون الإسلام من طائفة كافرة ناطقة بالشهادتين، وإن كان بينها اختلافات في نوع الكفر. فقد كان منها من صدَّق بنبوة الكذابين، ومن اعتقد الألوهية لغير الله، ومن اعتقد بوحدة الوجُود، وأنكر التفريق بين الخالق والمخلُوق، ومن امتنع من واجب معلُوم من الدين بالضرُورة، أو استحلَّ مُحرّما معلُوما من الدين بالضرُورة. وإليك أمثلة من ذلك: (القرن الأول) ظهر في القرن الأول بنُو حنيفة وأسد الذين اتّبعُوا الكذابين المتنبئين، وظهر مانعُو الزكاة، وكان لهم قُوّة ومنعة، ولم تقدر الدولة المسلمة، على القضاء عليهم إلا بعد حُرُوب مُريرة دامتْ سنة كاملة، وأخبارهم معرُوفة. والجدير بالذكر أنّ بعض الصحابة اشتبه عليهم أمرُ مانعي الزكاة لتوحيدهم وصلاتهم، ولكنّهم لما جلسُوا للنقاش، فاؤوا إلى قول أبي بكر رضي اللهُ عنهُ. وكان الصحابة على قول واحد، في مُدّة حُرُوب الردّة، ولم يكنْ منهم من يُردِّدُ الشُبهات الرائجة اليوم، مثل قولهم: (من شهد الشهادتين -الشرك الأكبر- فهو المسلم، فحرامٌ دمهُ وماله وعرضه). و(لا يحلُّ تكفيرُ المُعيّنين). و(توفر الشرُوط وانتفاء الموانع قبل إنزال العُقُوبات). و(الإعذار بالجهل)، وغيرها. والسببُ -باختصار- أنّ الصحابة كانوا يعلمُون من شرعِ اللهِ ما يجهله أهلُ الإرجاء والجمُود الذين يُردِّدُون هذه الشُبهات، لإدخال الكفرة الفجرة في حظيرة دين الله الحنيف. (القرن الثاني) 1) وظهر في القرن الثاني "المُقنّع الخراساني"، جاء في "وفيات الأعيان": "المُقنّع الخراساني: وكان يعرف شيئاً من السحر والنيرجات فادعى الربوبية من طريق المناسخة، وقال لأشياعه والذين اتبعوه: إن الله سبحانه وتعالى تحول إلى صورة آدم، ولذلك قال للملائكة: اسجدوا له فسجدوا إلا إبليس فاستحق بذلك السخط، ثم تحول من آدم إلى صورة نوح عليه السلام، ثم إلى صورة واحد فواحد من الأنبياء عليهم السلام والحكماء حتى حصل في صورة أبي مسلم الخراساني -المقدم ذكره- ثم زعم أنه انتقل إليه منه، فقبل قوم دعواه وعبدوه وقاتلوا دونه". قال: "ولما اشتهر أمر المقنع وانتشر ذكره ثار عليه الناس، وقصدوه في قلعته التي كان اعتصم بها وحصروه، فلما أيقن بالهلاك جمع نساءه وسقاهن سماً فمتن منه ثم تناول شربة من ذلك السم فمات، ودخل المسلمون قلعته فقتلوا من فيها من أشياعه وأتباعه، وذلك في سنة ثلاث وستين ومائة، لعنه الله تعالى، ونعوذ بالله من الخذلان. اهـ 2) وظهرت كذلك "الخرمية" الذين استباحُوا المحرّمات، وزعمُوا أنّ النصُوص لا تقصُدُ عين الأشياء المذكورة، بل تقصُدُ معاني غير ظاهرها. جاء في "البداية والنهاية" لابن كثير، في حوادث سنة 192هـ: "وفيها خرجت الخرمية بالجبل وبلاد أذربيجان فوجه الرشيد إليهم عبد الله بن مالك بن الهيثم الخزاعي في عشرة آلاف فارس فقتل منهم خلقا وأسر وسبى ذراريهم وقدم بهم بغداد فأمر له الرشيد بقتل الرجال منهم وبالذرية فبيعوا فيها وكان قد غزاهم قبل ذلك خزيمة بن خازم" (القرن الثالث) 1) وفي أوائل القرن الثالث، اشتدّ أمرُ "الخُرمية"، وكثُر أتباعهم. جاء في "البداية والنهاية"، في حوادث سنة: 218هـ: "وفيها دخل خلق كثير من أهل همذان وأصبهان وماسبذان ومهرجان في دين "الخرمية" فتجمع منهم بشر كثير فجهز إليهم المعتصم جيوشا كثيرة آخرهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب في جيش عظيم وقد له على الجبال فخرج في ذي القعدة وقرئ كتابه بالفتح يوم التروية وأنه قهر الخرمية وقتل منهم خلقا كثيرا وهرب بقيتهم إلى بلاد الروم". 2) وفي منتصف هذا القرن ظهر "صاحب الزنج"، وكثرت أتباعه، واستمال العبيد من الزنُوج ووعدهم بالغلبة والتمكين، واستولى مرّة على البصرة، ودامت الحرُوبُ بينهُ وبين الدولة العباسية أربعة عشر عامّا. جاء في "البداية والنّهاية" لابن كثير، في خبر دخُوله البصرة: قال: " وفي ليلة الرابع عشر من شوال من هذه السنة كسف القمر وغاب أكثره وفي صبيحة هذا اليوم دخل جيش الخبيث الزنجي إلى البصرة قهرا فقتل من أهلها خلقا وهرب نائبها بغراج ومن معه وأحرقت الزنج جامع البصرة ودورا كثيرة وانتهبوها. ـ اهـ وقال عن هزيمتهم لما انتصر عليهم الموفّق: "واستتاب من بقى من أصحاب صاحب الزنج، وأمنهم الموفق، ونادى في الناس بالأمان، وأن يرجع كل من كان أخرج من دياره بسبب الزنج إلى أوطانهم وبلدانهم، ثم سار إلى بغداد، وقدم ولده أبا العباس بين يديه ومعه رأس الخبيث يحمل ليراه الناس، فدخلها لثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة، وكان يوما مشهودا، وانتهت أيام صاحب الزنج المدعي الكذاب قبحه الله. وقد كان ظهوره في يوم الأربعاء لأربع بقين من رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان هلاكه يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، وكانت دولته أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام. ولله الحمد والمنة " ـ اهـ 3) وظهرت دعوة "القرامطة" بالعراق، وكانت كُفرًا وزندقة، وقوي أمرهم، وملكُوا "البحرين"، واستمرّ زمن قوتهم إلى منتصف القرن الخامس، أمّا فتنتهم الاعتقادية فقد استمرّت مُدّة أطول من ذلك. جاء في "البداية والنّهاية" لابن كثير: "ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائتين، فيها جرت وقعة عظيمة بين القرامطة وجند الخليفة، فهزموا القرامطة، وأسروا رئيسهم الحسن بن زكرويه ذا الشامة، فلما أسر حمل إلى الخليفة في جماعة كثيرة من أصحابه من رؤسهم، وأدخل بغداد على فيل مشهور، وأمر الخليفة بعمل دفة مرتفعة، فأجلس عليها، وجيء بأصحابه، فجعل يضرب أعناقهم بين يديه وهو ينظر، وقد جُعل في فمه خشبة معترضة مشدودة إلى قفاه، ثم أنزل فضرب مائتي سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه وكوى ثم أحرق وحمل رأسه على خشبة وطيف به أرجاء بغداد". 4) وفي أواخر القرن الثالث، سنة 297هـ، ظهر بنُو عُبيد القداح، وملكُوا المغرب ثمّ مصر وغيرها، واستمرّت دولتهم إلى مُنتصف القرن السادس. وكانُوا يقيمُون الجمعة والجماعات، ويزعمُون أنّهم من ذرّية فاطمة رضي الله عنها. وكانت العامة تنخدعُ بهم، وذكر العُلماءُ أنّهم كانُوا زنادقة. قال الإمام ابن تيمية في الفتاوى: "وهؤلاء "بنو عبيد القداح" ما زالت علماء الأمة المأمونون علماً وديناً يقدحون في نسبهم ودينهم؛ لا يذمونهم بالرفض والتشيع؛ فإن لهم في هذا شركاء كثيرين؛ بل يجعلونهم "من القرامطة الباطنية" الذين منهم الاسماعيلية والنصيرية، ومن جنسهم الخرمية المحمرة وأمثالهم من الكفار المنافقين، الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر". (القرن الرابع) 1) قوي أمرُ "القرامطة"، وغزا أميرهم أبو طاهر القرمطي مكّة سنة 317هـ وقتلُوا خلقا كثيرا من الحُجاج، واقتلعوا الحجر الأسود، وبقي في أيديهم إلى سنة 339هـ. جاء في "البداية والنّهاية" في حوادث سنة 317هـ: "فيها خرج ركب العراق وأميرهم منصور الديلمي فوصلوا إلى مكة سالمين وتوافت الركوب هناك من كل مكان وجانب وفج فما شعروا إلا بالقرمطي قد خرج عليهم في جماعته يوم التروية فانتهب أموالهم واستباح قتالهم فقتل في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقا كثيرا" "ثم أمر بأن يقلع الحجر الأسود فجاءه رجل فضربه بمثقل في يده وقال أين الطير الأبابيل أين الحجارة من سجيل ثم قلع الحجر الأسود وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم فمكث عندهم ثنتين وعشرين سنة حتى ردوه" 2) استفحل أمرُ بني عُبيد، وملكُوا مصر في منتصف هذا القرن، في سنة 358هـ، وملكُوا كذلك الشام والحجاز مُدّة من الزمن. قال الإمام ابن تيمية: "ولأجل ما كانوا عليه من الزندقة والبدعة بقيت البلاد المصرية مدّة دولتهم نحو مائتي سنة قد انطفأ نور الإسلام والإيمان. حتى قال العلماء: إنّها كانت دار ردّة ونفاق، كدار مسيلمة الكذّاب". (الفتاوى:م 35/ ص: 139). (القرن الخامس) 1) كانت دولة بني عُبيد لا تزالُ قائمة في هذا القرن كلّه. 2) في منتصف هذا القرن سنة 447هـ، انتهت سيطرة القرامطة على "البحرين" وغيرها. (القرن السادس) 1) كانت دولة بني عُبيد قائمة أكثر من ثُلثيْ هذا القرن، إلى أنْ سقطت، في سنة 567هـ، بيد "صلاح الدين الأيُوبي". (القرن السابع) 1) تحوّلت القبائل المغولية الوثنية التي احتلّت المشرق الإسلامي، من نهر السند إلى نهر الفرات، من الوثنية إلى ادّعاء الإسلام، والنُّطق بالشهادتين. ولم يُسلمُوا إسلاما صحيحا، فقد اشتهرُوا بأمرين لا يصحُّ الإسلامُ بدُون تركهما. (الأول) هو العمل بالياسق، وهي شريعة جاهلية، وضعها لهم جدُّهم "جنكز خان". وكانت عبارة عن أحكام مقتبسة من اليهُودية والنّصرانية والملّة الإسلامية، مع أحكام من وضعه وهواه. (الثاني) استحلال دماء المسلمين، وبناء الموالاة على طاعة دولتهم، فمن أطاعها فهو مقرّبٌ وإن كان كافرا، ومن لم يدخُلْ في طاعتها قُتل، ولو كان من أصلح النّاس. وإليك بعض ما قالهُ الإمام ابن تيمية في وصفهم، وكان مُعاصرا لهم، قال: "فإنّ عسكرهم مشتملٌ على أربع طوائف: 1) كافرة باقية على كفرها من الكرج والأرمن والمغل. 2) وطائفة كانت مسلمة فارتدت عن الإسلام وانقلبت على عقبيها من العرب، والفرس والروم وغيرهم. وهؤلاء أعظمهم جرماً عند الله وعند رسوله والمؤمنين من الكافر الأصلي من وجوه كثيرة. 3) وفيهم أيضاً من كان كافراً فانتسب إلى الإسلام ولم يلتزم شرائعه من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحجّ البيت، والكفّ عن دماء المسلمين وأموالهم، والتزام الجهاد في سبيل الله، وضرب الجزية على اليهود والنصارى وغير ذلك. .... إلى أن قال: 4) وفيهم صنف رابع شرّ من هؤلاء وهم قوم ارتدّوا عن شرائع الإسلام وبقوا مستمسكين بالانتساب إليه. فهؤلاء الكفّار المرتدّون والداخلون فيه من غير التزام لشرائعه والمرتدّون عن شرائعه لا عن سمته: كلّهم يجب قتالهم بإجماع المسلمين حتى يلتزموا شرائع الإسلام وحتى لا تكون فتنة ويكون الدّين كلّه لله". (اهـ بتصرف) (القرن الثامن) 1) امتدت دولة التتار الناطقين بالشهادتين، من أواخر القرن السابع إلى الثلث الأول من القرن الثامن، وكان سُقُوطها سنة 736هـ. وإليك ما قالهُ عنهم الإمامُ "ابنُ كثير (701ﻫ ـ 774ﻫ)، وكان مُعاصرا لهم: في تفسيره عند قوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾. "يُنكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شرّ. وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم. وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم (جنكيز خان) الذي وضع لهم "الياسق" وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد أقتبسها عن شرائع شتى من اليهودية، والنصرانية، والملّة الإسلامية وغيرها، وفيها كثيرٌ من الأحكام أخذها من مجّرد نظره وهواه. فصار في بنيه شرعاً متّبعاً، يُقدِّمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليلٍ ولا كثيرٍ" ـ اهـ 2) وفي أواخر هذا القرن، ظهرت موجة التتار الثانية، يقودها تيمُور لنك، ولم يكُونُوا بأفضل من التتار الأولين. وقد دمّر تيمُور جميع الممالك والسلطات الإسلامية القائمة، وأباد الخلق. قال المقريزي في "السُلُوك"، عن "تيمور لنك": "وملك عامة بلاد العراق وخراسان‏.‏ وسمرقند والهند وديار بكر وبلاد الروم وحلب ودمشق وخرب مدن العالم وحرقها وهدم بغداد وأزال نعم الناس وكان قاطع طريق‏. أول ظهوره سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة‏". ـ اهـ ‏ (القرن التاسع) 1) ابتدأ هذا القرن وتيمُور يعيثُ في الأرض فسادا، وانتظمت لهُ البلاد بعد مجازر مُروعة، من الهند إلى الأناضُول. قال ابن حجر العسقلاني، (773ﻫ - 852ﻫ)، وكان مُعاصرًا لهم، بعد أن سرد أخبار حُرُوبه: "فلما كان في سنة أربع وثمانمائة قصد بلاد الروم فغلب عليها وأسر صاحبها، ومات في الاعتقال. ودخل الهند فنازل مملكة المسلمين حتى غلب عليها، وكان مغرى بغزو المسلمين وترك الكفار، وصنع ذلك في بلاد الروم، ثم في بلاد الهند؛ وكان شيخا طوالا شكلا مهولا طويل اللحية، حسن الوجه، بطلا شجاعا، جبارا، غشوما، ظلوما سفاكا للدماء، مقداما على ذلك، وكان أعرج، شلت رجله في أوائل أمره. وكان يصلي من قيام، وكان جهير الصوت، وكان يسلك الجد مع القريب والبعيد، ولا يحب المزاح، ويحب الشطرنج وله فيها يد طولى، وزاد فيها جملا وبغلا وجعل رقعته عشرة في أحد عشر، وكان فيها ماهرا وكان لا يلاعبه به إلا الأفراد، وكان يقرب العلماء والصلحاء والشجعان والأشراف وينزلهم منازلهم ولكن من خالف أمره أدنى مخالفة استباح دمه، فكانت هيبته لا تدانى بهذا السبب، وما أخرب البلاد إلا بذلك لأنه كان من أطاعه في أول وهلة أمن، ومن خالفه أدنى مخالفة وهن. وكان له فكر صائب ومكايد في الحرب عجيبة وفراسة قل أن تخطئ، وكان عارفا بالتواريخ لإدمانه على سماعه، لأنه لا يخلو مجلسه عن قراءة شيء منها سفرا وحضرا، وكان مغرى بمن له معرفة بصناعة ما إذا كان حاذقا بها، وكان أميا لا يحسن الكتابة، وكان حاذقا باللغة الفارسية والتركية والمغلية خاصة. وكان يُقدم قواعد "جنكز خان"، ويجعلها أصلا، ولذلك أفتى جمعٌ جمٌّ بكُفره مع أن شعائر الإسلام في بلاد ظاهرة". ـ اهـ (انباء الغمر) وجاء في "النجوم الزاهرة": "لما استولى على بغداد، ألزم جميع من معه، أن يأتيه كل واحد منهم برأسين من رؤوس أهل بغداد، فوقع القتل في أهل بغداد وأعمالها، حتى سالت الدماء أنهارًا حتى أتوه بما أراد فبنى من هذه الرؤوس مائة وعشرين مئذنة‏.‏ فكانت عدة من قتل في هذا اليوم من أهل بغداد تقريبًا مائة ألف إنسان - وقال المقريزي‏:‏ تسعين ألف إنسان - وهذا سوى من قتل في أيام الحصار، وسوى من قتل في يوم دخول تيمور إلى بغداد، وسوى من ألقى نفسه في الدجلة، فغرق وهو أكثر من ذلك‏.‏ قال‏:‏ وكان الرجل المرسوم له بإحضار رأسين، إذا عجز عن رأس رجل، قطع رأس امرأة من النساء، وأزال شعرها، وأحضرها قال‏:‏ وكان بعضهم يقف بالطرقات ويصطاد من مر به ويقطع رأسه‏. قال: "وكانت وفاة تيمور في ليلة الأربعاء سابع عشر شعبان سنة سبع وثمانماثة" ـ اهـ ­­­ (القرُون التالية) كانت الأحوال تهبطُ إلى السفُول، من سيئْ إلى أسوأ، وغلب شركُ الاعتقاد على الساحة -وكان قد ابتدأ في أزمان بعيدة- حتى صار هو المعرُوف، ولذا لما جاء الإمامُ محمّد بن عبد الوهاب بدعوة التَّوحيد، في القرن الثاني عشر، عُدَّ من الخوارج، بينما صار أنصارُ الشرك والجاهلية، حُماة الدين والسنّة في عُرف البيئة. ثُمّ كانت حملاتُ الغربيّين، وما تلا ذلك من الاستعمار، والغزو الفكري حتى صار تقليدُهم، وتقديمُ مبادئهم الجاهلية آية التحضُّر. ولم تكُن المُصيبة النَّازلة مجيءَ الأعداء الأقوياء، وإنّما كانت غيبةُ العقيدة الصحيحة من النُّفُوس، وإضفاء صفة الإسلام على غير أهله، فظهرت أمّة واحدة تتكوّنُ من ملاحدة ويهُود ونصارى، ومُدّعين للإسلام، تحملُ شعارًا واحدا، هو التعايش السلمي، وتنمية الحياة الدُنيا، وإحياء الإنسانية، وخلق المودّة بين الجميع، وإهمال التكاليف الدينية، والتحرُّر من قُيُودها. س6) إذا تمالأت طائفةٌ على خيرٍ أو شرٍّ، وباشرها بعضُها، هل الثواب أو العُقُوبة عامّةٌ أم على المُباشرين؟ جـ6) الطائفةُ المجتمعةُ على الخير كالجهاد، تُعتبرُ كشخص واحد، فتُقسمُ لها الغنيمة بالسوية، ومن غاب عن المعركة لمصلحة الجيش، لهُ حقُّهُ في الغنيمة. والطائفةُ المجتمعةُ على الفساد كقطع الطريق، تُعتبرُ كشخص واحد فيما أتلفُوه، ويُعاقبُ الجميع، ولا ينجُوا من العقاب من كان يُعاونها بالرأي أو المال، ولم يُباشر القتل والنّهب. والطائفةُ المجتمعةُ على الكُفرِ، والقبيلة الكافرة، تُعتبرُ كشخص واحد، ويُقاتلها المسلمُون في الجهاد، من قاتل منها ومن لم يُقاتل، وتُؤخذُ النساءُ والصبيان أسارى. قال الإمام ابن تيمية: "وكذلك لو غنم الجيش غنيمة شاركته السرية، لأنها في مصلحة الجيش، كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم لطلحة وسعيد يوم بدر. لأنه كان قد بعثهما في مصلحة الجيش. فأعوانُ الطائفة الممتنعة وأنصارُها منها، فيما لهم وعليهم، وهكذا المقتتلون على باطل لا تأويل فيه، مثل المقتتلين على عصبية ودعوى جاهلية كقيس ويمن ونحوهما ظالمتان. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال أراد قتل صاحبه أخرجاه في الصحيحين. وتضمن كل طائفة (ما) أتلفته للأخرى من نفس ومال وإن لم يعرف عين القاتل لأن الطائفة الواحدة الممتنع بعضها ببعض كالشخص الواحد" اهـ (الفتاوى:28/309) وقال ابن مفلح في "الفرُوع": "الطائفةَ الممتنعةَ كشخص واحد فِيما أتلفوه". اهـ ويلحق بالطائفة الممتنعة الطائفة المتمالئة المتفقة على عمل ما. عن سعيد ابن المسيب: "أن إنسانا قُتل بصنعاء، وأن عمر قتل به سبعة نفر. وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا" (الدارقطني، وابن أبي شيبة) س7) ما حُكم من كان في طائفة كافرة أو فاسقة وهو ليس منها في كفرها أو فسقها؟ جـ7) المُسلمُ إذا رأى المُنكر، وجب عليه إنكارُهُ على حسب استطاعته، إمّا باليد، أو باللسان، أو بالقلب، كما جاء في الحديث: (من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعفُ الإيمان). (مسلم). فمن أدَّى الّذي عليه، أو كان في طائفة لا يعلمُ بما تمالأت عليه من الشرِّ، فهو معذُور عند الله، ويُبعثُ على نيّته. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يُخسف بأولهم وآخرهم". قالت: قلت: "يا رسول الله كيف يُخسفُ بأوَّلهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟". قال: "يُخسفُ بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم". (متفق عليه). وأهلُ الحقِّ مأمُورُون بقتال الطائفة الممتنعة الكافرة، ولم يُؤمرُوا بالتفتيش عن القُلُوب، فإن قتلُوا مُكرها، ومن ليس من الطائفة، وإنّما وافقهم في سيرِه على الطريقِ، فهم معذُورُون بقتله، والمقتُولُ يُبعثُ على نيّته. س8) هل قتالُ الطائفة النَّاطقة بالشهادتين، الممتنعة عن فعل واجب، أو ترك مُحرَّم، مسألةٌ خلافيةٌ، أم أمرٌ مُجمعٌ عليه؟ جـ8) هو أمرٌ مُجمعٌ عليه، أجمع عليه الصحابة في خلافة أبي بكر الصدّيق. ولم يختلفْ فيه الأئمّة بعدهم. قال الإمامُ ابن تيمية: "فأيما طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحجّ أو عن التزام تحريم الدماء والأموال أو الخمر أو الزنى أو الميسر أو نكاح ذوات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب أو غير ذلك من التزام واجبات الدِّين، أو محرّماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها -والتي يكفر الواحد بجحودها- فإن الطائفة الممتنعة تقاتَل عليها وإن كانت مقرّة بها وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء. وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنْزلة البغاة الخارجين على الإمام أو الخارجين عن طاعته كأهل الشام مع أمير المؤمنين على بن أبى طالب. وأمَّا المذكورُون فهم خارجون عن الإسلام". وقال في آخر كلامه: "والصحابة لم يكونوا يقولون هل أنت مقرّ بوجوبها أو جاحدٌ لها؟ هذا لم يعهد عن الصحابة بحال. بل قال الصديق لعمر رضي الله عنهما: "والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه"، فجعل المبيح للقتال مجرّد المنع لا جحد الوجوب. وقد روى أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب، لكن يخلُّو بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم سيرة واحدة. وهى قتل مقاتلهم، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، والشهادة على قتلاهم بالنار. وسمّوا جميعاً أهل الردّة. وكان من أعظم فضائل الصديق عندهم، أن ثبته الله على قتالهم. ولم يتوقّف كما توقّف غيره حتى ناظرهم فرجعوا إلى قوله. وأما قتال المقرِّين بنبوة مسيلمة الكذَّاب فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم" (الفتاوى: م 28/ص 501 - 509). ا ﻫ وقال عن الغالية من الرافضة: فإنّ جميع هؤلاء الكفار أكفر من اليهود والنصارى .. فإن لم يظهر عن أحدهم ذلك كان من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النّار. ومن أظهر ذلك كان أشدّ من الكفّار كفراً. فلا يجوز أن يُقرّ بين المسلمين لا بجزية ولا ذمّة، ولا يحلّ نكاح نسائهم ولا تؤكل ذبائحهم لأنّهم مرتدون من شرّ المرتدين. فإن كانوا طائفة ممتنعة وجب قتالهم كما يقاتل المرتدون. كما قاتل الصديق والصحابة أصحابَ مسيلمة الكذّاب. وإذا كانوا في قرى المسلمين فرقوا وأسكنوا بين المسلمين بعد التوبة وألزموا بشرائع الإسلام ألتى تجب على المسلمين وليس هذا مختصّاً بغالية الرافضة بل من غلا في أحد المشائخ وقال: أنّه يرزقه أو يسقط عنه الصلاة أو إنّ شيخه أفضل من النّبي صلى الله عليه وسلم. أو إنّه مستغن عن شريعة النّبي صلى الله عليه وسلم. وأنّ له إلى الله طريقاً غير شريعة النّبي صلى الله عليه وسلم. أو أنّ أحداً من المشائخ يكون مع النّبي صلى الله عليه وسلم كما كان الخضر مع موسى. وكلّ هؤلاء كفّار يجب قتالهم بإجماع المسلمين وقتل الواحد المقدور عليه منهم. (الفتاوى: م28/ص:474). س9) متى يكُونُ الأصل في التعامُل مع الأفراد والطوائف إسلاما، ومتى يكُونُ كُفرًا؟ جـ9) يُعاملُ الفردُ على ما أظهرهُ، فمن أظهرَ إسلاما، وتوبة من الشركِ يُعامَلُ على هذا الأصل، ولايجُوزُ تكفيرُهُ، أو الظنُّ به شرًّا وكُفرًا. ويُقالُ: "الأصلُ في التعامُل مع هذا أنَّهُ مُسلمٌ". وهذا ما يُسمّى باستصحاب الحال، أو استصحاب البراءة الأصلية. وكذلك من أظهر كُفرًا وشركًا، يُعامَلُ على هذا الأصل، ولايجُوزُ الحُكمُ بإسلامه، أو الظنُّ به خيرًا وإسلاما. ويُقالُ: "الأصلُ في التعامُل مع هذا أنَّهُ مُشرِكٌ". وهو استصحابُ لآخر حاله. وتُعاملُ الطائفةُ على ما أظهرتهُ، فإن أظهرَتْ إسلاما، وتوبة من الشركِ تُعامَلُ على هذا الأصل، ولايجُوزُ تكفيرُها، أو الظنُّ بها شرًّا وكُفرًا. ويُقالُ: "الأصلُ في التعامُل مع هذه الطائفة أنَّها مُسلمةٌ". وهو استصحابٌ لآخر حالها. وإنْ أظهرتْ كُفرًا وشِركًا، تُعامَلُ على هذا الأصل، ولايجُوزُ الحُكمُ بإسلامها، أو الظنُّ بها خيرًا وإسلاما. ويُقالُ: "الأصلُ في التعامُل مع هذه الطائفة أنَّها مُشرِكةٌ". وهو استصحابُ لآخر حالها. وإذا دخلَ المُسلمُ دار طائفة أو قبيلة علم بإسلامها، فإنّهُ يُعاملُ أفرادها على أصلِ الإسلام، ولا يمتحنُ الأفراد، ويُصلِّي خلفَ إمامِهم، دُون أن يسأل عن اعتقاده. لأنّ الأصلَ أنَّ الطائفة الواحدة كشخص واحد، ما لم يظهرْ الخلاف. فإن ظهر فيها، مَن هو على الكُفرِ، عَلم أنّهُ ليس من الطائفة المسلمة في الدين. وإذا دخلَ المُسلمُ دار طائفة أو قبيلة علم بكُفرِها، فإنّهُ يُعاملُ أفرادها على أصلِ الكُفر، وإن كانُوا من النّاطقين بالتّوحيد. فلا يأكُلُ ذبائح أفرادها، ولا يُصلِّي خلفَ إمامِها، ولا ينكحُ نساْءها. لأنّ الأصلَ أنَّ الطائفة الواحدة كشخص واحد، ما لم يظهرْ الخلاف. فإن ظهر فيها، مَن هو على الإسلام، والبراءة من الشركِ وأهله، علمَ أنّهُ ليس من الطائفة المشركة في الدِّين. إنَّهُ كما أنَّ الإسلام جعل للنَّاس أحكاما، وجعل لكُلِّ فرْدٍ حُكما شرعيًّا، يُلحقُهُ بأحد الدينين، الكُفر أو الإسلام، فيكُونُ فردٌ كافرًا، وفردٌ مُسلما، فكذلك جعل الإسلامُ لكلِّ طائفة، أو قبيلة، أو مملكة، أو دولة، حُكمًا شرعيًّا، يُلحقُها بأحد الدينين، الكُفر أو الإسلام، فتكُونُ إمّا كافرةً، وإمَّا مُسلمةً. ويُرجعُ في أمر الكُفرِ والإسلام إلى الكتابِ والسنَّة، لا إلى عُرفِ النَّاسِ، وتصورات البيئة، وأهواء المشايخ المفتُونين بالدُنيا. وإذا صارت طائفة أو قبيلة أو دولة كافرة، فإنّ دارها تُضافُ إلى الكُفر، فيُقالُ إنّها دارُ الكُفرِ، أو تُضافُ إلى ساكنيها، فيُقالُ إنّها دارُ الكافرين. وكذلك، إذا صارت طائفة أو قبيلة أو دولة مُسلمة، فإنّ دارها تُضافُ إلى الإسلام، فيُقالُ إنّها دار إسلام، أو تُضافُ إلى ساكنيها، فيُقالُ إنّها دارُ المسلمين. فنسبة الدار إلى من يقيم بها عُرفٌ بشريٌّ، يوجد في جميع لغات البشر، ويوجد بكثرة في دواوين الأشعار الجاهلية، التي هي المرجع في إثبات اللغة العربية الأصيلة. والقرآنُ نزل بلغة العرب، وأضاف الديار إلى ساكنيها. قال تعالى: ﴿سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾ (لأعراف:145) وجاء في أخبار غزوة تبوك أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بديار "ثمود". وفي حديث زيارة القبور: "سلام عليكم دار قوم مؤمنين". قال سيبويه: "وكل موضع حلّ به قومٌ فهو دارهم" (لسان العرب). س10) كيف يُوفَّقُ بين قاعدة "ترك التكفير قبل توفُّر شروطه، وانتفاء موانعه"، وقاعدة "اعتبار الطائفة الممتنعة كشخص واحد"؟ جـ 10) ليس بين القاعدتين تعارُض، ولكُلٍّ منها موضعٌ، فالقاعدةُ الأُولى تخصُّ بقوم حُكم بإسلامهم، ويُعاملُون على أصلِ الإسلام، والثانيةُ تخصُّ بقومٍ حُكم بكُفرهم، ويُعاملُون على أصلِ الكُفر. قاعدةُ "توفُّر شروط التكفير، وانتفاء موانعه"، تخصُّ أفراد المجتمع الَّذين ثبت إسلامُهُم بيقين، لأنَّ من ثبت إيمانُهُ الظّاهر بيقين لا يزُولُ إيمانُهُ بالشكِّ. فمن قيل عنهُ: إنَّهُ قد كفر، وجب التثبُّت في أمره، ومعرفة: هل القولُ أو الفعلُ ممّا يُوجبُ الكُفر، وهل هو عاقلٌ أو مجنُون، وهل هو مُختارٌ أو مُكرهٌ إلى آخره. والطّائفة كذلك إذا كان قد ثبت إسلامها، لايجوز القول بزوال إيمانها بالشكِّ. أمَّا الطّائفة الممتنعة التي تظهرُ الكُفر، وتكُونُ لهم الغلبة في بلادها، فإنَّ دارها دارُ كُفرٍ، ويجبُ على المسلم القادر أن يُهاجرَ منها، إذا لم يقدر على إظهار دينه. ومثل هذه الطّائفة لا يُقالُ -وإن كانت من أهل الانتساب- يجبُ تطبيق قاعدة "توفُّر شروط التكفير، وانتفاء موانعه"، في حقِّ كُلِّ فردٍ منها. ولم يقلْ بها الصحابة في حُروب أهلِ الرّدَّة المُنتسبين إلى الإسلام، ولم يكُونُوا يقُولون: يجبُ سُؤال كلِّ شخص بعينه، هل ارتدَّ أم لا، وإنّما كان يكفيهم إعلان السّادة والرّؤساء، وبقاء العامّة في طاعتهم. وكان يحدث أحيانا، أن يرتدَّ بعضُ القبيلة، ويثبتَ البعضُ على الإسلام، فكان أبوبكر يُعينُ من ثبت، ويأمرهم بجهاد من ارتدِّ، ولم يكن يقُولُ لهم: لا تقتلوا من أهل الرّدَّة إلّا بعد توفُّر الشّروط وانتفاء الموانع. إنَّ الطّائفة أو الأمَّة التي تُظهرُ قادتُها الكفرَ، وتُطاوعها العامَّة، لها حُكم الكُفر، ويجبُ قتالها، إذا كان للإسلام قُوَّة، وإلّا وجب إظهارُ الإسلام بدعوة الناس إلى الحقِّ، ووجبت البراءة منهم، ومن كُفرهم، كما هي ملّة الأنبياء. ومن الأخطاء الَّتي ترتَّبت من استخدام هذه القاعدة في غير موضعها ما يأتي: 1) وُجد من يقُولُ: نحنُ في دار كُفرٍ، ولا نعتقدُ كُفرَ أحدٍ فيها، إلا من كفَّرْناهُ بعد توفُّر الشّروط وانتفاء الموانع. وذلك مع كونهم ليسُوا بقضاة، ولا أصحاب سُلطان. 2) نتج من هذا التّذبذب، أنَّهم إذا أحسُّوا بأنَّ لهم قوَّة قاتلوهم قتال الكُفّار، وإذا انهزمُوا اندمجُوا فيهم، يأكلون ذبائحهم، ويُصلُّون خلفهم، ويتزوَّجُون من نسائهم، ويُبدِّعُون من لا يفعلُ فعلهم. 3) أن يُخالفوا المنهج الصّحيح في التّعامل مع الطّوائف الكافرة، ألّذي هو البراءة منهم ومقاطعتهم، وأن يستمرَّ ذلك في جميع الأجيال. وسببُ المخالفة سُوءُ الفهم لهذه القاعدة. فالصُّوفية الوثنية التي كان حُكمها معلوماً في زمن ابن تيميّة، صارت عندهم من المسلمين الذين يُراعى فيهم قاعدة توفُّر الشّروط وانتفاء الموانع. ومن العجب أنَّ بعضهم إذا سُئل: لماذا تُعادي أهل التَّوحيد والبراءة؟، أجاب: جاء الحديث بقتلهم، وقتلهم عليٌّ. وإن سُئل: لماذا لا تُكفِّرُ أهلَ الشرك والردّة، وقد جاء القرآنُ بتكفيرهم وقتلهم؟، أجاب: يقُولون "لا إله إلا الله"!!. وكأنَّهُ لا يفطنُ بأنَّ الأوّلين كذلك يقولون "لا إله إلا الله"، ولا يُشركُون بالله شيئاً. وكان الأنسبُ لهُ إذا اعتقد أنّ الخوارج أمّةٌ واحدة، يمتدُّ وجُودُها من زمن عليّ رضي الله عنه إلى اليوم، وأنّ لهم حُكما واحدًا، كان الأنسبُ لهُ أن يعتقد أنّ أهلَ الردّة أمّةٌ واحدةٌ، يمتدُّ وجُودُها من زمن أبي بكر رضي الله عنه إلى اليوم، وأنّ لهم حُكما واحدًا. لأنّ إلحاق الإنسان بأهلِ ملّته أصلٌ صحيحٌ. أمّا التناقضُ العجيبُ فهو إلحاق من جاء بعقيدة الخوارج بالخوارج، وعدمُ إلحاق من جاء بعقيدة أهلِ الردّة بأهلِ الردّة. فيدلُّ ذلك التناقض على تحكِيم الهوى ومُجانبة الشرع، إذْ ليس في شريعة الرَّحمن تناقضات واختلافات. س11) كيف يُوفَّق بين قول الإمام "ابن تيمية"، في الطائفة الممتنعة، حيث أعطاها حُكما يشملُ أفرادها، وبين أمره في فتاواه بالتثبُّت عند الحكم على الفرد بالكفر أو الفسق؟ جـ11) إنّ الطائفة الممتنعة، أو القبيلة، إذا حُكم بكفرها، فإنّ الفرد منها تبعٌ لطائفته، وما الطائفة في الحقيقة إلا الأفراد، ولكن لما تجمّعُوا وصارُوا قُوّة، اُحتُيج إلى معرفة حكمهم كطائفة. فإن كانت طائفة مُعلنة للكُفرِ، فهي كافرة، وإن كانت مُعلنة للبدعة، أو الفسق، فهي مُبتدعة أو فاسقة. وإن كانت مُعلنة للإسلام والصلاح فهي مُسلمة. فحيثُ تكلّم الشيخ عن طائفة وجب قتالها لكُفرها، فهو لا يأمُرُ باعتبار أفرادها مُسلمين، لأنَّهُ قد بيّن حُكمَ الفردِ منها، لما بيّن حُكمَ طائفته. وحيثُ تكلّم عن طائفة مُسلمة، فإنّهُ ينهى عن تكفير أفرادَها، لأنّهُ قد بيّن حُكمَ الفردِ منها، لما بيّن حُكمَ طائفته. وإليك مثلان تفهمُ منهما هذه الحقيقة، التي لا يفهمُها كثيرُون يقتطفُون من كلام الشيخ، ليضعُوهُ في غير موضعه. (المثالُ الأول) من المعلُوم أنّ الإمام "ابنُ تيمية" قد أفتى بكُفر التتّار الذين في زمنه، وكانُوا من النّاطقين بالشهادتين. فكان يأمُرُ بقتل كُلِّ من قُدرَ على قتله، وإن كان مُكرها، لعدم القدرة على التمييز بين المُكره وغيره. قال بعد أن ساق الأدلّة الدالّة على وجوب قتال التتار: "والتتارُ وأشباهُهم أعظم خروجاً عن شريعة الإسلام من مانعي الزكاة والخوارج ومن أهل الطائف الذين امتنعوا عن ترك الربا. فمن شكّ في قتالهم فهو أجهل النّاس بدين الإسلام. وحيثُ وجب قتالهم قوتلوا، وإن كان فيهم المكره باتفاق المسلمين كما قال العبّاس لمّا أسر يوم بدر: يا رسول الله إنّي خرجتُ مكرهاً. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أما ظاهرك فكان علينا، وأما سريرتك فإلى الله". وقال: "ونحن لا نعلم المكره ولا نقدر على التمييز فإذا قتلناهم بأمر الله كنّا في ذلك مأجُورين ومعذُورين، وكانوا على نياتهم." (الفتاوى:28/509). وقال الإمامُ ابنُ كثير في "البداية والنّهاية"، في حوادث سنة 702 ﻫ: وكان -أي: ابنُ تيمية- يقول: "إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مُصحف فاقتلوني". فتشجّع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم ولله الحمد". (المثالُ الثاني) إنَّ الإمام "ابن تيمية" عندما يتحدّثُ عن أفراد مُتّهمين بالكُفر، في طائفة مُسلمة، يُقرّرُ أنّه لا بدّ من إقامة الحجّة عليهم، قبل الحكم عليهم بالكفر، وإن كانت مقالتهم في نفسها كفراً، لأنّهُم كانُوا مُسلمين قبل التُّهمة، فلا يُنتقلُ من ذلك إلا بيقين. فمن كلامه قوله: "إنني دائماً - ومن جالسني يعلمُ ذلك منّي- من أعظم الناس نَهياً من أن ينسب لشخص معيّن إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلاّ إذا عُلم أنّه قد قامت عليه حجّة الرسالة، التي من خالفها كان كافراً تارة، وأخرى فاسقاً، وعاصياً أخرى، وإنّي أقرّرُ أنّ الله تعالى قد غفر لهذه الأمّة خطأها وذلك تعمّ الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية .. وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحدٌ منهم على أحدٍ لا بكفرٍ ولا بفسقٍ ولا بمعصيةٍ. وكنتُ أبيّن أنّما نُقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا و كذا فهو -أيضاً- حقّ لكن يجبُ التّفريق بين الإطلاق والتعيين. التكفير هو من الوعيد، فإنّه وإن كان القول تكذيباً لمّا قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ، لكن الرجل قد يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة. ومثل هذا لا يكفّر بجحد ما يجحده حتى تقوم الحجّة. وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض أخر، أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً" (الفتاوى: 3/229). وقال: "ولهذا أكثر السلفِ يأمُرون بقتل الداعي إلى البدعة، الذي يضل الناس لأجل إفساده في الدين، سواء قالوا: هو كافر، أو ليس بكافر. وإذا عُرف هذا فتكفير "المعيَّن" من هؤلاء الجهال وأمثالهم -بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار- لا يجوزُ الإقدام عليه، إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية، التي يتبينُ بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر. وهكذا الكلام في تكفير جميع "المعينين" مع أن بعض هذه البدعة أشدُّ من بعض، وبعضُ المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يُكفِّر أحداً من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتُبين له المحجَّة". ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة. (الفتاوى: 12/433) س12) ما حُكم الذبائح المعرُوضة في دار الطائفة الكافرة؟ جـ12) الذبيحة المعروضة في أسواق الطائفة الكافرة -غير أهل الكتاب- لا يجوزُ أكلُها، وكذلك إذا اختلط بسُكانِ المدينةِ منْ لا تحلُّ ذكاتُه، حتى يُعرفَ ذابحُها. قال الإمامُ ابنُ قُدامة في المغني (م 4/ص:297) : والمشكوك فيه على ثلاثة أضرب: (الأول) ما أصله الحظر كالذبيحة في بلد فيها مجوس وعبدة أوثان يذبحون فلا يجوز شراؤها وإن أمكن أن يكون ذابحها مسلماً لأن الأصل التحريم فلا يجوز إلاّ بيقين أو ظاهر, وكذلك إن كان فيها أخلاط من المسلمين والمجوس لم يجز شراؤها لذلك, والأصل فيه حديث عديّ بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أرسلت كلبك فخالط كلباً لم يسمّ عليه فلا تأكل فإنك لا تدري أيهما قتله" (متفق عليه). وقال الإمام النبوي (في المجلد 9 مجموع شرح المهذب/ص:80): "لو وجد شاة مذبوحة، ولم ندرِ من ذبحها، فإن كانت في بلد فيه من لا تحلُّ ذكاتُه كالمجوس لم تحلّ، سواء تمحضوا أو كانوا مختلطين بالمسلمين، للشكّ في الذكاة المبيحة والأصل التحريم. وإن لم يكن فيهم أحدٌ حلّت." وقال الإمام ابن تيمية: "لا تحلّ الفروج والذبائح بالشبهات" (الفتاوى:م 32/ص: 190).