(الثالث) التّوحيدُ لفظٌ ومعنى س1) هل التّوحيدُ هو التلفظ بكلمة التَّوحيد، أم هو اللفظُ ومعناهُ؟ جـ1) إنَّ التّوحيدُ لفظٌ ومعنى مطلُوبٌ تحقيقهُ، ومن أنكر المعنى والتحقيق لم ينفعْهُ اللفظ. وتحقيقُ الشهادتين هو إخلاصُ العبادة لله، و أن نعبد الله بما شرع على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. قال اللهُ تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ (النساء:36) وقال: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ (الأنعام:151) وقال: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ (الإسراء:23) وقد تقدّم قول الإمام "ابنُ تيمية": "ودينُ الإسلام مبنى على أصلين، وهما‏:‏ تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله‏.‏ وأول ذلك ألا تجعل مع الله إلها آخر، فلا تحب مخلوقًا كما تحب الله، ولا ترجوه كما ترجو الله، ولا تخشاه كما تخشى الله". والأصلُ الثاني‏:‏ أن نعبده بما شرع على ألسن رسله، لا نعبده إلا بواجب أو مستحبّ، والمباح إذا قصد به الطاعة دخل في ذلك‏".‏ (الفتاوى: م:1 ص: 310) س2) بماذا يستدلُّ من أعذرَ تاركَ إخلاصِ العبادة بالجهل؟ جـ2) لا دليل لهم، وإنّما حملهم سُوءُ الفهم على هذه المقالة، فهم لما فرَّقوا بين اللفظ وتحقيقه، ظنُّوا أنَّ التَّوحيد الَّذي هو "أصلُ الدِّين"، هو قولُ "لا إله إلاّ الله، مُحمّدٌ رسُولُ الله". أمَّا معنى "لا إله إلا الله"، الّذي هو إخلاصُ العبادة لله، وتركُ الشرك، فلم يفهمُوا أنَّهُ أصلُ الدِّين. ولأجل هذا الخطأ، إذا سألتهم: ما حُكمُ من لم يسمع بقول "لا إله إلا الله" قطّ؟. لا يقُولون: "هو مسلمٌ معذورٌ بالجهل". أمَّا إذا سألتهم: ما حُكمُ من لم يسمعْ بإخلاصِ العبادة لله، ويُشركُ بالله، وينطقُ بـ"لا إله إلا الله"؟، يقُولون: "هو مسلمٌ معذورٌ بالجهل". فتبيَّنّ من ذلك، أنَّهم يُفرِّقُون بين اللّفظ والمعنى، فصار اللّفظ عندهم من أصلِ الدّين، الَّذي لا يُعذرُ أحدٌ فيه بالجهل، بينما صار معنى "لا إله إلّا الله"، خارجاً من أصلِ الدّين، فيُعذرُون فيه بالجهل، وهذا من أبعد الضّلال عن التَّوحيد. س3) هل القولُ بأنَّ اللّفظَ أهمُّ من المعنى قولٌ صحيحٌ؟ جـ3) لا، بل العكسُ، والقولُ بأنَّ المعنى أهمُّ من اللّفظ هو الصحيح من وجوه: (أولاً) إنَّ الألفاظ وُضعتْ للمعاني، فهي وسيلة للتعبير عن المعاني المقصُودة، فإذا تجرَّدت عن معانيها صارت عديمة الفائدة. ولذلك لم ينفع قول "لا إله إلاّ الله" اليهُود، وهم في مدينة الرّسُول صلى الله عليه وسلم ، وقد أقرَّ بعضهم بأنَّهُ رسُولُ الله، لأنَّ المعنى الذي وُضعتْ كلمةُ الشّهادة لهُ، لم يكُن يتحقَّقُ بإقرارهم. (ثانيا) يصحُّ الإسلامُ بسائر اللّغات، ولو لُقنَ الأعجمي الكلمة العربيّة، "لا إله إلاّ الله"، فقالها ولم يعرف معناها لم يكفِ. وقد أرسل اللهُ كُلَّ الرُّسل بـ"لا إله إلاّ الله"، وذكر أنَّهم كانُوا مختلفين في اللّسان، مع اتِّفاقهم في القصد من الكلمة. قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء:25) وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (إبراهيم:4) قال الشّافعي: "ولو أقرَّ أعجميّ بالأعجميّة، فهو كإقراره بالعربيّة، لأنّ الكلام موضوع ليبيِّن المتكلّم به عن غرضه. ثم لمّا كان إيمانُ الأعجميّ بلسانه كالعربيّ، اقتضى أن يكون إقراره بلسانه كالعربيّ". (المجموع شرح المهذَّب:22/324) بينما لا يصحُّ الإسلام، ممن يُصرُّ على إظهار الشّركِ بالله، وترك الإخلاص، وإن كان من النّاطقين بالشّهادتين. قال الحافظ ابن حجر: قال الحليمي: "ولو قال اليهوديّ لا إله إلاّ الله لم يكن مسلما حتى يقرَّ بأنه ليس كمثله شيء، ولو قال الوثنيُّ: لا إله إلاّ الله، وكان يزعم انّ الصّنم يقرِّبُه الى الله، لم يكن مؤمنا حتّى يتبرّأ من عبادة الصّنم" (فتح الباري: كتاب التّوحيد). (ثالثا) كلمة "لا إله إلاّ الله"، لها كلمات تقُوم مقامها، ويصحُّ الإسلامُ بها، مثل: "آمنتُ بالله ورسُوله"، و"أسلمتُ لله"، وغير ذلك. أمّا معناها فلابدَّ من تحقيقه، ولا يصحُّ إسلامُ من هو مُظهرٌ للشّرك الأكبر بحال. س4) ما الدليلُ على اشتراط التوبة من الشرك لصحّة الإسلام؟ جـ4) قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ (التوبة:11). قال أنس رضي الله عنه:" قال: توبتهم خلعُ الأوثان، وعبادةُ ربِّهم وإقام الصلاةِ وإيتاءِ الزّكَّاة." (الطبري) ولأنَّ قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا﴾ دليلٌ بيِّنٌ على أنَّهُ لا يصحُّ الإسلام بدون التّوبة من الشرك، وأنَّهُ لا ينفعُ النُّطق مع اعتقاد النّاقض. كما دلَّ قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو يشهد الشهادتين ويعمل بكتاب الله: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (الزمر: 65). على أنَّ النُّطق بالشهادتين لا ينفعُ من رجع إلى الشرك الأكبر، وتبطُلُ شهادتُهُ وإسلامُه بالرجوع. فمن قال كلمة التّوحيد، وهو في الشرك الأكبر، لا يكونُ مُسلما بقولها في أحكام الدنيا، لأنَّه لم يأت بالشرط الأول من شروط الدخول في الإسلام الذي هو "التوبة من الشرك". س5) بعضُ العُلماء يُفتُون بصحّة شهادة من يعبُدُ غير الله، فهل المسألةُ خلافية؟ جـ5) المسألةُ ليست خلافية، وهؤلاء ليسُوا من عُلماء الإسلام، لأنَّهم يجهلُون رأس أمر الإسلام، حيث فرَّقُوا بين الكلمة وتحقيقها. ويظهرُ لك جهلهم من وجُوه: (الأول) إذا سألتهم: ما حُكمُ من يعتقدُ بنبوّة النَّبيِّ مُحمَّد صلى الله عليه وسلم ، ونبُوَّة أحدٍ بعدهُ في آنٍ واحدٍ؟، لا يقُولون: "هو مسلمٌ معذورٌ بالجهل". وإذا سألتهم: ما حُكمُ من يدعُو الله، ويدعُو غيره، ويذبحُ لله، ويذبحُ لغيره، في آنٍ واحدٍ، يقُولون: "هو مسلمٌ معذورٌ بالجهل". فالشّركُ في عبادة الله، لا يُبطلُ الإسلامَ عندهم، والشركُ في النُّبوَّة يُبطلهُ، فما الجهلُ بالتَّوحيد، إن لم يكُنْ هذا؟. (الثاني) إذا سألتهم: ما حُكمُ من يقُولُ بنبوّة النَّبيِّ مُحمَّد صلى الله عليه وسلم ، ويعتقدُ بأنّ الواجبَ العملُ بأحكام التَّوراة بدلا من القرآن؟، لا يقُولون: "هو مسلمٌ معذورٌ بالجهل"، بل يقُولُون: "الإقرار بنبوته هو إقرار بوجُوب مُتابعته، ومن أنكر المتابعة فقد بطل إقراره". ولا يقُولُون: "الإقرار بكلمة التّوحيد، هو إقرار بوجُوب إخلاص العبادة لله، ومن أنكر الإخلاص فقد بطل إقراره". فجعلُوا تحقيق شهادة "مُحمّد رسُول الله" من أصل الدّين، ولم يجعلُوا تحقيق شهادة أنْ "لا إله إلا الله" من أصل الدّين، وهذا من أعظم الجهل. (الثالث) إنَّهُم يجهلون أنَّ التَّوحيد المطلوب هو الّذي تلزمُ منهُ البراءةُ من الشّرك وأهله، ولذلك يقُولون عن المُشركِ إنَّهُ مُسلمٌ، والمُسلمُ هُو المُتَّبع لملَّة إبراهيم ومحمّد والأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام، والأنبياءُ لم يكُونُوا من المُشركين، بل كان لهم دينهم، وللمشركين دينهم. (الرّابع) يعلمُون أنَّ من جحد الصّلاة، أو الزّكاة، أو واجباً من الواجبات المعلومة من الدّين بالضّرُورة، يرتدُّ بمجرَّد الجحد والإنكار، ولو في مرَّة واحدة، ولا ينجُوا من القتل بالرّدَّة إلا بإحداث توبة. أمّا جاحد التَّوحيد فلا يرتدُّ عندهم، ولو استمرَّ في شركه طول عمره. فوضعُوا التَّوحيد الَّذي هو أصلُ الدِّين، في مرتبة دون مرتبة الواجبات والمحرَّمات، وهذا جهلٌ بقدر التَّوحيد. س6) هلْ من علماء الإسلام من صرح بوجُود حالات لا يكُونُ فيها النُّطقُ بالشهادتين كافيا في إسلامِ المرءِ؟ جـ6) كثيرٌ من العُلماء صرحُوا بذلك، فلنأخُذْ مثلا أو مثلين من كُلِّ قرنٍ: (القرنُ الأول) 1) لما تُوفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ارتدّ كثير من قبائل العرب عن الإسلام وكانوا متنوّعين في الردّة، كان منهم من رجع إلى عبادة الأصنام وكفر برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان منهم من صدَّق الكذّابين المتنبِّئين ولم يُنكر التوحيدَ ورسالةَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ، ولم يقع بين الصحابة اختلاف في تكفير هذين الصنفين من المرتدين وقتالهم. ولكن كان من المرتدين قومٌ ثَبتُوا على التوحيد وتصديق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إجمالاً ولكنّهم منعوا الزكاة، وتأوّل بعضهم أنّ دفعها كان إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصةً، فإذا مات صاحبها فقد رجع الحقُّ إلى أهل الأموال. واشتبه على بعض الصحابة أمرُ أولئك، ورأوا تركَ قتالهم وتأليفَهم، مستدلّين بالحديث الآمر بالكفّ عن الناس".. حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فإذا قالوها عصموا منِّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها وحسابهم على الله". فردَّ الصِّدِّيقُ عليهم قائلاً: "فإنّ الزكاةَ من حقِّها"، "والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة"، "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتُهم على منعه". فثاب الصحابةُ إلى قول الصّدِّيق ورأوا أنّ الحقَّ معه، وأجمعوا على قتالِ جميعِ أصنافِ المرتدين، ونصرهم الله عليهم. والقصّةُ في الصحيحين. فإذا كان الصَّحابةُ قد ذهبُوا من الدنيا وهم مُجمَعُون على تكفير وقتل مانع الزكاة وإن كان بريئاً من الشرك والكفر إلاّ منعَ الزكاة، وإن كان يقول "لا إله إلاّ الله" ويصلِّي، فكيف يُظَنُّ بهم عدمَ تكفيرِ المشركِ بالله شركاً أكبرَ إذا كان يُظهر التوحيد وشعائر الإسلام، أليس من البيّن الواضح أنّ إظهارَ التوحيدِ وشعائرِ الإسلامِ إذا كانَ يعصمُ المشركَ من التكفيرِ والقتلِ لَعَصَمَ مانعَ الزكاة من ذلك في زمن أفضل قرونِ الأمّةِ على الإطلاق. فثبت أنّ مذهبَ الصحابةِ هو تكفيرُ من كفرَ بالله، وعدمُ اعتبارِ ما يدَّعِيهِ وما يُظهرهُ من الشعائر حتى يرجعَ عن ذلك. 2) روى البخاريّ في الصحيح عن عكرمة مولى ابن عبّاس قال: أُتِي عليٌّ رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابنَ عبّاس فقال: لو كنت أنا لم أُحرِّقهم لنهي رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم "لا تُعذِّبوا بعذاب الله"، ولقتلتهم لقولِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدّل دينهُ فاقتلوه". ومما قيلَ في تعريفِ أُولئك الزنادقةِ، أنّهم أصحابُ ابنِ سبأ، وأنّهم ألّهوا عليّاً فاستتابهم، فلمّا أصرُّوا أحرقهم بالنَّار. فتأمّل هذه القصّة: وقعَ قومٌ في الشركِ الأكبر، وهم ينتسبون إلى الإسلام وينطقون بالشهادتين، فلم يلتفت أحدٌ من الصحابة إلى الانتساب والنُّطق، بل كفَّروهم وقتلوهم وإن اختلفوا في صفةِ القتلِ. (القرنُ الثاني) 1) قال الإمام الشافعيّ في "الأُمّ" (150ﻫ ـ 204ﻫ): والإقرار بالإيمان وجهان: "فمن كان من أهل الأوثان ومن لا دين له يدّعى أنّه دين النُّبوة ولا كتاب، فإذا شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً عبده ورسوله فقد أقرّ بالإيمان ومتى رجع عنه قُتل. قال: ومن كان على دين اليهودية والنصرانية فهؤلاء يدّعون دين موسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهما وقد بدّلوا منه، وقد أُخذ عليهم فيهما الإيمان بمحمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكفروا بترك الإيمان به واتّباع دينه مع ما كفروا به من الكذب على الله قبله. فقد قيل لي: إنّ فيهم من هو مُقيمٌ على دينه يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله، ويقول: "لم يبعث إلينا". فإن كان فيهم أحدٌ هكذا فقال أحدٌ منهم: "أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله" لم يكن هذا مستكمل الإقرار بالإيمان حتى يقول: "وأنّ دين محمّدٍ حقٌّ أو فرضٌ وأبرأ مما خالف دين محمّدٍ صلى الله عليه وسلم أو دين الإسلام"، فإذا قال هذا فقد استكمل الإقرار بالإيمان، فإذا رجع عنه أُستُتِيبَ، فإن تاب وإلاّ قُتل. فإن كان منهم طائفةٌ تُعرَف بأن لا تُقرّ بنبوة محمّد صلى الله عليه وسلم إلاّ عند الإسلام، أو تزعم أنّ من أقرّ بنبوته لزمه الإسلام، فشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله فقد استكملوا الإقرار بالإيمان. فإن رجعوا عنه اُستُتِيبوا، فإن تابوا وإلاّ قُتلوا". موسوعة الشافعيّ: (المجلّد السابع. ص: 596). 2) وقال الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبى حنيفة (131ﻫ - 189ه‍): "لو أنّ يهودياً أو نصرانياً قال: أنا مسلم، لم يكن بهذا القول مسلماً، لأنّ كلّهم يقولون نحن مسلمون ونحن مؤمنون ويقولون: إنّ ديننا هو الإيمان وهو الإسلام، فليس في هذا دليل على الإسلام منهم". وقال: "ولو أنّ رجلاً من المسلمين حمل على رجلٍ من المشركين ليقتله فقال: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله، كان هذا مسلماً، وإن رجع عن هذا ضُرب عنقه، لأنّ هذا هو الدليل على الإسلام". (أحكام القرآن للجصّاص: 2/310). وقال في كتابه"السير الكبير الجزء الخامس": باب: الإسلام: ذكر عن الحسن رضي الله عنه قال‏: ‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏: ‏ ‏"‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‏: ‏ لا إله إلا الله فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله قال‏: ‏ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل عبدة الأوثان وهم قوم لا يوحدون الله فمن قال منهم‏: ‏ لا إله إلا الله كان ذلك دليلاً على إسلامه. والحاصل أنه يحكم بإسلامه إذا أقر بخلاف ما كان معلوماً من اعتقاده لأنه لا طريق إلى الوقوف على حقيقة الاعتقاد لنا فنستدل بما نسمع من إقراره على اعتقاده فإذا أقر بخلاف ما هو معلوم من اعتقاده استدللنا به على أنه بدل اعتقاده. وعبدة الأوثان كانوا يقرون بالله تعالى قال الله تعالى‏: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (الزخرف‏: ‏ 87‏). ولكن كانوا لا يقرون بالوحدانية قال الله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ (الصافات‏:35) فمن قال منهم‏: لا إله إلا الله فقد أقر بما هو مخالف لاعتقاده فلهذا جعل ذلك دليل إيمانه فقال‏: ‏"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‏: لا إله إلا الله‏"‏ وعلى هذا المانوية وكل من يدعي إلهين إذا قال واحد منهم‏: ‏لا إله إلا الله فذلك دليل إسلامه. فأما اليهود والنصارى فهم يقولون‏: لا إله إلا الله فلا تكون هذه الكلمة دليل إسلامهم وهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا لا يقرون برسالته فكان دليل الإسلام في حقهم الإقرار بأن محمداً رسول الله على ما روي عنه أنه دخل على جاره اليهودي يعوده فقال‏: ‏ اشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فنظر الرجل إلى أبيه فقال له‏: ‏ أجب أبا القاسم فشهد بذلك ومات فقال صلى الله عليه وسلم: ‏"الحمد لله الذي أعتق بي نسمة من النار‏"‏ ثم قال لأصحابه‏: ‏ ‏"‏لُو أخاكم"‏. قال‏: فأما اليوم ببلاد العراق فإنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ولكنهم يزعمون أنه رسو ل إلى العرب لا إلى بني إسرائيل ويتمسكون بظاهر قوله تعالى‏: ‏‏﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ﴾ (الجمعة‏: ‏ 3). فمن يقر منهم بأن محمداً رسول الله لا يكون مسلماً حتى يتبرأ من دينه مع ذلك أو يقر بأنه دخل في الإسلام حتى إذا قال اليهودي أو النصراني‏: ‏ أنا مسلم أو أسلمت لا يحكم بإسلامه لأنهم لا يدعون ذلك فإن المسلم هو المستسلم للحق المنقاد له وهم يزعمون أن الحق ما هم عليه فلا يكون مطلق هذا اللفظ في حقهم دليل الإسلام حتى يتبرأ من دينه مع ذلك‏. (القرنُ الثالث) 1) قال الإمام محمّد بن إسماعيل البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه (194ﻫ - 256ﻫ): "باب: المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك امرؤ فيك جاهلية) وقول الله تعالى: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ النساء: 48. 2) قال الامام إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني -صاحب الشافعي- (175 -264 ﻫ): ولو شهد عليه شاهدان بالردة فأنكره قيل إن أقررت بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتبرأ من كل دين خالف دين الاسلام لم يكشف عن غيره وما جرح أو أفسد في ردته أخذ به وإن جرح مرتدا ثم جرح مسلما فمات فعلى من جرحه مسلما نصف الدية. 3) قال الإمامُ أحمد بن محمّد الطحاويّ (239ﻫ - 321ﻫ) في كلام طويل جيّد، نأخُذُ منه مُقتطفات قال: "فقد ذهب قوم إلى أن من قال لا إله إلا الله فقد صار بها مسلما، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين. واحتجوا في ذلك بهذه الآثار وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا لهم لا حجة لكم في هذا الحديث لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما كان يقاتل قوما لا يوحدون الله تعالى، فكان أحدهم إذا وحد الله علم بذلك تركه لما قوتل عليه، وخروجه منه، ولم يعلم بذلك دخوله في الإسلام، أو في بعض الملل التي توحد الله تعالى ويكفر بجحدها، وغير ذلك من الوجوه التي يكفر بها أهلها مع توحيدهم لله. فكان حكم هؤلاء أن لا يقاتلوا إذا وقعت هذا الشبهة حتى تقوم الحجة على من يقاتلهم وجوب قتالهم فلهذا كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتال من كان يقاتل بقولهم لا إله إلا الله، فأما من سواهم من اليهود، فإنا قد رأيناهم يشهدون أن لا إله إلا الله ويجحدون بالنبي صلى الله عليه وسلم فليسوا بإقرارهم بتوحيد الله مسلمين إن كانوا جاحدين برسول الله صلى الله عليه وسلم ". وقال بعد أن ذكر حديث أنس الصحيح: (فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وصلوا صلاتنا..الخ) "فدل ما ذكر في هذا الحديث على المعنى الذي يحرم به دماء الكفار ويصيرون به مسلمين لأن ذلك هو ترك ملل الكفر كلها وجحدها. والمعنى الأول من توحيد الله خاصة هو المعنى الذي نكف به عن القتال حتى نعلم ما أراد به قائله الإسلام أو غيره حتى تصح هذه الآثار ولا تتضاد. فلما كان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن حيدة لما سئل عن آية الإسلام أن تقول أسلمت وجهي لله وتخليت وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتفارق المشركين إلى المسلمين وكان التخلي هو ترك كل الأديان إلى الله ثبت بذلك أن كل من لم يتخل مما سوى الإسلام لم يعلم بذلك دخوله في الإسلام وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهم أجمعين. (معاني الآثار: 3/314) (القرنُ الرابع) 1) قال الإمام أبو سليمان الخطابي (ت:388هـ) في قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله "معلوم أن المراد بهذا أهل عبادة الأوثان دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون "لا إله إلا الله" ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف". (شرح مسلم 1/206) وقال عند حديث أنس: "كان يغير عند صلاة الصبح، وكان يستمع، فإذا سمع آذانا أمسك وإلا أغار": قلت: فيه من الفقه أنَّ إظهار شعائر الإسلام فى القتال وعند شنِّ الغارة، يحقنُ به الدم، وليس كذلك حال السلامة والطمأنينة الَّتى يتَّسع فيها معرفة الأمور على حقائقها، واستيفاء الشروط اللازمة فيها" (معالم السنن) 2) والقاضى الحسين الحليمى (338- 403هـ): قال الحافظ ابن حجر: "قال الحليمي ولو قال اليهودي لا إله إلا الله لم يكن مسلما حتى يقر بأنه ليس كمثله شيء ولو قال الوثني لا إله إلا الله وكان يزعم ان الصنم يقربه الى الله لم يكن مؤمنا حتى يتبرأ من عبادة الصنم (فتح البارى:كتاب التوحيد). 3) وقال الإمام عبد القاهر بن طاهر البغدادي (ت:429ﻫ) في كتابه "الفَرق بين الفِرق"، (الباب الرابع): في بيان الفرق التي انتسبت إلى الإسلام وليست منها: قال: "وقد ذكرنا قبل هذا أنّ بعض الناس زعم أنّ اسم ملّة الإسلام واقعٌ على كلّ مقرٍّ بنبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم وأنّ ما جاء به حقٌّ كائناً قوله بعد ذلك ما كان، وهذا اختيار الكعبيّ في مقالته. وزعمت الكرّامية أنّ اسم أمّة الإسلام واقعٌ على كلّ من قال: لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله، سواءً أخلص في ذلك أو اعتقد خلافه. وهذان الفريقان يلزمهما إدخال العيسوية من اليهود والشاذكانية منهم في ملّة الإسلام، لأنّهم يقولون لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله، ويزعمون أنّ محمّداً كان مبعوثاً إلى العرب وقد أقرُّوا بأنّ ما جاء به حقٌّ. (الفَرقُ بين الفِرق: 220-222). (القرنُ الخامس) 1) وقال الإمام السرخسي فى "المبسوط"(ت: 490هـ) بعد حديثه عن توبة المرتدّ: "ولكن توبته أن يأتي بكلمة الشهادة ويتبرأ عن الاديان كلها سوى الاسلام أو يتبرى عما كان انتقل إليه فان تمام الاسلام من اليهودي التبرى عن اليهودية ومن النصراني التبرى عن النصرانية ومن المرتد التبرى عن كل ملة سوى الاسلام. 2) وقال الإمام الحسين البغوي (ت: 516هـ): "الكافر إذا كان وثنيا أو ثنويا لا يقرّ بالوحدانية فإذا قال: "لا إله إلا الله" حكم بإسلامه ثم يجبر على قبول جميع أحكام الإسلام ويبرأ من كل دين خالف دين الإسلام. وأما من كان مقراً بالوحدانية منكرا للنبوة فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول محمد رسول الله. وإن كان يعتقد أن الرسالة المحمدية إلى العرب خاصة، فلابد أن يقول: " إلى جميع الخلق". فإن كان كفره بجحود واجب أو استباحة محرم فيحتاج أن يرجع عما اعتقده. ا ﻫ (فتح الباري: 12/279) وقال فى شرح السنّة: وقوله: "حتى يقولوا: لا إله إلا الله" أراد به عبدة الأوثان دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ثم لا يرفع عنهم السيف حتى يقروا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو يعطوا الجزية. (1/66) (القرنُ السادس) 1) قال القاضي عيّاض (476ﻫ - 544ﻫ): "في بيان مسألة الكفّ عمن قال: لا إله إلاّ الله: "اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال "لا إله إلا الله" تعبير عن الإجابة إلى الإيمان. وأن المراد بذلك مشركو العرب وأهل الأوثان، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفي في عصمه بقول "لا إله إلا الله" إذا كان يقولها في كفره" (شرح مسلم: 1/206). ا ﻫ 2) قال الإمام الشيخ عبد القادر بن أبي صالح الجيلاني (ت:561ﻫ) في "الغنية": (باب) الذي يجب على من يريد الدخول في دين الإسلام: (أولا) أن يتلفظ بالشهادتين: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ويتبرَّأ من كلِّ دين غير دين الإسلام، ويعتقد بقلبه وحدانية الله تعالى. (الغنية:13) 3) وقال الإمام ابن قدامة الحنبليّ (541ﻫ - 620 ه‍) ومن أقر برسالة محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأنكر كونه مبعوثاً للعالمين، لا يثبت إسلامه حتى يشهد أن محمداً رسول الله إلى الخلق أجمعين، أو يتبرَّأ مع الشهادتين من كل دين يخالف الإسلام، وإن زعم أن محمداً رسول مبعوث بعدُ غير هذا، لزمه الإقرار بأن هذا المبعوث هو رسول الله، لأنه إذا اقتصر على الشهادتين احتمل أنه أراد ما اعتقده، وإن ارتد بجحود فرض لم يسلم حتى يقر بما جحده، ويعيد الشهادتين لأنّه كذب الله ورسوله بما اعتقده.. وقال أيضاً: "وإن كان الإمام ممن يُسلِمُ تارة ويرتدُّ أُخرى لم يصلَّ خلفه حتى يُعلمَ على أيِّ دينٍ هو". (المغنى والشرح الكبير: 2|35) (القرنُ السابع) 1) قال الإمام يحيى بن شرف النووي (631 ﻫ - 676 ه‍) في شرح مسلم: (باب من مات لايشركُ بالله): "فأمّا دخول المشرك النار، فهو على عمومه فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي اليهوديّ والنّصرانيّ، وبين عبدة الأوثان، وسائر الكفرة، ولا فرق عند أهل الحقّ بين الكافر عنادا وغيره، ولا من خالف ملّة الإسلام، وبين من انتسب إليها ثمّ حُكم بكفره بجحده ما يكفرُ بجحده وغير ذلك. وقال في مجموع شرح المهذّب: "وإن كان ممن يزعم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بُعث إلى العرب وحدها أو ممن يقول إنّ محمداً نبيٌّ يُبعث وهو غير الذي بُعث لم يصحّ إسلامه حتى يتبرّأ مع الشهادتين من كل دينٍ خالف الإسلام، لأنّه إذا اقتصر على الشهادتين احتمل أن يكون أراد ما يعتقده، وإن ارتدّ بجحود فرضٍ أو استباحة محرّمٍ لم يصحّ إسلامه حتى يرجع عما اعتقده ويعيد الشهادتين لأنّه كذّب الله وكذّب رسوله بما اعتقده في خبره، فلا يصحّ إسلامه حتى يأتي بالشهادتين". (المجمُوع:19/231). 2) وقال الإمام ابن تيمية (661ﻫ - 728ﻫ): "فأيما طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحجّ أو عن التزام تحريم الدماء والأموال أو الخمر أو الزنى أو الميسر أو نكاح ذوات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب أو غير ذلك من التزام واجبات الدِّين، أو محرّماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها - والتي يكفر الواحد بجحودها- فإن الطائفة الممتنعة تقاتَل عليها وإن كانت مقرّة بها وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء. وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنْزلة البغاة الخارجين على الإمام أو الخارجين عن طاعته كأهل الشام مع أمير المؤمنين على بن أبى طالب. وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام". وقال: "إن لم يعتقد وجوب الصلوات الخمس والزكاة المفروضة وصيام شهر رمضان وحجّ البيت العتيق، ولا يحرّم ما حرّم الله ورسوله من الفواحش والظلم والشرك والإفك فهو كافرٌ مرتدٌّ يستتاب فإن تاب وإلاّ قُتل باتّفاق المسلمين، ولا يغني عنه التكلّم بالشهادتين". وقال:"ومن قال: إنَّ كلَّ من تكلَّم بالشهادتين، ولم يُؤد الفرائض، ولم يجتنب المحارم، يدخلُ الجنَّة ولا يُعذَّبُ أحدٌ منهم بالنَّار: فهو كافرٌ مرتدٌّ، يجبُ أن يُستتاب، فإن تاب وإلا قتل" (الفتاوى: 35/105-106). وقال: "ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين أنّ من سوغ إتباع غير دين الإسلام أو اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب" (الفتاوى: 28/ 515 ) (القرنُ الثامن) 1) قال الإمام ابن القيم (691ﻫ - 751ه‍) وهو يُبيّنُ الشرك الأكبر وحال المشركين المنتسبين إلى ملّة الإسلام: "ومن أنواعه طلب حوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم". قال: "والميّت محتاج إلى من يدعو له كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زار قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل الله لهم العافية والمغفرة، فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثاناً تُعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إلى تنقُّص الأموات. وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك وأوليائه المؤمنين بذمّهم ومعاداتهم وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقّص إذ ظنُّوا أنّهم راضون منهم بهذا، أو أنّهم أمروهم به، وهؤلاء أعداء الرسل في كلّ زمان ومكان وما أكثر المستجيبين لهم. ولله درّ خليله إبراهيم عليه السلام، حيث يقول: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ (إبراهيم: 35-36). وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلاّ من جرّد التوحيد لله وعادى المشركين في الله وتقرّب بمقتهم إلى الله. (مدارج السالكين). 2) وقال الإمام إسماعيل بن كثير (701ﻫ ـ 774ﻫ): في تفسيره عند قوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ "يُنكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شرّ. وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم. وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم (جنكيز خان) الذي وضع لهم "الياسق" وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد أقتبسها عن شرائع شتى من اليهودية، والنصرانية، والملّة الإسلامية وغيرها، وفيها كثيرٌ من الأحكام أخذها من مجّرد نظره وهواه. فصار في بنيه شرعاً متّبعاً، يُقدِّمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليلٍ ولا كثيرٍ" 1هـ. قلتُ: "التتار الّذين يتحدّثُ عنهم الإمامُ هم الذّين كانوا في زمنه، وكانوا ينتسبونَ إلى الإسلام وينطقونَ بالشهادتين، ولكن كانوا يُقدِّمون شرائعهم الوضعيَّةَ على حكمِ الكتابِ والسُنَّة، فصار الانتسابُ والنُّطق لاشيءَ، لأنَّ الفعلَ أصدقُ وأقوى من القول". 3) قال الإمام ابن رجب الحنبلي (736ﻫ - 795ﻫ) في (جامع العلوم والحِكم): "وقد يترك دينه ويفارق الجماعة وهو مقرٌّ بالشهادتين ويدّعي الإسلام كما إذا جحد شيئاً من أركان الإسلام أو سبّ الله ورسوله أو كفر ببعض الملائكة أو النبيين أو الكتب المذكورة في القرآن مع العلم بذلك". (ص: 205) (القرنُ التاسع) 1) قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (773ﻫ - 852ﻫ) في كتابه (فتح الباري) عند حديثه عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله" "وفيه منع قتل من قال "لا إله إلا الله" ولم يزد عليها وهو كذلك، ولكن هل يصير بمجرد ذلك مسلما؟. الراجح لا، بل يجب الكف عن قتله حتى يختبر. فإن شهد بالرسالة والتزم أحكام الإسلام، حكم بإسلامه. وإلى ذلك الإشارة بالاستثناء بقوله "إلا بحق الإسلام" ثم ذكر كلام البغوي في هذه المسألة. (فتح الباري: 12/ 279) (القرنُ العاشر) 1) وقال الخطيب محمَّد بن أحمد الشربينى (ت:977ﻫ) فى مغنى المحتاج: فائدة: يصح الإسلام بسائر اللغات كما قاله ابن الصباغ وغيره وبإشارة الأخرس. نعم لو لقن العجمي الكلمة العربية فقالها ولم يعرف معناها لم يكفِ. ويسن امتحان الكافر بعد الإسلام بتقريره بالبعث بعد الموت. 3) وقال محمد بن أحمد المعروف بابن النجار (898ﻫ - 972ﻫ) في كتابه (شرح الكوكب المنير): "ومن جهل وجود الله تعالى جلّ وعزّ أو علِمه وفعلَ ما لا يصدر إلا من كافرٍ أو قال ما لا يصدر إلاّ من كافر إجماعاً فهو كافر ولو كان مقرّاً بالإسلام". (شرح الكوكب المنير: 4/385). (القرنُ الحادي عشر) 1) قال الإمام الصنعاني (1059ﻫ - 1182ﻫ) في تطهير الاعتقاد: "ثم إنّ رأس العبادة وأساسها التوحيد لله الذي تفيده كلمته التي إليها دعت جميع الرسل وهو قول لا إله إلاّ الله والمراد اعتقاد معناها لا مجرّد قولها باللسان ومعناها إفراد الله بالعبادة والألوهية والنفي والبراءة من كل معبود دونه". وقال: فإن قلتَ: أفيصير هؤلاء الذين يعتقدون في القبور والأولياء والفسقة والخلعاء مشركين كالذين يعتقدون في الأصنام؟ قلت: نعم قد حصل منهم ما حصل من أولئك وساووهم في ذلك، بل زادوا في الاعتقاد والانقياد والاستعباد فلا فرق بينهم. (تطهير الاعتقاد). (القرنُ الثاني عشر) قال الإمام محمد بن عبد الوهاب (1115ﻫ-1206ﻫ) في (كشف الشبهات): إذا تحققت أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصح عقولاً وأخف شركاً من هؤلاء فاعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا، وهي من أعظم شبههم فأصغ سمعك لجوابها. وهي إنهم يقولون: إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذبون الرسول، وينكرون البعث، ويكذبون القرآن ويجعلونه سحراً، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلي، ونصوم، فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟ فالجواب: أنه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في شئ وكذبه في شئ أنه كافر لم يدخل في الإسلام. وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه، كمن أقر بالتوحيد، وجحد وجوب الصلاة، أو أقر بالتوحيد والصلاة، وجحد وجوب الزكاة، أو أقر بهذا كله وجحد الصوم، أو أقر بهذا كله وجحد الحج. إلى أن قال: فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج، فكيف إذا جحد الإنسان شيئا من هذه الأمور كفر؟ ولو عمل بكل ما جاء به الرسول، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر، سبحان الله! ما أعجب هذا الجهل. (كشف الشبهات: 10، 11) (القرنُ الثالث عشر) 1) قال الإمام عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهّاب (1193 - 1285 ه‍): قوله (من شهد أن لا إله إلاّ الله) أي من تكلّم بها عارفاً لمعناها عاملاً بمقتضاها باطناً وظاهراً، فلا بد في الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولها كما قال الله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ﴾، ﴿إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه من البراءة من الشرك وإخلاص القول والعمل -قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح- فغيرُ نافعٍ بالإجماع. (فتح المجيد: 33). 2) وقال سليمان بن عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهّاب: "وأما قول الإنسان لا إله إلاّ الله من غير معرفة لمعناها ولا عمل به، أو دعواه أنّه من أهل التوحيد وهو لا يعرف التوحيد بل ربّما يخلص لغير الله من عبادته من الدعاء والخوف والذبح والنذر والتوبة والإنابة وغير ذلك من أنواع العبادات فلا يكفي في التوحيد بل لا يكون إلاّ مشركاً والحالة هذه". (تيسير العزيز: 140). (القرنُ الرابع عشر) وقال سيد قطب (ت: 1386ﻫ تقريباً): في ظلال القرآن في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾: "إن سفور الكفر والشرّ والإجرام ضروريّ لوضوح الإيمان والخير والصلاح. واستبانةُ سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات. ذلك أن أيَّ غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتدّ غبشاً وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم، فهما صفحتان متقابلتان وطريقان مفترقان ولا بدّ من وضوح الألوان والخطوط. ومن هنا يجب أن تبدأ كلّ حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، يجب أن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين، ووضع العنوان المميّز للمؤمنين والعنوان المميِّز للمجرمين في عالم الواقع لا في عالم النظريات. فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون، بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم، بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان، ولا تلتبس الملامح والسِّمات بين المؤمنين والمجرمين. وهذا التحديدُ كان قائماً وهذا الوضوح كان كاملاً، يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية. فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدِّين. ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنَزّل وكان الله سبحانه يُفصِّل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة -ومنها ذلك النموذج الأخير- لتستبين سبيل المجرمين !. وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة المتخلفة من الديانات ذات الأصل السماوي بعد ما بدّلتها وأفسدتها التحريفات البشرية، حيثما واجه الإسلام هذه الطوائفَ والمللَ كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة، وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك، لا يجدي معها التلبيس! ولكن المشقّة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا. إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سَلالات المسلمين، في أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام، يسيطر عليها دين الله وتُحكم بشريعته. ثم إذا هذه الأرض، وإذا هذه الأقوام تهجر الإسلام حقيقة، وتعلنه اسماً. وإذا هي تتنكَّر لمقومات الإسلام اعتقاداً وواقعاً. وإن ظنّت أنها تدين بالإسلام اعتقاداً!. فالإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله، وشهادة أن لا إله إلاّ الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله -وحده- هو خالق هذا الكون المتصرّفُ فيه. وأن الله -وحده- هو الذي يتقدّم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله. وأن الله -وحده- هو الذي يتلقَّى منه العباد الشرائعَ ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله. وأيَّما فرد لم يشهد أن لا إله إلاّ الله -بهذا المدلول- فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعدُ. كائناً ما كان اسمه ولَقَبُهُ ونسبه. وأيَّما أرض لم تتحقّق فيها شهادة أن لا إله إلاّ الله -بهذا المدلول- فهي أرض لم تَدِن بدين الله، ولم تدخل في الإسلام بعدُ. وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماءُ المسلمين، وهم من سلالات المسلمين. وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام. ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلاّ الله -بذلك المدلول- ولا الأوطان اليوم تَدين لله بمقتضى هذا المدلول. وهذا أشقّ ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام ! أشقّ ما تُعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلاّ الله، ومدلول الإسلام في جانب، وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر.. أشقّ ما تُعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين، وطريق المشركين المجرمين، واختلاط الشارات والعناوين، والتباس الأسماء والصفات، والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق! ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة، فيعكفون عليها توسيعاً وتمييعاً وتلبيساً وتخليطاً. حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام ! تهمة تكفير "المسلمين"!!! ويُصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألةً المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله!. هذه هي المشقّة الكبرى وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بدّ أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل!. يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين.. ويجب ألاّ تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحقّ والفصل هوادة ولا مداهنة. وألاّ تأخذهم فيها خشية ولا خوف، وألاّ تُقْعِدُهم عنها لومة لائم، ولا صيحة صائح: انظروا! إنهم يكفِّرون المسلمين! إن الإسلام ليس بهذا التميُّع الذي يظنّه المخدوعون! إن الإسلام بيِّن والكفر بيِّن. الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله -بذلك المدلول- فمن لم يشهدها على هذا النحو، ومن لم يُقمها في الحياة على هذا النحو، فحكم الله ورسولِهِ فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين .. المجرمين. ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾. أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة، وأن تتمّ في نفوسهم هذه الاستبانة، كي تنطلق طاقاتهم كلُّها في سبيل الله لا تصدُّها شبهة، ولا يعوِّقها غَبَشٌ، ولا يميّعها لَبْسٌ. فإن طاقاتِهم لا تنطلق إلاّ إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم "المسلمون" وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدُّونهم ويصدُّون الناس عن سبيل الله هم "المجرمون".. كذلك فإنهم لن يحتملوا متاعب الطريق إلاّ إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان. وأنهم وقومهم على مفرق الطريق، وأنهم على ملّة وقومهم على ملّة. وأنهم في دين وقومهم في دين: ]وكذلك نفصِّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين[. (في ظلال القرآن: م 2- ص 1105).